المَبْحَث التاسع: معجزاته -صلى الله عليه وسلم- سِوى القرآن الكريم
لَمّا كان القرآن أعظَم مُعجِزات النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، كما تقدَّم، فنُشير إلى أنواع مُعجِزاته -صلى الله عليه وسلم- الْمُتَعَلِّقَةُ بِالقُدْرَة والفِعْل والتّأثير.
أنواع مُعجزاته -صلى الله عليه وسلم-:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وآياته -صلى الله عليه وسلم- الْمُتَعَلِّقَةُ بِالقُدْرَة والفِعْل والتّأثير أنواع (283).
الأول منها: ما هو في العالَم العُلويّ؛ كانْشقاقِ القَمَر، وحِرَاسةِ السماء بالشُّهبِ الحراسةَ التّامةَ لَمّا بُعِث، وكَمِعْرَاجه إلى السماء.
والنوع الثاني: آيات الْجَوّ؛ كَاسْتِسْقَائه -صلى الله عليه وسلم-، واستِصْحَائه (284)، وطاعةِ السَّحَابِ له، ونُزُولِ المطَرِ بِدُعائه -صلى الله عليه وسلم-، كما في حديث أنس رضي الله عنه (285)، وفيه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دَعَا وهو على المنبر يوم الجمعة فَنَزَل المطر أسبوعا كاملا، ثم دَعَا الجمعة التي تَلِيها، فتوقّف نُزول المطَر.
والنوع الثالث: تَصَرّفه في الحيوان: الإنس، والجن، والبهائم؛ وذَكَرَ شيخ الإسلام ابن تيمية مُخاطَبَته -صلى الله عليه وسلم- للحَيوانِ والطَّيْر والْجِنّ.
وذَكَر حديثَ سَفِينَةَ مَوْلى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: رَكِبتُ البَحر في سفينة، فانْكَسَرتْ، فَرَكِبت لَوْحًا مِنها فطَرَحَني في أَجَمَةٍ فيها أسَدٌ، فلم يَرُعْني إلاّ بِهِ، فقلت: يا أبا الحارِث، أنا مَولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فطأطأ رأسه، وغمَز بِمَنْكِبه شِقِّي، فمَا زَال يَغْمِزني، ويَهْدِيني إلى الطريق، حتى وَضَعَني على الطريق فلمّا وَضَعَني هَمْهَم، فَظَنَنْتُ أنه يُوَدّعِنُي (286).
وفي حديث عثمانَ بنِ أبي العاصِ رضي الله عنه قال: يا رسولَ الله عَرَض لي شيء في صَلَواتي حتى ما أدري ما أُصَلّي. قال: ذاك الشيطانُ، أدْنُه، فَدَنَوتُ منه، فجَلَسْتُ على صُدور قَدمَيّ، قال: فضَرب صَدْرِي بِيدِه، وتفَل في فَمِي، وقال: اخْرُج عدو الله -ففعل ذلك ثلاثَ مراتٍ- ثم قال: اِلْحَقْ بِعمَلك. فقال عثمان: فَلعَمْري ما أحسَبُه خالَطَني بَعد (287).
ولَمّا دَخَل النبي -صلى الله عليه وسلم- حائطَ رَجلٍ مِن الأنصار فإِذا جَمَلٌ، فلمّا رأى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- حَنَّ وذرفتْ عَيْنَاه، فأتاه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فمَسَحَ ذِفْراه (288)، فسَكَتَ، فقال: مَن رَبُّ هَذَا الجمَلِ؟  لِمَن هذا الجملُ؟  فجاء فتًى مِن الأنصار فقال: لي يارسولَ اللَّه، فقال: أفلا تَتّقِي اللهَ في هذه البَهِيمَة التي مَلَّكَكَ اللَّهُ إياها؟  فإنه شَكَا إلَيَّ أنك تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ (289).
وحَدَّث عبدُاللَّه بنُ مَسْعُود رضي الله عنه فقال: كُنّا مع رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- في سَفَر، فانطلقَ لِحَاجَته، فَرَأينا حُمّرةً معها فَرْخَان، فأخذنا فَرْخَيها، فجاءت الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفرُش (290)، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: مَن فَجَع هذه بِوَلدِها؟  رُدّوا وَلدَها إليها. ورأى قَرية نَمْل قد حَرَقناها، فقال: مَن حَرَق هذه؟  قلنا: نحن، قال: إنه لا يَنْبَغي أن يُعذِّبَ بالنارِ إلاّ ربُّ النار (291).
