قصة الخضر.. العبد الصالح
قصة الخضر.. العبد الصالح Ocia_916
نرى أن القرآن الكريم لا يُحدّد لنا المكان الذي وقعت فيه الحوادث، ولا يُحدّد لنا التاريخ، كما أنه لم يُصرّح بالأسماء.

ولم يُبَيّنْ مَنْ هو العبد الصالح الذي التقى به موسى، هل هو نبي أو رسول؟ أم عالم؟ أم ولي؟ اختلف المفسرون في تحديد المكان، فقيل إنه بحر فارس والروم، وقيل بل بحر الأردن أو القلزم، وقيل عند طنجة، وقيل في أفريقيا، وقيل هو بحر الأندلس.. ولا يقوم الدليل على صحة مكان من هذه الأمكنة، ولو كان في تحديد المكان فائدة لحدّده الله تعالى.. وإنما أبهم السياق القرآني المكان، كما أبهم تحديد الزمان، وأسماء الأشخاص لِحِكَمٍ هو أعلم بها.

ربما كان من هذه الحِكَمِ ألا ينشغل ذهن القارئ والمستمع وينصرف إلى أمور لا فائدة من ذكرها.

إن القصة تتعلق بعلم ليس هو علمنا القائم على الأسباب.. وليس هو علم الأنبياء القائم على الوحي.. إنما نحن أمام علم من طبيعة غامضة أشد الغموض.. علم القدر الأعلى، وذلك علم أسدلت عليه الأستار الكثيفة.

لقد خَصَّ اللهُ تعالى نبيه الكريم موسى -عليه السلام- بأمور كثيرة.

فهو كليم الله عز وجل، وأحد أولى العزم من الرسل، وصاحب معجزة العصا واليد، والنبي الذي أنزلت عليه التوراة دون واسطة، وإنما كلمه الله تكليماً.. هذا النبي العظيم يتحوَّل في القصة إلى طالب علم متواضع يصبر أمام أستاذه ليتعلّم.. ومَنْ يكون مُعلمه غير هذا العبد الذي يتجاوز السياق القرآني اسمه، وإن حدثتنا السُّنَّةُ المُطهّرة أنه هو الخضر -عليه السلام- كما حدثتنا أن الفتى هو يوشع بن نون، ويسير موسى مع العبد الذي يتلقى علمه من الله بغير أسباب التلقي التي نعرفها.

ومع منزلة موسى العظيمة إلا أن الخضر يرفض صُحبة موسى.

يبين له أنه لن يستطيع معه صبراً.

ثم يوافق على صُحبته بشرط, ألا يسأله موسى عن شيءٍ حتى يُحدّثه الخضر عنه.

والخضر لا يتحدَّث، وتصرفاته تثير دهشة موسى العميقة.

إن هناك تصرفات يأتيها الخضر وترتفع أمام عيني موسى حتى لتصل إلى مرتبة الجرائم والكوارث.

وهناك تصرفات تبدو لموسى بلا معنى.

وتثير تصرفات الخضر دهشة موسى ومعارضته.

ورغم علم موسى ومرتبته، فإنه يجد نفسه في حيرة عميقة من تصرفات هذا العبد الذي آتاه الله من علمه.

وقد اختلف العلماء في الخضر: فمنهم مَنْ يعتبره ولياً من أولياء الله، ومنهم مَنْ يعتبره نبياً.

وقد نسجت الأساطير نفسها حول حياته ووجوده، فقيل إنه لا يزال حياً إلى يوم القيامة، وهي قضية لم يرد بها نص من قرآن أو سُنَّة، فلا نقول فيه إلا أنه مات كما يموت عباد الله.

قام موسى خطيباً في بني إسرائيل، يدعوهم إلى الله ويُحدّثهم عن الحق، ويبدو أن حديثه جاء جامعاً مانعاً رائعاً.

بعد أن انتهى من خطابه سأله أحد المستمعين من بني إسرائيل: هل على وجه الأرض أحَدٌ اعلم منك يا نبي الله؟ قال موسى مندفعاً: لا.

وساق الله تعالى عتابه لموسى حين لم يرد العلم إليه، فبعث إليه جبريل يسأله: يا موسى ما يُدريك أين يضع الله علمه؟

أدْرَكَ موسى أنه تَسَرَّعَ.

وعاد جبريل، عليه السلام، يقول له: إن لله عبداً بمجمع البحرين هو أعلمُ منك.

تاقت نفس موسى الكريمة إلى زيادة العلم، وانعقدت نيته على الرحيل لمصاحبة هذا العبد العالم.

سأل كيف السبيل إليه؟.

فَأُمِرَ أن يرحل، وأن يحمل معه حوتاً في مكتل، أي سمكة في سَلّةٍ.

وفي هذا المكان الذي ترتد فيه الحياة لهذا الحوت ويتسرَّب في البحر، سيجد العبد العالم.

انطلق موسى -طالب العلم- ومعه فتاهُ, وقد حمل الفتى حوتاً في سَلّةٍ.

