المَبْحَث الثالث جمْع القرآن في عهد الصحابة (رضي الله عنهم)
متى كُتِب القُرآن وجُمِع في المصحف؟
أوّل جَمْع للقُرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه، ففي صحيح البخاري (50) أنّ زَيْد بن ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه -وَكَانَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْوَحْيَ- قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ (51) يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلاَّ أَنْ تَجْمَعُوهُ، وَإِنِّي لأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ... فَقَالَ أَبُو بَكْر (52): إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ، وَلا نَتَّهِمُكَ؛ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَتَتَبَّعِ الْقُـرْآنَ فَاجْمَعْهُ، فَوَ اللهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُـرْآنِ، قُلْـتُ: كَيْفَ تَفْعَلانِ (53) شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-؟  فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ وَاللهِ خَيْرٌ، فَلَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ (54)، وَصُدُورِ الرِّجَالِ (55)، حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} [(9) التوبة: 128] إِلَى آخِرِهِمَا، وَكَانَتِ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ (56).
وهذا الجمع الأول، وهو جَمْع مُبكِّر لِحْفظ القرآن مِن الذهاب، إذْ كان هذا الْجَمْع بعد وَفَاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأقَلّ مِن سَنة، أو خِلال سَنَة مِن وَفَاتِه.
إذْ بُدئ بِجَمْعه عَقِب وَفَاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بِوَقتٍ قصير، وذلك بعد مَقْتَل القُرّاء في اليمامة، وذلك بعد سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ من الهجرة النبوية (57)؛ وذلك في أول سَنة اثنتي عَشرة مِن الهجرة، أي: بعد أقلّ مِن سَنة مِن وَفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، حيث كانت وَفَاته -صلى الله عليه وسلم- في شهر ربيع الأول مِن سَنَةِ إحدَى عَشْرَة من الهجرة (58).
قال ابن حجر: قَوْلُهُ: "مَقْتَلُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ"، أَيْ: عَقِبَ قَتْلِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْيَمَامَةِ هُنَا: مَنْ قُتِلَ بِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ فِي الْوَقْعَةِ مَعَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ (59).
وقال ابن كثير: قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ وَخَلْقٌ مِنَ السَّلَفِ: كَانَتْ وَقْعَةُ الْيَمَامَةِ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ. وَقَالَ ابْنُ قَانِعٍ: فِي آخِرِهَا. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَآخَرُونَ: كَانَتْ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا أَنَّ ابْتِدَاءَهَا فِي سِنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَالْفَرَاغَ مِنْهَا فِي سَنَةِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ (60).
وهنا يَرِد سؤال: كَم كان بين موسى -عليه الصلاة والسلام- وبَيْن كِتابة ما بأيدي اليهود؟
وكم كان بين عيسى -عليه الصلاة والسلام- وبين كِتابة الأناجيل؟
قال ابن حزم: كثير مِن نَقْل اليهود -بل هو أعلى ما عندهم - إلاّ أنهم لا يَقرَبون فيه مِن مُوسى كَقُرْبِنا فيه مِن محمد -صلى الله عليه وسلم-، بل يَقِفُون ولا بُدّ حيث بينهم وبين موسى عليه السلام أزيَد مِن ثلاثين عصراً في أزْيَد مِن ألْف وخمسمائة عام، وإنما يَبْلُغون بالنَّقْل إلى هلال وشماني ومَرْعقيما وأمثالهم... وأمَّا النصارى فليس عندهم مِن صفة هذا النَّقْل إلاّ تحريم الطلاق وَحده فقط، على أن مَخْرَجه مِن كَذّاب قد صَحّ كَذِبه! (61).
وقال ابن كثير: وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الإِنْجِيلَ نَقَلَهُ عَنْهُ أَرْبَعَةٌ: لُوقَا، وَمَتَّى وَمُرْقُسُ، وَيُوحَنَّا (62). وَبَيْنَ هَذِهِ الأَنَاجِيلِ الأَرْبَعَةِ تَفَاوُتٌ كَثِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ نُسْخَةٍ وَنُسْخَةٍ، وَزِيَادَاتٌ كَثِيرَةٌ وَنَقْصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الأُخْرَى (63)، وَهَؤُلاءِ الأَرْبَعَةُ مِنْهُمُ اثْنَانِ مِمَّنْ أَدْرَكَ الْمَسِيحَ وَرَآهُ، وَهُمَا مَتَّى وَيُوحَنَّا، وَمِنْهُمُ اثْنَانِ مِنْ أَصْحَابِ أَصْحَابِهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - وَهُمَا مُرْقُسُ وَلُوقَا (64).
