المبحث السادس: بداية مرضه صلّى الله عليه وسلّم وأمْرُهُ لأبي بكر أن يُصَلّي بالناس
رجع صلّى الله عليه وسلّم من حجة الوداع في ذي الحجة فأقام بالمدينة بقية الشهر, والمحرم, وصفراً, وجهز جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه, فبينما الناس على ذلك ابتدئ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشكواه في ليال بقين من صفر: قيل في الثاني والعشرين منه, وقيل: في التاسع والعشرين, وقيل: بل في أول شهر ربيع الأول, وقد صلى على شهداء أحُدٍ فدعا لهم كما تقدَّم, وذهب إلى أهل البقيع وسلّم عليهم ودعا لهم مُوَدِّعاً لهم, ثم رجع مرة من البقيع فوجد عائشة وهي تشتكي من صداع برأسها وهي تقول: وارأساه. فقال: ”بل أنا والله يا عائشة وارأساه“.

قالت عائشة رضي الله عنها: ثم قال: ”وما ضَرُّكِ لو مِتِّ قبلي فقُمْتُ عليكِ وكفنتُكِ, وصَلّيتُ عليكِ, ودفنتُكِ“ قالت: قلت: والله لكأني بك لو قد فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست ببعض نسائك.

قالت: ”فتبسَّم رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم“ (1) وتتام به وجعه حتى استعزبه (2) وهو في بيت ميمونة, فدعا نساءه فاستأذنهن أن يُمَرَّضَ في بيتي (3).

وأول ما اشتدَّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعه في بيت ميمونة رضي الله عنها فاستأذن أزواجه أن يُمَرَّضَ في بيت عائشة رضي الله عنها (4).

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واشتد به وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي فأذنَّ له فخرج وهو بين رجلين تخط رجلاه في الأرض بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر (5) وكانت عائشة رضي الله عنها تحدث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما دخل بيتي واشتد به وجعه قال: ”هَرِيقوا (6) عليَّ من سبع قرب (7) لم تُحْلَلْ أوكيتهن لعلي أعهد (8) إلى الناس, فأجلسناه في مِخضَب (9) لحفصة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم طفقنا (10) نصب عليه من تلك القرب, حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن, ثم خرج إلى الناس فصلّى بهم وخطبهم“ (11).

وعنها رضي الله عنها قالت: "ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ”أصلى الناس“؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله! قال: ”ضعوا لي ماء في المخضب“ قالت: ففعلنا.

فاغتسل فذهب لينوءَ (12) فأُغمي عليه, ثم أفاق فقال صلّى الله عليه وسلّم: ”أصلى الناس“؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله! فقال: ”ضعوا لي ماء في المخضب“ قالت: ففعلنا [فقعد] فاغتسل.

ثم ذهب لينوء فأُغمي عليه.

ثم أفاق فقال: ”أصلى الناس“؟ فقلنا: لا, هم ينتظرونك يا رسول الله! فقال: ”ضعوا لي ماء في المخضب“ ففعلنا [فقعد] فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه, ثم أفاق فقال: ”أصلى الناس“؟ فقلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله!

قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي صلّى الله عليه وسلّم لصلاة العشاء الآخرة, قالت: فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أبي بكر؛ ليصلي بالناس, فأتاه الرسول (13) فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرك أن تصلي بالناس. فقال أبو بكر –وكان رجلاً رقيقاً– يا عمر! صلِّ بالناس.

فقال له عمر: أنت أحقُّ بذلك.

قالت: فصلَّى بهم أبو بكر تلك الأيام.

ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجد من نفسه خِفَّة فخرج بين رجلين –أحدهما العباس (14)– لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس, فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر, فأومأ إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن لا يتأخر, وقال لهما: ”أجلساني إلى جنبه“ فأجلساه إلى جنب أبي بكر, فجعل أبو بكر يُصَلّي وهو قائم يأتم بصلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلّى الله عليه وسلّم قاعد“ (15).

وهذا صريح في أن هذه الصلاة هي صلاة الظهر (16).

