في الحديبية
خرج رسول الله في ذي القعدة سنة ست من الهجرة يريد زيارة البيت الحرام في كوكبة من الصحابة عددها أربع عشرة مائة، وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرًا لتعظيم بيت الله الحرام، فبعث النبي عيناً له من خزاعة، فعاد بالخبر أن أهل مكة جمعوا جموعهم لصده عن الكعبة، فقال: «أشيروا عليَّ أيها الناس»، فقال أبو بكر يا رسول الله، خرجت عامدًا لهذا البيت لا تريد حربه أو قتل أحد، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: «امضوا على اسم الله»، وقد ثارت قريش وحلفوا أن لا يدخل الرسول مكة عنوة، ثم قامت المفاوضات بين أهل مكة ورسول الله، وقد عزم النبي على إجابة أهل مكة على طلبهم إن أرادوا شيئاً فيه صلة رحم.

أ- في المفاوضات:
جاءت وفود قريش لمفاوضة النبي، وكان أول من أتى بديل بن ورقاء من خزاعة، فلما علم بمقصد النبي والمسلمين رجع إلى أهل مكة، ثم جاء مكرز بن حفص ثم الحليس ابن علقمة ثم عروة بن مسعود الثقفي، فدار هذا الحوار بين النبي وعروة بن مسعود الثقفي، واشترك في هذا الحوار أبو بكر وبعض أصحابه.
قال عروة: يا محمد، أجمعت أوباش الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم؟ إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل (أي: خرجت رجالا ونساء، صغارا وكبارا) قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة، وايم الله لكأني بهؤلاء (يقصد أصحاب النبي) قد انكشفوا عنك!!.
فقال أبو بكر: امصص بظر اللات -وهي صنم ثقيف- أنحن نَفِرُّ عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، وكان الصديق -رضي الله عنه- قد أحسن إليه قبل ذلك، فرعى حرمته ولم يجاوبه عن هذه الكلمة، ولهذا قال من قال من العلماء: إن هذا يدل على جواز التصريح باسم العورة للحاجة والمصلحة، وليس من الفحش المنهي عنه.
لقد حاول عروة بن مسعود أن يشن حربًا نفسية على المسلمين حتى يهزمهم معنوياً، ولذلك لوح بقوة المشركين العسكرية، معتمدا على المبالغة في تصوير الموقف بأنه سيؤول لصالح قريش لا محالة، وحاول أن يوقع الفتنة والإرباك في صفوف المسلمين؛ وذلك حينما حاول إضعاف الثقة بين القائد وجنوده، عندما قال للنبي أجمعت أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، وكان رد الصديق -رضي الله عنه- صارمًا ومؤثرا في معنويات عروة ونفسيته، فقد كان موقف الصديق -رضي الله عنه- في غاية العزة الإيمانية التي قال الله فيها: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].

ب- موقفه من الصلح:
ولما توصل المشركون مع رسول الله إلى الصلح بقيادة سهل بن عمرو، أصغى الصديق -رضي الله عنه- إلى ما وافق عليه رسول الله من طلب المشركين، رغم ما قد يظهر للمرء أن في هذا الصلح بعض التجاوز أو الإجحاف بالمسلمين، وسار على هدي النبي ليقينه أن النبي لا ينطق عن الهوى، وأنه فعل لشيء أطلعه الله عليه.
وقد ذكر المؤرخون أن عمر بن الخطاب أتى رسول الله معلناً معارضته لهذه الاتفاقية، وقال لرسول الله: ألست برسول الله؟ قال: «بلى» قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال: «بلى» قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال: «بلى» قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال:«إني رسول الله ولست أعصيه»، وفي رواية: «أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني»، قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: «بلى، فأخبرتك أنا نأتيه هذا العام».
قلت: لا، قال: «فإنك آتيه ومطوف به»
قال عمر: فأتيت أبا بكر فقلت له: يا أبا بكر: أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر -ناصحاً الفاروق بأن يترك الاحتجاج والمعارضة-: الزم غرزه، فإني أشهد أنه رسول الله، وأن الحق ما أمر به، ولن يخالف أمر الله ولن يضيعه الله.
وكان جواب الصديق -رضي الله عنه- مثل جواب رسول الله، ولم يكن أبو بكر يسمع جواب النبي، فكان أبو بكر أكمل موافقة لله وللنبي من عمر، مع أن عمر محدث، ولكن مرتبة الصديق -رضي الله عنه- فوق مرتبة المحدث؛ لأن الصديق -رضي الله عنه- يتلقى عن الرسول المعصوم كل ما يقوله ويفعله.
وقد تحدث الصديق -رضي الله عنه- فيما بعد عن هذا الفتح العظيم الذي تم في الحديبية، فقال: ما كان فتح أعظم في الإسلام من فتح الحديبية، ولكن الناس يومئذ قصر رأيهم عما كان بين محمد وربه، والعباد يعجلون، والله لا يعجل كعجلة العباد حتى يبلغ الأمور ما أراد.
لقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجة الوداع قائماً عند المنحر يقرب إلى رسول الله بَدَنَة، ورسول الله ينحرها بيده، ودعا الحلاق فحلق رأسه، وأنظر إلى سهيل يلتقط من شعره، وأراه يضعه على عينه، وأذكر إباءه أن يقر يوم الحديبية بأن يكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم» ويأبى أن يكتب محمد رسول الله، فحمدت الله الذي هداه للإسلام.
لقد كان الصديق -رضي الله عنه- أسَدَّ الصحابة رأياً وأكملهم عقلاً.
---------------------------------------------------