المبحث الرابع: طهارة المسجد الحرام
المبحث الرابع: طهارة المسجد الحرام Ocia1063
وقبل الحديث عن طهارة المسجد الحرام، وما المُراد به يحسن أن نسوق تعريف الطهارة لغةً وشرعاً.

فالطهارة في اللغة:
النظافة حسية أو معنوية.

وشرعاً:
صفة حكمية توجب أن تصحح لموصوفها صحة الصلاة به أو فيه أو معه.          

وعرفت أيضاً بأنها:
صفة حكمية توجب من قامت به رفع حدث أو إزالة خبث في الماء نية واستباحة كل مفتقر إلى طهر في البدلية (48).

وهي كما ترى صفة حكمية توجب أن تصحح لموصوفها صحة الصلاة به أو فيه؛ ولما شرع الله سبحانه وتعالى لعباده أن يتخذوا مكاناً لعبادته يطوفون حوله، ويعتكفون فيه، ويصلون إليه، ومن لوازم العبادة الطهارة في البقعة والثياب، قال تعالى: (يا بني آدم  خذوا زينتكم) (49).          

وبَيَّنَ النبي ﷺ‬ أن مواضع العبادة لا تصلح لشيء من القاذورات والنجاسات؛ وإنما هي لذكر الله والصلاة، كما روى ذلك أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (بينما نحن في المسجد مع رسول الله ﷺ إذ جاء أعرابي, فقام يبول في المسجد, فقال أصحاب رسول الله ﷺ: مه مه! قال: قال رسول الله ﷺ: لا تزرموه، دعوه، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله ﷺ دعاه, فقال  له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيءٍ من هذا البول ولا القذر؛ إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة, وقراءة القرآن) أو كما قال رسول الله ﷺ.          

وهذا عام في جميع أماكن العبادة الصحيحة المشروعة -كان لزاماً على المسلمين تطهيرها وتنظيفها، والعناية بها، ولا شك أن أعظمها شرفاً وحُرمة ومكانة -وهو المسجد الحرام- أولاها بالطهارة والنظافة الحِسِّيَّة والمعنوية؛ ولذا أمر الله خليله ونبيه إبراهيم, وإسماعيل -عليهما السلام- أن يُطهرا البيت الحرام من سائر النجاسات والقاذورات المعنوية والحسية, فقال تعالى: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل) (51).          

ولا يخفى على مسلم أن النجاسات المعنوية كالشرك والكفر ووجود الأوثان ـ أعظم أثراً وأبلغ في التدنيس لأماكن العبادة من النجاسات الحسية؛ وما ذاك إلا لأن النجاسات المعنوية تخالف مقصود العبادة وغايتها، ولا يمكن تنظيفها منها, وتطهيرها إلا بإزالتها, وإبعادها عنها.          

بينما النجاسات الحسية قد تدنس المكان تدنيساً مؤقتاً -كما في خبر الأعرابي السابق- ولا تخالف مقصود العبادة وغايتها.

فما المُراد بالتطهير الذي أمر اللهُ نبييه أن يُطَهّرَا البيت الحرام منه؟ ومن أي شيءٍ يُطهَّر؟ وهل كان قبل بنائه بيتٌ يطهر من الشرك؟ أو أن الأمر جاء بتطهير المكان قبل بناء البيت فيه؟.               

وقد كفانا المفسرون الإجابة على هذه الأسئلة، فابن جرير رحمه الله يقول:
(والتطهير الذي أمرهما الله به في البيت هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه، ومن الشرك بالله، فإن قال قائل: وما معنى قوله: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين)، وهل كان أيام إبراهيم قبل بنائه البيت بيتٌ يطهر من الشرك وعبادة الأوثان في الحرم، فيجوز أن يكونا أُمرا بتطهيره؟ قيل: لذلك وجهان من التأويل، قد كان لكل واحد من الوجهين جماعة من أهل التأويل أحدهما: أن يكون معناه: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن ابنيا بيتي مطهرا من الشرك والريب، كما قال تعالى ذكره: (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار) (52)، فكذلك قوله: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي)، أي ابنيا بيتي على طهر من الشرك بي والريب، فهذا أحد وجهيه، والوجه الآخر منهما: أن يكونا أُمِرَا بأن يُطَهّرَا مكان البيت قبل بنيانه، والبيت بعد بنيانه مما كان أهل الشرك بالله يجعلونه فيه على عهد نوح ومن قبله من الأوثان؛ ليكون ذلك سُنَّة لِمَنْ بعدهما، إذ كان الله تعالى ذكره قد جعل إبراهيم إماماً يقتدي به من بعده) (53).

