المبحث الثالث: المراد بالمسجد الحرام
المبحث الثالث: المراد بالمسجد الحرام Oeo_ao10
أمَرَ اللهُ المؤمنينَ بأن لا يأذنوا للمشركين بالقُرب من المسجد الحرام، قال تعالى: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام) (31) فما المُراد بالمسجد الحرام؟ وهل المُراد به سائر الحرم؟ أو المُراد به المسجد فقط؟.

فأقول:
ورد ذكر المسجد الحرام في كتاب الله خمس عشرة مرة، وقد قال الماوردي -رحمه الله-: (كل موضع ذكر فيه المسجد الحرام فهو الحرم، إلا قوله تعالى: (فول وجهك شطر المسجد الحرام) (32) فهو نفس الكعبة) (33).

وقال النووي -رحمه الله- في المجموع:
(واعلم أن المسجد الحرام قد يُطلق، ويُراد به الكعبة فقط، وقد يُراد به المسجد وحولها معها، وقد يُراد به مكة كلها، وقد يُراد به مكة مع الحرم حولها بكماله، وقد جاءت نصوص الشرع بهذه الأقسام الأربعة، إلى أن قال: ومن الرابع قوله تعالى: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام) (34).

وقد اختلف العلماء في المراد بالمسجد الحرام على أربعة أقوال:
القول الأول: أنه المكان الذي يحرم على الجنب الإقامة فيه.
القول الثاني: أنه مكة.
القول الثالث: أنه الحرم.
القول الرابع: أنه الكعبة، وهو أبعدها.


وقد استعرض هذه الأقوال ابن حزم -رحمه الله- وبَيَّنَ الراجح منها، فقال:
(فواجب أن نطلب مراد الله تعالى بقوله: (حاضري المسجد الحرام)؛ لنعرف من ألزمه الله تعالى الهدي أو الصوم إن تمتع، ممن لم يلزمه الله تعالى ذلك، فنظرنا، فوجدنا لفظة المسجد الحرام لا تخلو من أحد ثلاثة وجوه لا رابع لها: إما أن يكون الله تعالى أراد الكعبة فقط، أو ما أحاطت به جدران المسجد فقط، أم أراد الحرم كله؛ لأنه لا يقع اسم مسجد حرام إلا على هذه الوجوه فقط، فبطل أن يكون الله تعالى أراد الكعبة فقط؛ لأنه لو كان ذلك لكان لا يسقط الهدي إلا عمن أهله في الكعبة، وهذا معدوم وغير موجود، وبطل أن يكون عز وجل أراد ما أحاطت به جدران المسجد الحرام فقط؛ لأن المسجد الحرام قد زيد فيه مرة بعد مرة، فكان يكون هذا الحكم ينتقل ولا يثبت، وأيضاً فكان لا يكون هذا الحكم إلا لمن أهله في المسجد الحرام، وهذا معدوم غير موجود، فإذا قد بطل هذان الوجهان فقد صح الثالث؛ إذ لم يبق غيره، وأيضاً فإنه إذا كان اسم المسجد الحرام يقع على الحرم كله فغير جائز أن يخص بهذا الحكم بعض ما يقع عليه  هذا الاسم دون سائر ما يقع عليه بلا برهان، وأيضاً فإن الله تعالى قد بَيَّنَ علينا، فقال: (يريد الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ)،  فلو أراد اللهُ تعالى بعض ما يقع عليه اسم المسجد الحرام دون بعض لما أهمل ذلك ولَبَيَّنَهُ، أو لكان الله تعالى مُعنّتا لنا غير مُبَيّنٍ علينا ما ألزمنا، ومَعَاذَ الله من أن يظن هذا مسلم، فصح إذ لم يُبَيّنْ اللهُ تعالى أنه أراد بعض ما يقع عليه اسم المسجد الحرام دون بعض، فلا شك في أنه تعالى أراد كل ما يقع عليه اسم المسجد الحرام، وأيضاً فإن الله تعالى يقول: (إنما المشركون نَجَسٌ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا)، فلم يختلفوا في أنه تعالى أراد الحرم كله، فلا يجوز تخصيص ذلك بالدعوى، وَصَحَّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من طريق أبي هريرة وجابر وحذيفة: (جُعِلَتْ لي الأرض مسجداً وطهوراً)، فَصَحَّ أن الحرم مسجد؛ لأنه من الأرض، فهو كله مسجد حرام، فهو المسجد الحرام بلا شك... إلى أن قال: وروينا من طريق مسلم نا علي بن حجر نا علي بن مسهر عن الأعمش عن إبراهيم بن يزيد التيمي أن أباه قال له: سمعت أبا ذر يقول: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أول مسجد وضع في الأرض؟ فقال: (المسجد الحرام).

