المَبْحَث الخامس: النسخ في القرآن الكريم
النَّسْخ في القرآن:
"الناسِخ: هو الْخِطَاب الدَّالّ على ارتفاع الْحُكْم الثابِت بِالْخِطَاب الْمُتقدِّم على وَجْه لَوْلاه لَكان ثَابِتا مع تَرَاخِيه عنه.
والْمَنْسُوخ: هو الْحُكْم الزّائل بعد ثَبَاته بِخِطاب مُتَقَدِّم بِخِطاب وَاقِع بَعدَه مُتَرَاخٍ عنه دالّ على ارتفاعه على وَجْه لَوْلاه لكان ثَابِتًا " (165).
والنَّسْخ ثابت في القرآن وفي الشرائع السابقة.
قال الله تبارك وتعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [(2) البقرة: 106].
وقال الله -عزّ وَجَلّ-: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [(16) النحل: 101].
ونَقَل القرطبي عَن الْجُمْهُور في قَوله تَعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ}: (نَسَخْنَا آيَةً بِآيَةٍ أَشَدَّ مِنْهَا عَلَيْهِمْ. وَالنَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ: رَفْعُ الشَّيْءِ مع وَضْع غير مَكَانَهُ) (166).
قال البغوي: (يَعْنِي: وَإِذَا نَسَخْنَا حُكْمَ آيَةٍ فَأَبْدَلْنَا مَكَانَهُ حُكْمًا آخَرَ. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} أَعْلَمُ بِمَا هُوَ أَصْلَحُ لِخَلِقِهِ فِيمَا يُغَيِّرُ وَيُبَدِّلُ مِنْ أَحْكَامِهِ. {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ} يَا مُحَمَّدُ. {مُفْتَرٍ} مُخْتَلِقٌ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَسْخَرُ بِأَصْحَابِهِ يَأْمُرُهُمُ الْيَوْمَ بِأَمْرٍ وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ غَدًا، مَا هُوَ إِلَّا مُفْتَرٍ يَتَقَوَّلُهُ مِنْ تلقاء نفسه، قال اللَّهِ: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} حَقِيقَةَ الْقُرْآنِ، وَبَيَانَ النَّاسِخِ مِنَ المنسوخ) (167).
والنَّسْخ وَارِد في الشّرَائع السّابِقة.
قال ابن عبدالبر: (وقد أنكر قوم مِن الرّوافض والخوراج النَّسْخَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَضَاهَوْا فِي ذَلِكَ قَوْلَ الْيَهُودِ) (168).
وقال القرطبي: (أَنْكَرَتْ طَوَائِفُ مِنَ الْمُنْتَمِينَ لِلإِسْلامِ الْمُتَأَخِّرِينَ جَوَازَهُ، وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ السَّابِقِ عَلَى وُقُوعِهِ فِي الشَّرِيعَةِ.
وَأَنْكَرَتْهُ أَيْضًا طَوَائِفُ مِنَ الْيَهُودِ، وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِمَا جَاءَ فِي تَوْرَاتِهِمْ بِزَعْمِهِمْ: أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَالَ لِنُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلامُ- عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ السَّفِينَةِ: إِنِّي قَدْ جَعَلْتُ كُلَّ دَابَّةٍ مَأْكَلاً لَكَ وَلِذُرِّيَّتِكَ، وَأَطْلَقْتُ ذَلِكَ لَكُمْ كَنَبَاتِ الْعُشْبِ، ما خَلا الدّم فلا تَأكُلوه. ثم قد حَرَّمَ عَلَى مُوسَى وَعَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثِيرًا مِنَ الْحَيَوَانِ، وَبِمَا كَانَ آدَمُ -عَلَيْهِ السَّلامُ- يُزَوِّجُ الأَخَ مِنَ الأُخْتِ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلامُ- وَعَلَى غَيْرِهِ، وَبِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ أُمِرَ بِذَبْحِ ابْنِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: لا تَذْبَحْهُ، وَبِأَنَّ مُوسَى أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَقْتُلُوا مَنْ عَبَدَ مِنْهُمُ الْعِجْلَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِرَفْعِ السَّيْفِ عَنْهُمْ، وَبِأَنَّ نُبُوَّتَهُ غَيْرُ مُتَعَبَّدٍ بِهَا قَبْلَ بَعْثِهِ، ثُمَّ تُعُبِّدَ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ) (169).