انطلقا بحثاً عن العبد الصالح العالم.

وليست لديهم أي علامة على المكان الذي يوجد فيه إلا معجزة ارتداد الحياة للسمكة في السَّلَّةِ وتسرُّبها إلى البحر.

ويظهر عزم موسى -عليه السلام- على العثور على هذا العبد العالم ولو اضطره الأمر إلى أن يسير زمناً طويلاً.

وصل الاثنان إلى صخرةٍ بجوار البحر.

رقد موسى واستسلم للنُّعاس، وبقي الفتى ساهراً, وألقت الرياح إحدى الأمواج على الشاطئ فأصاب الحوت رذاذ فدبَّت فيه الحياة وقفز إلى البحر.

وكان تسرُّب الحوت إلى البحر علامة أعلم اللهُ بها موسى لتحديد مكان لقائه بالرجل الحكيم الذي جاء موسى يتعلّم منه.

نهض موسى من نومه فلم يلاحظ أن الحوت تَسَرَّبَ إلى البحر.

ونسي فتاهُ الذي يَصحبهُ أن يُحدّثه عمَّا وقع للحوت.

وسار موسى مع فتاهُ بقية يومهما وليلتهما وقد نسيا حوتهما.

ثم تَذَكَّرَ موسى غداءه وحَلَّ عليه التعب.

ولمع في ذهن الفتى ما وقع.

عندئذ تذكَّر الفتى كيف تسرَّب الحوت إلى البحر, وأخبر موسى بما وقع، واعتذر إليه بأن الشيطان أنساه أن يذكر له ما وقع.

كان أمراً عجيباً ما رآه يوشع بن نون، لقد رأى الحوت يشق الماء فيترك علامة وكأنه طير يتلوى على الرمال.

سعد موسى من مروق الحوت إلى البحر وقال: هذا ما كنا نريده.

إن تسرُّب الحوت يُحدّد المكان الذي سنلتقي فيه بالرجل العالم.

ويرتد موسى وفتاه يقصَّان أثرهما عائدين.

أخيراً وصل موسى إلى المكان الذي تسرَّب منه الحوت.

وصلا إلى الصخرة التي ناما عندها، وتسرَّب عندها الحوت من السَّلَّةِ إلى البحر.

وهناك وجدا رجلاً.

فسلّم عليه موسى، فكشف عن وجهه وقال: مَنْ أنت؟

قال موسى: أنا موسى.

قال الخضر: موسى نبي إسرائيل.. عليك السلام يا نبي إسرائيل.

قال موسى: وما أدراك بي..؟

قال الخضر: الذي أدراك بي ودلّك عليَّ..

ماذا تريد يا موسى..؟

قال موسى مُلاطفاً مبالغاً في التوقير: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا).

قال الخضر: أما يكفيك أن التوراة بين يديك.

وأن الوحي يأتيك؟

يا موسى: (إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا).

احتمل موسى كلمات الصَّدِّ القاسية وعاد يرجوه أن يسمح له بمصاحبته والتعلّم منه.

وقال له موسى فيما قال إنه سيجده إن شاء الله صابراً ولا يعصي له أمراً.

قال الخضر لموسى -عليهما السلام-: إن هناك شرطاً لمُصاحبتي والتعلّم مني وهو ألا تسألني عن شيء حتى أحدثك عنه.

فوافق موسى على الشرط.. وانطلقا.

انطلق موسى مع الخضر يمشيان على ساحل البحر, فمرَّت سفينة، فطلب الخضر وموسى من أصحابها أن يحملوهما، وعرف أصحاب السفينة الخضر فحملوه وحملوا موسى بدون أجر، إكراماً للخضر وفوجئ موسى حين رست السفينة وغادرها أصحابها وركابها, فوجئ بأن الخضر يتخلّف عنهم.

لم يكد أصحابها يبتعدون حتى بدأ الخضر يخرق السفينة.

اقتلع لوحاً من ألواحها وألقاه في البحر فحملته الأمواج بعيداً, فاستنكر موسى فِعْلَةَ الخضر.

لقد حَمَلَنَا أصحاب السفينة بغير أجر.. أكرمونا.. وها هو ذا يخرق سفينتهم ويفسدها.. كان التصرف من وجهة نظر موسى معيباً, وغلبت طبيعة موسى المُندفعة عليه، كما حرَّكتهُ غيرته على الحق، فاندفع يُحَدِّثُ أستاذه ومعلمه وقد نسي شرطه الذي اشترطه عليه: (قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا).

وهنا يلفتُ العبد الرباني نظر موسى إلى عبث محاولة التعليم منه، لأنه لن يستطيع الصبر عليه: (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، ويعتذر موسى بالنسيان ويرجوه ألا يؤاخذه وألا يرهقه: (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا).

سارا معاً.

فمرا على حديقة يلعب فيها الصبيان.