وقال الفخر الرازي في تفسيره:
(فيجب أن يراد به التطهير من كل أمر لا يليق بالبيت، فإذا كان موضع البيت وحواليه مصلى؛ وجب تطهيره من الأنجاس والأقذار، وإذا كان موضع العبادة والإخلاص لله تعالى؛ وجب تطهيره من الشرك وعبادة غير الله، وكل ذلك داخل تحت الكلام، ثم إن المفسرين ذكروا وجوهاً، أحدها: أن معنى (طَهِّرَا بيتي) ابنياه, وطهّرَاه من الشرك، وأسّسَاهُ على التقوى، كقوله تعالى: (أفَمَنْ أسِّسَ بُنيانَهُ على تقوى من الله) (54).

وثانيها: عرّفا الناس أن بيتي طُهْرَةٌ لهم متى حجّوه, وزاروه, وأقاموا به...

وثالثها: ابنياه, ولا تدعا أحداً من أهل الرّيب والشّرك يُزاحم الطائفين فيه.

ورابعها: نظّفا بيتي من الأوثان والشرك والمعاصي؛ ليقتدي الناس بكما في ذلك.

وخامسها: تطهير مكانه قبل البناء مما كان يلقي فيه أهل الجاهلية من القاذورات) (55).

وقال الشوكاني في فتح القدير:
(والمُراد بالتطهير قيل من الأوثان، وقيل من الآفات والريب، وقيل من الكفار، وقيل من النجاسات وطواف الجنب والحائض وكل خبث.          

والظاهر أنه لا يختص بنوع من هذه الأنواع، وأن كل ما يصدق عليه مُسَمَّى التطهير فهو يتناوله) (56).

وقال ابن عاشور:
(المُراد من تطهير البيت ما يدل عليه لفظ التطهير من محسوس، بأن يحفظ من القاذورات والأوساخ؛ ليكون المتعبد فيه مقبلاً على العبادة دون تكدير، ومن تطهير معنوي, وهو أن يُبْعَد عنه ما لا يليق بالقصد من بنائه من الأصنام والأفعال المُنافية للحق كالعدوان والفسوق، والمنافية للمروءة كالطواف عرياناً دون ثياب الرجال والنساء) (57).

وكلام المفسرين -كما ترى- يتضمَّن أن الله أمر نبيه وخليله إبراهيم, وابنه إسماعيل -عليهما السلام- أن يُطَهّرَا مكان البيت، وأن يبنيا البيت، وأن يُطهراه, وأن يجعلاه طاهراً مطهراً من النجاسات الحِسِّيَّة كالقاذورات، ومن النجاسات المعنوية كالشرك والأوثان، والأفعال المنافية للغاية من إقامته.          

ويجب على ذريتهما ومن اتبعهما على الهُدى أن يقتدوا بهما، وأن يطهروا البيت الحرام من كل النجاسات الحسية والمعنوية.
-----------------------------------
 الهوامش:
48.     التعاريف 1/486.
49.     سورة الأعراف الآية 31.
50.     رواه البخاري في صحيحه 5/2244، ح 5679، ومسلم في صحيحه واللفظ له 1/236، ح 285.
51.     سورة البقرة الآية 125.
52.     سورة التوبة الآية 109.
53.     جامع البيان 1/538.
54.     سورة التوبة109.
55.     مفاتيح الغيب 4/48. بتصرف يسير.
56.     فتح القدير1/206.
57.     التحرير والتنوير 1/712.