وقال ابن كثير: (وَالْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ -تَعَالَى-؛ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ الْبَالِغَةِ، وَكُلُّهُمْ قَالَ بِوُقُوعِهِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الأَصْبَهَانِيُّ الْمُفَسِّرُ: لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ هَذَا ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ مَرْذُولٌ) (170).
والنَّسْخ خاص بالأحكَام؛ فالأخْبَار والعقائد لا يَدخلها النَّسْخ؛ لأنها لا تَتَغيَّر ولا تَتَبدَّل.
قال ابن عبدالبر عن النَّاسِخ وَالْمَنْسُوخ: (وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وأمَّا فِي الْخَبَرِ عَنِ اللَّهِ -عزّ وَجَلّ- أَوْ عَنْ رَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلا يَجُوزُ النَّسْخُ فِي الأَخْبَارِ الْبَتَّةَ) (171).
قال ابن الجوزي: (النّسخ إنما يَقَع في الأمر والنهي دون الْخَبَر الْمَحْض) (172).
وقال القرطبي: (النَّسْخ في الأخبار لا يَجُوز، لاسْتِحَالَةِ تَبَدُّل الوَاجِبَات العَقْلِيّة، ولاسْتِحَالَة الكَذِب على الله تَعالى) (173).
وقال الشاطبي: (والأخْبار لا يَدخلها النَّسْخ) (174).
ومما يُستَدَلّ به على النَّسْخ: مَا كان حَلالاً لِبني إسرائيل ثم حُرِّم عليهم لَمّا حَرَّمه يَعقوب -عليه الصلاة والسلام- على نفسه.
قال الله تبارك وتعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [(3) آل عمران: 93] (175).
أنواع النَّسْخ في القرآن:
1- ما نُسِـــخَت تِلاوتــه وبَقِي حُكْمه. مثاله (176): آية الرَّجْم. قال عُمر رضي الله عنه: (إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ آيَةَ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا؛ رَجَمَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: وَاللهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللهِ! فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ) (177).
2- ما نُسِخَت تِلاوته وحُكْمه. مثاله: قول عائشة رضي الله عنها: (كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ، بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ) (178).
3- ما نُسِخَ حُكْمه وبَقِيَت تِلاوته. مثاله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [(2)البقرة: 219] نَسَخَتْها آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [(5) المائدة: 90].
4-  ما نُسِخَ حُكْمه إلى غير بَدَل. مثاله: قوله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [(60) الممتحنة: 11].
قال ابن الجوزي: دلّ على أن الأحكام المذكورة في الآية مِنْ أَدَاءِ الْمَهْرِ وَأَخْذِهِ مِنَ الْكُفَّارِ وَتَعْوِيضِ الزَّوْجِ مِنَ الْغَنِيمَةِ أَوْ مِنْ صَدَاقٍ قَدْ وَجَب رَدّه على أهل الْحَرْب: مَنْسُوخ، وقد نص أحمد على هذا. قال مُقاتل: كُلّ هذه الآيات نُسِخَت بِآية السَّيْف (179).
5-  التخصيص؛ وهو ما يَعتَبِره بَعض العلماء نَسْخًا، ويَعتبِره البعض الآخَر تَخْصِيصًا.
ومثاله: آيات الصيام: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [(2) البقرة: 184] نَسَخَتْها التي بعدها: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. وابن عباس رضي الله عنهما يقول: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا (180).
قال ابن حَجَر: هذا مذهب ابن عباس، وَخَالَفَه الأكثر (181).