حتى إذا تعبوا من اللعب تنحَّى كل واحد منهم ناحية واستسلم للنعاس.

فوجئ موسى بأن العبد الرباني يقتل غلاماً.

ويثور موسى سائلاً عن الجريمة التي ارتكبها هذا الصبي ليقتله.

هكذا يُعاود العبد الرباني تذكيره بأنه لن يستطيع الصبر عليه: (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا).

ويعتذر موسى بأنه نسي ولن يعاود الأسئلة وإذا سأله مرة أخرى سيكون من حقه أن يُفارقه: (قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا) كان الخضر ينفذ إرادة عليا.

وكانت لهذه الإرادة العُليا حكمتها.

ومضى موسى مع الخضر, فدخلا قرية, ولا يعرف موسى لماذا ذهبا إلى هذه القرية، ولا يعرف لماذا يبيتان فيها، نفذ ما معهما من الطعام، فاستطعما أهل القرية فأبوا أن يضيفوهما.

وجاء عليهما المساء، وأوى الاثنان إلى خلاء فيه جدار يتهاوى ويكاد يهم بالسقوط.

وفوجئ موسى بأن الرجل العابد ينهض ليقضي الليل كله في إصلاح الجدار وبنائه من جديد.

ويندهش موسى من تصرف رفيقه ومعلمه، إن أهل القرية بخلاء، لا يستحقون هذا العمل, فقال الخضر لموسى: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ).

لقد حذر العبد الرباني موسى من مغبة السؤال.

وجاء دور التفسير الآن.

إن كل تصرفات العبد الرباني التي أثارت موسى وحيرته كانت مشوبة بالقسوة الظاهرة، بينما تُخفي في حقيقتها رحمة حانية.

وهكذا يتناقض ظاهر الأمر وباطنه، ولا يعلم موسى، رغم علمه الهائل غير قطرة من علم العبد الرباني، ولا يعلم العبد الرباني من علم الله إلا بمقدار ما يأخذ العصفور بمنقاره من ماء البحر.

كشف العبد الرباني لموسى شيئين في الوقت نفسه.

كشف له أن علمه -أي علم موسى- محدود.

كما كشف له أن كثيراً من المصائب التي تقع على الأرض تخفي في ردائها الأسود الكئيب رحمة عظمى.

إن أصحاب السفينة سيعتبرون خرق سفينتهم مصيبة جاءتهم، بينما هي نعمة تتخفى في زي المصيبة.

نعمة لن يكشف النقاب عن وجهها إلا بعد أن تنشب الحرب ويصادر الملك كل السفن الموجودة غصباً، ثم يترك هذه السفينة المعيبة.

وبذلك تبقى هذه السفينة مصدر رزق عندهم كما هي، فلا يموتون جوعاً.

أيضاً سيعتبر والد الطفل المقتول وأمَّهُ أن كارثةً قد دهمتهما لقتل وحيدهما الصغير البريء.

غير أن موته يُمَثِّلُ بالنسبة لهما رحمةُ عُظمى، فإن الله سيعطيهما بدلاً منه غلاماً يرعاهما في شيخوختهما ولا يرهقهما طغياناً وكفراً كالغلام المقتول.

وهكذا تختفي النعمة في ثياب المحنة، وترتدي الرحمة قناع الكارثة، ويختلف ظاهر الأشياء عن باطنها حتى ليحتج نبي الله موسى إلى تصرف يجري أمامه، ثم يستلفته عبد من عباد الله إلى حكمة التصرُّف ومغزاه ورحمة الله الكلية التي تُخفي نفسها وراء أقنعةٍ عديدةٍ.

أمَّا الجدار الذي أتعب نفسه بإقامته، من غير أن يطلب أجراً من أهل القرية، كان يُخَبِّئُ تحته كنزاً لغلامين يتيمين ضعيفين في المدينة.

ولو تُرِكَ الجدار ينقضّ لظهر من تحته الكنز فلا يستطع الصغيران أن يدافعا عنه.

ولَمَّا كان أبوهما صالحاً فقد نفعهما الله بصلاحه في طفولتهما وضعفهما، فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته.

ثم يُبَيِّنُ الخضر أن هذه رحمة الله التي اقتضت هذا التصرُّف.

وهو أمر الله لا أمره.

فقد أطلعه الله على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها، وَوَجَّهَهُ إلى التصرُّف فيها وفق ما أطلعه عليه من غيبه.

واختفى هذا العبد الصالح.

لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول.

إلا أن موسى تعلّم من صُحبته درسين مهمين:
تعلّم ألا يغترَّ بعلمه في الشريعة، فهناك علم الحقيقة.

وتعلَّم ألا يشتدَّ قلبه لمصائب البشر، فربما تكون يد الرحمة الخالقة تُخفي سِرَّهَا من اللطف والإنقاذ، والإيناس وراء أقنعة الحُزن والآلام والموت.

هذه هي الدروس التي تعلّمها موسى كليمُ الله عز وجل ورسوله من هذا العبد.