وجَمْع زيد للقرآن إنما كان جَمْعًا لِمَا هو مكتوب ومُوافِق لِمَا هو محفوظ، فَقَوْل زَيد رضي الله عنه: فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ. يَعني: أنه جَمَع ما كان مَكتُوبا مَحفُوظا عند الصحابة بِطَرِيقَين: الحفظ في الصّدُور والكِتابة.
قال القَسطلاّني: وغايَته جَمْع ما كان مَكتُوبًا (65).
ويدلّ عليه قَوْل زيد رضي الله عنه: أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ. ولَم يَعتَمِد زيد رضي الله عنه على حِفْظِه وَحْدَه، بل جَمَع القرآن المكتوب وقابَلَه على المحفوظ في صُدور الرِّجَال.
قال القسطلاّني: "وصُدور الرِّجال" حيث لا يَجد ذلك مكتوبًا، أو الواو بمعنى "مَع" أي: أكْتُبُه مِن المكتُوب الموافِق للمَحفُوظ في الصُّدُور (66).
وأمَّا قوله: حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ؛ فإنما وَجدها مكتوبة معه، وليس معناه أنه لم يَكن يحفظها غيره؛ لأن حُفّــاظ القرآن يَحفظـونه كاملا، وهُم كُثُر، ومنهم كاتِب الوَحي زيد بن ثابت نَفْسه.
وكذلك قوله: لَمَّا نَسَخْنَا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ فَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الأَحْزَابِ كُنْتُ كَثِيرًا أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَؤُهَا لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ إِلاّ مَعَ خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [(33) الأحزاب: 23] (67).
قال الإمام البَغـوي: قَوْلُهُ: "لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ إِلا مَعَ خُزَيْمَةَ " لَيْسَ فِيهِ إِثْبَاتُ الْقُرْآنِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ، لأَنَّ زَيْدًا كَانَ قَدْ سَمِعَهَا، وَعَلِمَ مَوْضِعَهَا مِن سُورة الأحزاب بِتَعليم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ نَسِيَهَا، فَلَمَّا سَمِعَ ذَكَرَ، وَتَتَبُّعُهُ الرِّجَالَ فِي جَمْعِهِ كَانَ لِلاسْتِظْهَارِ، لا لاسْـتِحْدَاثِ الْعِلْمِ، فَقَـــدْ صَحَّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ: مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْـدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟  فَقَالَ: أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ (68).
وَقَدْ شَركَهُمْ غَيْرُهُمْ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ هَؤُلاءِ أَشَدَّ اشْتِهَارًا (69).
حفّاظ القرآن من الصحابة:
ممن اشتَهر بِحِفظ القرآن وكِتابَته: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: خُذُوا القُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (70).
وهذا لا يُراد به الْحَصْر. "وتخصيص هؤلاء الأربَعة بالذِّكْر دون غيرهم ممن حَفِظ القرآن مِن الصحابة رضي الله عنهم وهُم عَدَد كثير؛ لأنَّ هؤلاء الأربعة هم الذين تَفَرّغوا لإقراء القرآن وتعليمه دون غيرهم ممن اشتغل بغير ذلك مِن العلوم، أو العبادات، أو الجهاد، وغير ذلك، ويحتمل أن يكون ذلك مِن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه عَلِم أنهم هُم الذين يَنْتَصِبُون لِتَعْلِيم الناس القرآن بعده، وليُؤخَذ عنهم؛ فأحَال عليهم لِمَا عَلِم مِن مآل أمْرِهم، كما قد أظهر الموجود مِن حالهم؛ إذْ هُم أئمة القُرَّاء، وإليهم تَنْتَهِي في الغالب أسانيد الفُضَلاء" (71).