وفي رواية: كُنّا مع رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- في سَفر، فَدخل رَجُل غَيضةً فأخْرَج منها بَيضةَ حُمّرةٍ، فجاءت الحُمّرةُ تَرِفُّ على رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فقال: أيكُّم فَجَعَ هذه؟ فقال رَجُل مِن القوم: أنا أخذتُ بَيضتَها، فقال: رُدّه رُدّه، رَحْمَةً لها (292).
والنوعُ الرابع:  آثارُهُ في الأشجارِ والخشَب؛ وذَكَر شيخ الإسلام ابن تيمية حديث حَنِين الْجِذع (293)، وتقدَّم أيضا اسْتِجَابَة الشَّجَر له -صلى الله عليه وسلم- (294).
والنوعُ الخامس: آثاره في الماء والطعام والثمار، حيث كان يَكْثر بِبَرَكَته فَوق العادة. وذَكَر شيخ الإسلام ابن تيمية تكثِيره -صلى الله عليه وسلم- للطَّعام والشَّرَاب والثِّمَار.
فمن ذلك:
أنه -صلى الله عليه وسلم- دعا وبارَك في طعام قليل، فكَفَى أَلْفَ شخص، وذلك يومُ الخندق.
قال جابر: فأقْسِمُ بالله لقد أكَلوا حتى ترَكُوه وانْحَرَفُوا، وإن بُرْمَتِنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِي، وإنّ عَجِينَتَنَا لَتُخْبَزُ كما هِي (295).
قال النووي: وقد تضمن هذا الحديث عَلَمَين مِن أعلام النبوة:
أحدهما: تكثيرُ الطعام القليل.
والثاني: عِلمُه -صلى الله عليه وسلم- بأنّ هذا الطعام القليل الذي يَكفي في العادة خمسة أنفس أو نحوهم سيكثر فيَكفِي ألفًا وزيادة، فَدَعَا له ألفًا قَبْل أن يَصِل إليه وقد عَلِم أنه صَاعُ شَعِيرٍ وَبُهَيْمَة (296).
وفي حديث أنس رضي الله عنه: أُتِيَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِإنَاء وهو بالزَوراء، فوَضع يَده في الإناء، فَجَعَل الماءُ يَنبعُ مِن بين أصابِعه، فتَوضّأ القَوم. قال قتادةُ: قلت لأنس: كَم كُنتم؟  قال: ثلاثمائة أو زُهاءُ ثلاثمائة (297).
وفي حديث جابر رضي الله عنه: رَأَيْتُنِي مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ حَضَرَتِ العَصْرُ، وَلَيْسَ مَعَنَا مَاءٌ غَيْرَ فَضْلَةٍ، فَجُعِلَ فِي إِنَاءٍ فَأُتِيَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِهِ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ وَفَرَّجَ أَصَابِعَهُ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى أَهْلِ الوُضُوءِ، البَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ. قال جابر: فَلَقَدْ رَأَيْتُ المَاءَ يَتَفَجَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، فَتَوَضَّأَ النَّاسُ وَشَرِبُوا. قال سَالِمُ بْنُ أَبِي الجَعْدِ: قُلْتُ لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟  قَالَ: أَلْفًا وَأَرْبَعَ مِائَةٍ (298).
وفي قِصة دَيْن عبدالله بن حَرَام رضي الله عنه -والِد جابر بن عبدالله رضي الله عنهما- قَال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لِجَابر رضي الله عنه: اذْهَبْ فَبَيْدِرْ (299) كُلَّ تَمْرٍ عَلَى نَاحِيَةٍ، فَفَعَلْتُ ثُمَّ دَعَوْتُهُ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ كَأَنَّهُمْ أُغْرُوا بِي تِلْكَ السَّاعَةَ  فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ أَطَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا بَيْدَرًا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لَكَ أَصْحَابَكَ. فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى اللَّهُ عَنْ وَالِدِي أَمَانَتَهُ، وَأَنَا أَرْضَى أَنْ يُؤَدِّيَ اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي، وَلاَ أَرْجِعَ إِلَى أَخَوَاتِي بِتَمْرَةٍ، فَسَلَّمَ اللَّهُ الْبَيَادِرَ كُلَّهَا وَحَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْبَيْدَرِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- كَأَنَّهَا لَمْ تَنْقُصْ تَمْرَةً وَاحِدَةً (300).