قال أبو محمد:
فَصَحَّ أنه الحرم كله بيقين لا شك فيه؛ لأن الكعبة لم تُبْنْ في ذلك الوقت، وإنما بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قال عز وجل: (وإذ يرفعُ إبراهيمُ القواعدَ من البيتِ وإسماعيلُ)، ولم يُبْنْ المسجد حول الكعبة إلا بعد ذلك بدهر طويل) (35).

وتناول الشيخ الدكتور إبراهيم الصبيحي هذه المسألة بالدراسة والتحليل في كتابه:
المسائل المشكلة من مناسك الحج والعمرة فقال بعد أن أورد كلام أهل العلم في هذه المسألة:
(هذه نصوص أهل العلم، والمسألة خلافية كما ترى، إلا أن الظاهر أن المراد به عموم الحرم؛ لأن اسم المسجد الحرام إذا أطلق في القرآن فالظاهر أنه يراد به العموم كما سبق نقل ذلك عن العلامة ابن القيم -رحمه الله-.

وأن أصرح الآيات في ذلك قول الله تعالى:
1 ـ(واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين) (36).

2 ـ وقوله تعالى: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله) (37).

3 ـ وقال تعالى: (إن الذين كفروا ويصدُّون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواءً العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلم نذقه من عذابٍ أليمٍ) (38).

فهذه ثلاث آيات من كلام الله تعالى تدل على أن المُراد بالمسجد الحرام: الحرم كله؛ إذ لا يصح أن يقال: إن مقاتلة الكفار لا تصح في الحرم حتى يقاتلوا المسلمين داخل المسجد المحيط بالكعبة.

كما لا يصح أن يُقال:
إن المراد بقوله: (وإخراج أهله منه)، إخراجهم من نفس المسجد، لما عرف من أن المسجد المحيط بالكعبة ليس محلا للسكن، بل المراد إخراجهم من الحرم، وهذا ما حصل للمهاجرين -رضوان الله عليهم- فقد أخرجوا من الحرم، وليس من المسجد.

كما لا يصح أن يُقال:
إن التسوية بين العاكف والباد لا تحصل إلا داخل المسجد، وأن التوعد على مريد الإلحاد والظلم لا يحصل -أيضاً- إلا داخل المسجد، وأمَّا في سائر الحرم فالحكم فيه كالحكم في سائر البلدان؛ بل الصحيح أن التسوية بين العاكف والباد حاصلة لِمَنْ داخل الحرم، وكذا التوعد على مُريد الإلحاد والظلم، فهذه الآيات دالة على أن المُراد بالمسجد الحرام الحرم كله) (39).  

وورد سؤال إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية, نصه كما يلي:
(هل ثواب الصلاة في مكة كلها مضاعف مثل الصلاة في المسجد الحرام نفسه.

فأجابت اللجنة بما يلي:
في المسألة خلاف بين أهل العلم، والأرجح أن المُضاعفة للثواب تَعُمُّ الحرم كله؛ لأنه كله يطلق عليه المسجد الحرام) (40).   

وقيل لعطاء:
هذا الفضل الذي يذكر في المسجد الحرام وحده, أو في الحرم؟ قال: لا, بل في الحرم؛ فإن الحرم كله مسجد (41).

وبعد هذا التوضيح لبيان المُراد بالمسجد الحرام، وأن المُراد به الحرم كله، يحسن بنا أن نذكر حُدُودَ الحرم؛ حتى يكون القارىء على بصيرة من المواضع التي تنطبق عليها أحكام الحرم، وقد عُني بها المتقدمون والمتأخرون؛ لكثرة ما يتعلق بها من أحكام، قال الإمام النووي ـ رحمه الله: (ومعرفة حدود الحرم من أهم ما يعتني به؛ لكثرة ما يتعلق به من الأحكام، وقد اجتهدت في إيضاحه، وتتبع كلام الأئمة في إتقانه على أكمل وجوهه -بحمد الله تعالى- فحد الحرم من جهة المدينة دون التنعيم، عند بيوت بني نفار (42)، على ثلاثة أميال من مكة، ومن طريق اليمن طرف أضاة (43) لبن (44)، على سبعة أميال من مكة، ومن طريق الطائف على عرفات من بطن نمرة على سبعة أميال، ومن طريق العراق على ثنية جبل بالمقطع على سبعة أميال، ومن طريق الجعرانة في شعب آل عبد الله بن خالد على تسعة أميال، ومن طريق جدة منقطع الأعشاش على عشرة أميال من مكة، هكذا ذكر هذه الحدود أبو الوليد الأزرقي في كتاب مكة، وأبو الوليد هذا أحد أصحاب الشافعي الآخذين عنه، الذين رووا عنه الحديث والفقه، وكذا ذكر هذه الحدود الماوردي صاحب الحاوي في كتابه الأحكام السلطانية، وكذا ذكرها المصنف، وأصحابنا في كتب المذهب، إلا أن عبارة بعضهم أوضح من بعض) (45).