"فالظَّـاهِرُ أَنَّهُ أَمَرَ بِالأَخْذِ عَنْهُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي صَدَرَ فِيهِ ذَلِكَ الْقَوْلُ، وَلا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لا يَكُونَ أَحَــدٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ شَارَكَهُمْ فِي حِفْظِ الْقُرْآنِ، بَلْ كَانَ الَّذِيـنَ يَحْفَظُونَ مِثْلَ الَّذِينَ حَفِظُـوهُ وَأَزْيَدُ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ" (72).
قال القرطبي: قَالَ ابْنُ الطَّيِّبِ رضي الله عنه (73): لا تَدُلُّ هَذِهِ الآثَارُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَحْفَظْهُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَلَمْ يَجْمَعْهُ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، كَمَا قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، فَقَدْ ثَبَتَ بِالطُّرُقِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَنَّهُ جَمَعَ الْقُرْآنَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَتَمِيمٌ الدَّارِيُّ، وَعُبَــادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنُ الْعَاصِ. فَقَوْلُ أَنَسٍ: "لَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَــةٍ"، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَجْمَعِ الْقُــرْآنَ وَأَخَــذَهُ تَلْقِينًا مِنْ رسول -صلى الله عليه وسلم- غَيْرَ تِلْكَ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ أَخَذَ بَعْضُهُ عَنْهُ وَبَعْضُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَظَــاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ بِأَنَّ الأَئِمَّـةَ الأَرْبَعَــةَ (74) جَمَعُـوا الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لأَجْلِ سَبْقِهِمْ إِلَى الإِسْلامِ، وَإِعْظَامِ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم- لَهُمْ. قُلْتُ: لَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، وسَالِمًا مولى أبي حُذيفة رضي الله عنهم فِيمَا رَأَيْتُ، وَهُمَا مِمَّنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ (75).
وقال ابن كثير: وَمَعْنَى قَوْلِ أَنَسٍ: "وَلَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ": يَعْنِي مِنَ الأَنْصَارِ سِوَى هَؤُلاءِ، وَإِلاّ فَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ جَمَاعَةٌ كَانُوا يَجْمَعُونَ الْقُرْآنَ كالصِّدِّيق، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدْ عُلِمَ بِالاضْطِرَارِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ (76)، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لِيَؤُمَّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ" (77)، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الصِّدِّيقُ أَقْرَأَ الْقَوْمِ لَمَا قَدَّمَهُ عَلَيْهِمْ (78).
وكان ابن مسعود رضي الله عنه ممن يُمْلِي القُرآن مِن حِفظِه.
(قال قَيس بن مَروان أتَيتُ عُمرَ رضي الله عنه فقلتُ: جئت يا أمير المؤمنين مِن الكوفة، وتَرَكْت بها رَجُلا يُمْلِي المصاحف عن ظَهر قَلبِه، فغَضِب وانْتَفَخ (79) حتى كاد يملأ ما بين شُعبَتيّ الرَّحْل، فقال: ومَن هو وَيحك؟  قال: عبدالله ابن مسعود، فمَا زال يُطْفَأ وَيُسَرَّى عنه الغضب حتى عاد إلى حَالِه التي كان عليها، ثم قال: ويحك ! والله ما أعلمه بَقِي مِن الناس أحَد هو أحَقّ بِذلك منه، وسأُحَدِّثك عن ذلك، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يَزال يَسْمُر عند أبي بكر رضي الله عنه الليلة كَذاك في الأمر مِن أمْر المسلمين، وإنه سَمَر عنده ذات ليلة وأنا معه، فَخَرَج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخَرَجْنَا معه، فإذا رَجلٌ قائم يُصَلِّي في المسجد، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَستمع قراءته، فلما كِدْنا أن نعرفه قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مَن سَرّه أن يقرأ القرآن رَطْبا كما أُنْزِل فليَقرَأه على قِراءة ابن أمّ عبد) (80).
وفي هذه القصّة: شِدّة محافَظة الأمّة على القرآن؛ حتى يُبلَّغ خَلِيفة المسلمين بِحَال رَجُل في العراق يُمْلِي القرآن مِن حِفْظِه، ويَغضب الخلِيفَة لذلك، ثم يَسْكن لَمّا اُخْبِر بأنه مَن شَهِد له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِصِحّة قِرَاءته.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما ممّن حَفِظَ الْقُرْآنَ:
قال ابن عبدالبَرّ: وَكَانَ ابن عُمَرَ فَاضِلا، وَقَدْ حَفِظَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- في جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ: عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وابن مَسْعُودٍ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَغَيْرُهُمْ (81).
وممن حَفِظ القرآن مِن الصحابة:
عبدالله بن السائب رضي الله عنه.
قال مجاهد: كُنّا نَفْخَر على الناس بِقَارِئنا عبدالله بن السائب (82).
ومَسلَمَة بن مَخْلَد الأنصاري رضي الله عنه.
قال مجاهـــد: كنت أفخر الناس بالحفظ للقرآن حتى صَلَّيْتُ خَلْف مَسلَمة بن مَخلَد، فافْتَتَح "البَقرة" فمَا أخطأ فيها وَاوًا، ولا ألِفًا (83).
وتميم الداري رضي الله عنه.
قال السائب بن يزيد رضي الله عنه: جَمَع عُمر الناس على أُبَيّ بن كعب وتميم الداري (84).
وغيرهم كثير، كما في حال أهل الصُّفَّة، الذين لازَمُوا مَسجِد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن لهم أعمال تُلْهِيهم، وإنما تَفرّغوا للعبادة، ومنها: قِراءة القرآن وحِفظه.
قال البَاقِلاني: "ولقد كَثُر حفَّاظ القرآن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وانْتَشَروا، وعُرِفُوا به حتى كانوا يُدْعَون أهلَ القرآن، وقُرّاءَ القرآن، والقَرَأةَ مِن الصحابة، ويُنادَوْن به في المغازي وعندَ المعترَك وشِدّة الحاجة إلى الجهاد والإذْكَار بالآخِرة، ويَتَنَادَون بأصحاب سُورة البقرة...
وأهل الصُّفَّة الذين كانوا مُتَبَتّلِين (85) لِعِبَادة ربهم، ومُنْتَصِبين لِقِراءة القرآن ولِحِفْظِه، وأخذِ أنفسهم به، ولعل سائرَ أهل الصفة كانوا حُفّاظا لكتاب الله جلَّ وعزَّ على ما يُوجِبه ويَقتَضِيه ظاهرُ حالهم، لأنهم لم يكن لهم في زَمَن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عملٌ ولا معيشةٌ ولا حِرْفة غيرُ مُلازَمة المسجد والصلاة وتعلّم القرآن والتّشاغُل بِصالح الأعمال، لا يَتَشَاغَلُون بِشيء سِوى ذلك، وكان الناس قد عَرَفُوهم بذلك فكانوا لأجْل ما ذَكَرناه مِن أحوالهم يَحنُون عليهم، ويُؤثِرونهم على أنفسهم، ويُرَاعون أمُورهم، ويُشرِكونهم في أقْوَاتهم، ويَرَون تَفْضيلَهم على أنفسهم، وإجارتَهم عظيمَ الفضل بما انقطعوا إليه مِن التّشاغل بأمْر الآخرة والانتصابِ لحفظ القرآن وتدارسه والصلاةِ به.
والأشْبَهُ بمَن هو دون هؤلاء في الفَضل والدِّين وحُسن البصائر، وثاقب الأفهام، وصحة القَرائح والنحائر، وسُرعة الحفظ والاقتدار على الكلام، وحِفظ ما قَصُر وطال: أن لا يُبطئوا ويَتَخَلّفُوا عن حِفظ القرآن الذي هو أصلُ دينهم، وعِمادُ شريعتهم، وأفضلُ أعمالهم، وأعظمه ثوابا عند الله تعالى، فَوَضْعُ العادةِ يقتضي إحاطةَ جميع أهل الصفّةِ بِحفظ جميع ما كان يَنْزلُ مِن كتاب الله تعالى" (86).
و"أَهْلُ الصُّفَّةِ كَانُوا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ" (87).
"ولقد اتّسَع حِفظُ القرآن في الناس في زَمن عمرَ بن الخطاب رِضوانُ الله عليه، وكَثُر حُفّاظه والقائمون به، والتّالُون له، حتى إنه كان لهم في ذلك هَيْعَةٌ وضَجّةٌ وأمرٌ عظيمٌ مشهور" (88).