ومِن حِكَم النَّسْخ:
1-    التَّدَرّج في التّشْرِيع، كما في تَحريم الخَمْر.
2-    التذكير بِنِعْمة الله تعالى في بعض أنواع النسخ، خاصة الذي يكون فيها النّسْخ مِن أثقل إلى أخَفّ، كما في نَسْخ قِتال الواحِد لِعَشَرة (182).
قال عَلَم الدِّين السَّخَاوي: (وحِكْمَة النّسْخ: اللطف بالعباد، وحَمْلُهم على ما فيه إصلاح لهم. ولم يزل الباري عز وجل عَالِمًا بالأمر الأول والثاني، وبِمُدّة الأول، وابْتِدَاء مُدّة الثاني قبل إيجاد خَلْقِه، وتَكْلِيفهم ذلك، ونَقْلهم عنه إلى غيره) (183).
3-    الدّلالة على سَعة عِلْم الله ورَحمته، فإن الله لَمّا نَسَخ قِتال الواحِد لِعشرة مِن الكفّار قال: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [(8) الأنفال: 65، 66].
4-    اخْتِبار إيمان مَن آمَن، وتَمْييز الخَبِيث مِن الطّيّب، قال الله -عزّ وَجَلّ-: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [(3) آل عِمران: 179].
وقال الله تبارك وتعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [(47) محمد: 20، 21].
فإن القِتال لم يُشْرَع ابتداء في مكّة، وإنما شُرِع في المدينة على مَرَاحِل.
5-    بَقاء "ثواب التلاوة والامتثال" (184) لأمْر الله -عزّ وَجَلّ-.
كيف يَعرِف الصحابة رضي الله عنهم ما نُسِخ مِن الآيات، فلا يَكتُبونه في المصاحِف؟
الجواب: قد تَكَفّل الله -عزّ وَجَلّ- بِحِفظ كِتابه، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [(15) الحجر: 9].
ومَعرِفة ما نُسِخَت تِلاوته وتَبيِينه للصَّحَابة مِن البَيَان الوارِد في قَوله -عزّ وَجَلّ-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [(16) النحل: 44] "أَرَادَ بِالذِّكْرِ الْوَحْيَ، وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مُبَيِّنًا لِلْوَحْيِ، وَبَيَانُ الْكِتَابِ يُطْلَبُ مِنَ السُّنَّةِ" (185).
فلا بُدّ مِن بَيَان ما نُسِخَتْ تِلاوَته للصحابة رضي الله عنهم.
وما تُنسَخ تلاوته يُرفَع؛ فلا يبقى لا في الصّدُور ولا في السّطُور.
قال الله -عزّ وَجَلّ-: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [(2) البقرة: 106]. كَانَ يُنْسَخُ الْآيَةُ بِالْآيَةِ بَعْدَهَا، وَيَقْرَأُ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الآيَةَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ تُنْسَى وَتُرْفَعُ (186).
ثمّ إن الأمّة أجْمَعَتْ على هذا القُرآن، وقد عَصَم الله الأمّة أن تَجْتَمِع على ضلالة؛ لِقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ لا يَجْمَعُ أُمَّتِي -أَوْ قَالَ: أُمَّةَ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- - عَلَى ضَلالَةٍ) (187).
وكان الصحابة رضي الله عنهم يَعرِفون انقضاء السورة بِنُزول "بسم الله الرحمن الرحيم"، فهي التي تَفصِل بَيْن السُّوَر.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كَانَ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- لاَ يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى تُنَزَّلَ عَلَيْهِ: بسم الله الرحمن الرحيم) (188).
وفي روايـة: (كان المســلمون لا يَعلَمُــون انقِضاء السّـورة حــتى تَنْزِل "بسم الله الرحمن الرحيم"، فإذا أُنْزِلَت بسم الله الرحمن الرحيم عَلِمُوا أن السّورَة قد انْقَضَت) (189).