وأمَّا النوع السادس: فتَأثيرُه في الأحجارِ، وتصَرُّفُه فيها، وتسخيرُها له.
وتقدَّم تَسْلِيم الحَجَر عليه -صلى الله عليه وسلم-، ومُخاطَبَته -صلى الله عليه وسلم- لِجَبَل أُحُد (301).
والنوع السابع: تأييدُ اللهِ له بملائكته.
قال الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [(8)الأنفال: 9]، وقال تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آَلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [(3) آل عِمران: 124، 125].
وفي الصحيحين -واللفظ لِمُسْلِم- عن ابن عباس عن عُمر بن الخطاب قال: لَمّا كان يوم بَدْر نَظَر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثُ مِئَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عزّ وَجَلّ-: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [(8) الأنفال: 9]، فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلاَئِكَةِ.
قال ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقَّ وَجْهُهُ، كَضَرْبَةِ السَّوْطِ فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الأَنْصَارِيُّ، فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ. فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ (302).
والنوع الثامن: في كفايةِ اللهِ له أعداءَه، وعِصْمَتِه له مِن الناس.
فقد عَصَمَه الله مِن مَكْر اليهود، ففي حديث أَنَسٍ، أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ؟  فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لأَقْتُلَكَ، قَالَ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكِ، قَالَ: أَوْ قَالَ، عَلَيَّ (303).
وحَفظه الله وحَرَسَه مِن كَيد المشرِكين وبَطْشِهم.
قال أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟  فَقِيلَ: نَعَمْ، فَقَالَ: وَاللاَّتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، أَوْ لأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، قَالَ: فَأَتَى رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُصَلِّي، زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلاَّ وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟  فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلاً وَأَجْنِحَةً.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: لَوْ دَنَا مِنِّي لاَخْتَطَفَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا (304).
وهذا فيه: كفايةِ اللهِ لِنَبِيّه -صلى الله عليه وسلم- أعداءَه، وعِصْمته له مِن الناس، وتأييده له بالملائكة.
وعَصَمَ الله رَسُوله مِن مُؤامَرات الْمُشْرِكِين.
ففي حديث ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمَلأَ مِنْ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ، فَتَعَاهَدُوا بِاللاّتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الأُخْرَى: لَوْ قَدْ رَأَيْنَا مُحَمَّدًا، قُمْنَا إِلَيْهِ قِيَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ نُفَارِقْهُ حَتَّى نَقْتُلَهُ، قَالَ: فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَبْكِي حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى أَبِيهَا، فَقَالَتْ: هَؤُلاءِ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِكَ فِي الْحِجْرِ، قَدْ تَعَاهَدُوا: أَنْ لَوْ قَدْ رَأَوْكَ قَامُوا إِلَيْكَ فَقَتَلُوكَ، فَلَيْسَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاَّ قَدْ عَرَفَ نَصِيبَهُ مِنْ دَمِكَ، قَالَ: "يَا بُنَيَّةُ أَدْنِي وَضُوءًا " فَتَوَضَّأَ  ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمُ الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ، قَالُوا: هُوَ هَذَا، هُوَ هَذَا. فَخَفَضُوا أَبْصَارَهُمْ، وَعُقِرُوا فِي مَجَالِسِهِمْ، فَلَمْ يَرْفَعُوا إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ، وَلَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ رَجُلٌ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى قَامَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ، فَحَصَبَهُمْ بِهَا، وَقَالَ: "شَاهَتِ الْوُجُوهُ" قَالَ: فَمَا أَصَابَتْ رَجُلا مِنْهُمْ حَصَاةٌ إِلاّ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا (305).
والنوع التاسع مِن مُعجِزاته -صلى الله عليه وسلم-: إجابةِ دعوتِه.
تقدَّم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دَعَا ربَّه يوم بَدْر (306)، وأن الله استجاب دُعاءه، ودَعَا في طلب الْمَطَر ورَفعه، فاستجاب دعاءه (307).
ودَعا على قريش فقال: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ (308)؛ فأجَاب الله دَعوته.
ودَعا على ابن أبي لهب، فاستجاب الله دُعاءه.