وأعدَّ فضيلة الدكتور عبد الملك بن دهيش دراسة متكاملة عن حدود الحرم (46) ضمنها صوراً وخرائط ومخططات جوية من واقع القياسات الميدانية؛ ليتمكن من تحديد المسافة التي تبلغها دائرة الحرم، وقد قام بقياسها من واقع الطرق القديمة والحديثة.

وخلص إلى التحديد التالي:
أولاً: من خلال الطرق القديمة إلى مكة:
1 ـ من جدار المسجد الحرام إلى أعلام منطقة التنعيم بلغت (6,150) ستة أكيال ومئة وخمسين متراً.
2 ـ من جدار المسجد الحرام إلى أعلام منطقة ثنية النقوى، الموصلة للجعرانة (18) ثمانية عشر كيلاً.
3 ـ من جدار المسجد الحرام إلى أعلام منطقة ثنية خلّ (أو جبل المَقْطَع) طريق الطائف نجد العراق السريع (12,850) اثنا عشر كيلاً وثمانمئة وخمسون متراً.
4 ـ من جدار المسجد الحرام إلى أعلام عرنة طريق الطائف القديم الملغى الآن (15,400) خمسة عشر كيلاً وأربعمائة متر.
5 ـ  من جدار المسجد الحرام إلى أعلام طريق اليمن القديم (17) سبعة عشر كيلاً.
6ـ من جدار المسجد الحرام إلى أعلام الحديبية (الشُّمَيسي) على طريق جدة القديم (20) عشرون كيلاً.

ثانياً من خلال الطرق الحديثة:
1 ـ من جدار المسجد الحرام إلى أعلام طريق جدة الذي يخترق حنك الغراب (أو ما يسمى أظلم الغربي) (22) اثنان وعشرون كيلاً.
2 ـ من جدار المسجد الحرام إلى أعلام طريق الليث اليمن الجديد (17) سبعة عشر كيلاً.
3 ـ  من جدار المسجد الحرام إلى أعلام طريق الطائف الهدا الجديد المار قرب قرن العابدية (15,5) خمسة عشر كيلاً ونصف الكيل (47).
-----------------------------------------
الهوامش:
31.     المجموع 3/189.
32.     سورة البقرة الآية 144.
33.      حاشية كفاية المحتاج ص 106.
34.     المجموع 3/189.
35.     المحلى 7/147-149. وانظر فتح الباري 3/64 وعمدة القارىء 7/254، هداية السالك 2/ 922، والمغني 9/286-287.
36.     سورة البقرة الآية 191.
37.     سورة البقرة الآية 217.
38.     سورة الحج الآية 25.
39.     المسائل المشكلة من مناسك الحج والعمرة ص 107 – 108.
40.     فتاوى اللجنة الدائمة 6/223-224، ورقم الفتوى 6267.
41.     الدر المنثور 2/269.
42.     انظر بحث بعنوان: غفار ونفار في حدود الحرم، لعبد الملك بن عبد الله بن دهيش، نشر في مجلة العرب السعودية، العدد 5،6 عام 1416هـ، ص 415-416.
43.     أضا الأضاة الغدير، الأضاة الماء المستنقع من سيل أو غيره. لسان العرب مادة أضا 14/38.
44.     لبن بالكسر بلفظ اللبن الذي يبنى به وفيه لغتان لبن بسكون الباء وهو لفظ هذا الموضع ولبن بكسر الباء أضاة لبن من حدود الحرم على طريق اليمن معجم البلدان 5/12.
45.     المجموع ج: 7 ص 384-385 . وانظر الكافي في فقه الإمام أحمد 4/363.
46.    هذه الدراسة بعنوان الحرم المكي الشريف والأعلام المحيطة به. دراسة تاريخية وميدانية. نشر مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة.
47.     مجلة العرب عدد رجب وشعبان سنة 1416هـ، ص 27-28.