وأمَّا الْجَمْع الثاني؛ فقد تضمّن:
جَمْع القرآن وترتيب الآيات كما أمَر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكمَا هو في عَرْض جبريل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والاقتصار على ما كان في العَرضَة الأخيرة، التي عَارَض فيها جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن في آخر رمضان صَامَه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
والاقتصار على القرآن الْمُتعبّد بِتِلاوته، دون ما نُسِخَتْ تلاوته، ودون ما كان مِن قراءات تفسيرية؛ لأن مِن الصحابة مَن كان يَكتُب القراءات التفسيرية بِجوار الآيات القرآنية.
وكان جَمْع أبي بكر للقُرآن في نُسخة واحدة حِفظا له مِن الضياع، أما جَمْع عثمان فقد كان نَسخًا للمُصحف، وبَعَثه للأمصار مع قُرّاء يُقرِئون الناس.
وجَمْع أبي بكر كان خشية ذهاب القرآن بِذهاب أهله وحَفَظَته، وجَمْع عثمان كان حِفْظًا للقرآن ودَرْءًا للخِلاف والاختلاف.
ولا يَختَلف جَمْع عثمان رضي الله عنه عن جَمْع أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه، فإن سَبب جَمْع عثمان رضي الله عنه الناس على مصحف واحِد هو وُقوع الاختلاف في الأحرف السبعة، ولم يَزِد على نَسْخ المصاحف، والاقتصار على ما يُزيل الخلاف؛ لأن ما في مُصحف عثمان مأخوذ مما في مصحف أبي بكر.
(قَدِمَ حُذَيْفَة بْنُ اليَمَانِ عَلَى عُثْمَانَ - وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ العِرَاقِ- فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي القِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الكِتَابِ اخْتِلاَفَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي المَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ العَاصِ وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ (89) فَنَسَخُوهَا فِي المَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ القُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ القُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ. فَفَعَلُوا، حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي المَصَاحِفِ، رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ القُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ) (90).
قـال البَاقِلاني : (عُثمان لم يَقصد قَصْد أبي بكر في جَمْع نفس القرآن بَيْن لَوْحين، وإنما قَصَــد جمعهم على القراءات الثابتــة المعرُوضَــة على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإلْغَاء ما لم يَجْرِ مَجْرى ذلك، وأخْذهم بمصحف عثمان لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أُثْبِت مع تَنْزِيل (91)، ومَنسُوخ تِلاوته كُتب مع مُثبَت رَسْمه، ومَفْرُوض قراءته وحِفظه، وتسليم ما في أيدي الناس مِن ذلك، لِمَا فيه مِن التّخلِيط والفَسَاد، وخَشية دُخول الشُّبهة على مَن يأتي مِن بَعد، وأنه لم يُسقِط شيئا مِن القِراءات الثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا مَنَع مِنها وحَظَرَها) (92).
وطريقة كِتابة المصحف شاهِدَة بذلك؛ فإن الرَّسْم العثماني الذي كُتِبَت به المصاحِف يَحتَمِل أكثر مِن قراءة في مواضِع كثيرة.
وهذا هو الْجَمْع الأخير على عهد عثمان بن عفّان رضي الله عنه، والذي أجْمَعَت الأمّة على قبوله.
قال عَليّ رضي الله عنه عن الْجَمْع الثاني-جَ مْع عثمان رضي الله عنه-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ لا تَغْلُوا فِي عُثْمَانَ، وَلا تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيْرًا فِي الْمَصَاحِفِ وَإِحْرَاقِ الْمَصَاحِفِ، فَوَ اللَّهِ مَا فَعَلَ الَّذِي فَعَلَ فِي الْمَصَاحِفِ إِلاَّ عَنْ مَلأٍ مِنَّا جَمِيعًا) (93).
وفِعْل عثمان رضي الله عنه اتَّفق عليه المسلمون، وتَلَقَّتْه الأّمّة بالقَبُول.
قــال القرطبي في تفسيره عن فِعــل عثمان رضي الله عنه: (وَكَانَ هَذَا مِنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه بَعْدَ أَنْ جَمَعَ الْمُهَــاجِرِينَ وَالأَنْصَــارَ وَجِلَّةَ أَهْــلِ الإِسْــلامِ وَشَــاوَرَهُمْ في ذلك؛ فاتّفَقُــوا على جَمْعِه بِما صحّ وَثَبَت في القراءات المشْهُورة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- واطِّرَاح ما سِواها، وَاسْتَصْوَبُوا رَأْيَهُ وَكَانَ رَأْيًا سديدا مُوفّقًا، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ) (94).