كَانَ لَهَبُ بْنُ أَبِي لَهَبٍ يَسُبُّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبَكَ "فَخَرَجَ فِي قَافِلَـةٍ يُرِيـدُ الشَّامَ، فَنَزَلَ مَنْزِلاً، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ دَعْوَةَ مُحَمَّـدٍ، قَـالُوا لَهُ: كَـلاّ، فَحَطُّـوا مَتَاعَهُمْ حَوْلَــهُ وَقَعَدُوا يَحْرُسُونَهُ، فَجَاءَ الأَسَدُ فَانْتَزَعَهُ، فَذَهَبَ بِهِ" (309).
وإجابات دعواته -صلى الله عليه وسلم- وقَعَت كثيرا.
والنّوع العاشِر -مما لم يَذكره شيخ الإسلام ابن تيمية-: تحقق وَعْده، وتَصدِيق الله له في حال حياته وبعد وفاته -صلى الله عليه وسلم-.
ومن ذلك: أنه أخْبَر بِمَصَارِع أعدائه، وأشار إلى أماكِن قَتْلِهم؛ فكان كما أخبر -عليه الصلاة والسلام-.
قال أنس رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يوم بَدْر: هَذَا مَصْرَعُ فُلانٍ، قَالَ: وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى الأَرْضِ: هَـاهُنَا، هَاهُنَا، قَالَ: فَمَا مَاطَ أَحَدُهُمْ عَنْ مَوْضِعِ يَدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- (310).
قال النووي: قوله: "فَمَا مَاطَ أَحَدُهُمْ" أَيْ: تَبَاعَدَ (311).
والمعنى: أنه ما تجاوز أحدٌ منهم الموضِع الذي حَدّده النبي -صلى الله عليه وسلم- لِمَقْتلِه فيه وتَوعَّد الْمُشرِك أن يَقْتُله؛ فَقَتَلَه
ولَمّا جَاءَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِعَظْمِ حَائِلٍ، فَقَالَ: اللَّهُ مُحْيِي هَذَا يَا مُحَمَّدُ وَهُوَ رَمِيمٌ؟  وَهُوَ يَفُتُّ الْعَظْمَ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: يُحْيِيهِ اللَّهُ، ثُمَّ يُمِيتُكَ، ثُمَّ يُدْخِلُكَ النَّارَ. قَالَ الزهري: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَالَ: وَاللَّهِ لأَقْتُلَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا رَأَيْتُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (312).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان أكمَل الناس في هذه الشجاعة، التي هي المقصودة في أئمة الْحَرَب، ولم يَقتُل بِيدِه إلاّ أُبَيّ بن خَلَف، قَتَلَه يوم أُحُد، ولم يَقْتل بِيدِه أحدًا لا قَبْلها ولا بَعدها (313).
وقال ابن القيم: وَأَقْبَلَ أُبَيّ بن خَلَف عَدُوُّ اللَّهِ، وَهُوَ مُقَنَّعٌ فِي الْحَدِيدِ، يَقُولُ: لا نَجَــوْتُ إِنْ نَجَا مُحَمَّدٌ، وَكَانَ حَلَفَ بِمَكَّةَ أَنْ يَقْتُلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَاسْتَقْبَلَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، فَقُتِلَ مصعب، وَأَبْصَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَرْقُوَةَ أُبَيّ بن خَلَف مِنْ فُرْجَةٍ بَيْنَ سَابِغَةِ الدِّرْعِ وَالْبَيْضَةِ، فَطَعَنَهُ بِحَرْبَتِهِ، فَوَقَعَ عَنْ فَرَسِهِ، فَاحْتَمَلَهُ أَصْحَابُهُ، وَهُوَ يَخُورُ خُوَارَ الثَّوْرِ، فَقَالُوا: مَا أَجْزَعَكَ؟  إِنَّمَا هُوَ خَدْشٌ، فَذَكَرَ لَهُمْ قَوْلَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ -تَعَالَى-. فَمَاتَ بِرَابِغ (314).
وأمَّا ما بعد وفاته (315) -صلى الله عليه وسلم-؛ فهو كثير، ومِنه: أنه -صلى الله عليه وسلم- أخْبَر بِخُروج نار مِن أرض الحجاز، فَوَقَع ما أخبر به بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- بأكثر مِن (600) سَنة.
وفي الحديث: لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الحِجَازِ تُضِيءُ أَعْنَاقَ الإِبِلِ بِبُصْرَى (316).