فإن قيل: لِمَ لَمْ يَأمُر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِجَمْع القرآن في حال حياته؟
فالجواب: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يَتَرَقّب تَمَام تَنَزُّل القرآن، مع عِلْمه -عليه الصلاة والسلام- بأن أُمّتَه سَوف تَجْمَع القرآن، ولذلك حثّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على القراءة في المصحف، فقال: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلْيَقْرَأْ فِي الْمُصْحَفِ) (95).
قال الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: (يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ -صلى الله عليه وسلم- إِنَّمَا لَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ لِمَا كَانَ يَتَرَقَّبُهُ مِنْ وُرُودِ نَاسِخٍ لِبَعْضِ أَحْكَامِهِ أَوْ تِلاوَتِهِ، فَلَمَّا انْقَضَى نُزُولُهُ بِوَفَاتِهِ -صلى الله عليه وسلم- أَلْهَمَ اللَّهُ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ ذَلِكَ وَفَاءً لِوَعْدِ الصَّادِقِ بِضَمَانِ حِفْظِهِ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ - زَادَهَا اللَّهُ شَرَفًا - فَكَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ عَلَى يَدِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه بِمَشُورة عُمَر، وَيُؤَيِّدهُ مَا أخرجه ابن أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ (96) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ قَالَ: (سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: أَعْظَمُ النَّاسِ فِي الْمَصَاحِفِ أَجْرًا أَبُو بَكْرٍ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، هُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ كِتَابَ اللَّهِ) (97).
"وَقَدْ كَانَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ كُتِبَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لَكِنْ غَيْرُ مَجْمُوعٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَلا مُرَتّب السُّور" (98).
قال ابن حَجَر: "وَقَدْ أَعْلَمَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ مَجْمُوعٌ فِي الصُّحُف فِي قَوْله: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} [(98) البينة: 2] الآيَةَ، وَكَانَ الْقُرْآنُ مَكْتُوبًا فِي الصُّحُفِ لَكِنْ كَانَتْ مُفَرَّقَةً، فَجَمَعَهَا أَبُو بَكْرٍ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ كَانَتْ بَعْدَهُ مَحْفُوظَةً إِلَى أَنْ أَمَرَ عُثْمَانُ بِالنَّسْخِ مِنْهَا، فَنَسَخَ مِنْهَا عِدَّةَ مَصَاحِفَ، وَأَرْسَلَ بِهَا إِلَى الأَمْصَارِ" (99).
وكان القرآن يَنْزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى توفّاه الله.
قال ابن حجر في شرح حديث ابن عباس: "وَكَانَ جِبريل يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ".
(وفي الحديث إطلاق القُرآن على بَعضه وعلى مُعْظَمِه؛ لأنّ أوّل رَمضان مِن بَعد البِعثة لم يَكن نَزَل مِن القُرآن إلاّ بَعضه، ثم كذلك كُلّ رمضان بَعده إلى رمضان الأخير فكان قد نَزَل كُلّه إلاّ ما تأخّر نُزُوله بعد رمضان المذكور، وكان في سَنَة عَشْر إلى أن مات النبي -صلى الله عليه وسلم- في ربيع الأول سَنة إحدى عشرة، ومما نَزَل في تلك الْمُدّة قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [(5) المائدة: 3]، فإنها نَزَلَت يَوم عرفة والنبي -صلى الله عليه وسلم- بها بِالاتِّفَاق) (100).
ويَدلّ على ذلك حديث طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا نَزَلَتْ مَعْشَرَ الْيَهُـودِ لاَتَّخَـذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيـدًا، قَـالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟ قَـالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [(5) المائدة: 3]، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِعَرَفَاتٍ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ (101).
وهذا - لا شَكّ - أنه يَدلّ على شِدّة عناية الأمّة بالقرآن، إذْ عَرَف عُمر رضي الله عنه: الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، والْحَال الذي نَزَلَتْ فيه: في يوم جُمُعة، وفي عَرَفة، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- واقِفًا في عَرَفة في حَجّة الوَدَاع.