وقد كان صلّى الله عليه وسلّم حريصاً على أن يكون أبو بكر هو الإمام ورَدَّدَ الأمر بذلك مراراً, فمن عائشة رضي الله عنها قالت: لما ثَقُل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء بلال يؤذنه بالصلاة, فقال: ”مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس“ فقلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف (17) وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر؟ فقال: ”مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس“ قالت: فقلت لحفصة: قولي له إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يُسْمِع الناس فلو أمرت عمر, فقالت له فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”إنكنَّ لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس“ فقالت حفصة لعائشة: [ما كنت لأصيب منك خيراً].

قالت عائشة: فأمروا أبا بكر يصلي بالناس فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من نفسه خفة, فقام يهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض، حتى دخل المسجد، فلمَّا سمع أبو بكر حسه ذهب يتأخَّر, فأومأ إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”قم مكانك“ فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى جلس عن يسار أبي بكر, فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي بالناس جالساً وأبو بكر قائماً يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر“ (18).

والسبب الذي جعل عائشة رضي الله عنها تراجع النبي صلّى الله عليه وسلّم في إمامة أبي بكر بالصلاة هو ما بيَّنَتْه في رواية أخرى قالت رضي الله عنها: ”لقد راجعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلاً قام مقامه أبداً, ولا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به, فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أبي بكر“ (19)؛ ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم لها ولحفصة: ”إنكن لأنتن صواحب يوسف“ (20).

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وتقديمه صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر معلوم بالضرورة من دين الإسلام وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة, وأقرؤهم لِمَا ثبت في الصحيح: ”يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله..“ (21) الحديث.

نعم قد اجتمعت في أبي بكر هذه الصفات رضي الله عنه...(22).

وخلاصة القول:
أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة, ومنها:
1 ـ  استحباب زيارة قبور الشهداء بأحد وقبور أهل البقيع والدعاء لهم بشرط عدم شد الرحال, وعدم إحداث البدع.

2 ـ  جواز تغسل الرجل زوجته وتجهيزها والزوجة كذلك.

3 ـ  جواز استئذان الرجل زوجاته أن يُمرِّض في بيت إحداهن كان الانتقال يشق عليه, وإذا لم يأذنَّ فحينئذ يقرع بينهن.

4 ـ  جواز المرض والإغماء على الأنبياء بخلاف الجنون فإنه لا يجوز عليهم؛ لأنه نقص, والحملة من مرض الأنبياء؛ لتكثير أجرهم، ورفع درجاتهم, وتسلية الناس بهم؛ ولئلا يفتتن الناس بهم فيعبدونهم؛ لما يظهر على أيديهم من المعجزات والآيات البينات, وهم مع ذلك لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً إلا ما شاء الله.

5 ـ  استحباب الغسل من الإغماء؛ لأنه ينشط ويزيل أو يخفف الحرارة.

6 ـ  إذا تأخر الإمام تأخراً يسيراً ينتظر, فإذا شق الانتظار صلى أعلم الحاضرين.

7 ـ  فضل أبي بكر وترجيحه على جميع الصحابة رضي الله عنهم, وتنبيهه وتنبيه الناس أنه أحق بالخلافة من غيره؛ لأن الصلاة بالناس للخليفة؛ ولأن الصحابة رضي الله عنهم قالوا: ”رضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لديننا“.

8 ـ  إذا عرض للإمام عارض أو شغل بأمر لا بد منه منعه من حضور الجماعة فإنه يستخلف من يصلي بهم ويكون أفضلهم.

9 ـ  فضل عمر رضي الله منه؛ لأن أبا بكر وثق به, ولهذا أمره أن يصلي ولم يعدل إلى غيره.

10 ـ  جواز الثناء والمدح في الوجه لمن أُمِنَ عليه الإعجاب والفتنة؛ لقول عمر رضي الله عنه: ”أنت أحق بذلك“.

11 ـ  دفع الفضلاء الأمور العظيمة عن أنفسهم إذا كان هناك من يقول بها على وجه مقبول.

12 ـ  يجوز للمستخلف في الصلاة ونحوها أن خلف غيره من الثقات لقول أبي بكر: ”صلِّ يا عمر“.

13 ـ  الصلاة من أهم ما يسأل عنه.

14 ـ  فضل عائشة رضي الله عنها على جميع أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم الموجودات ذلك الوقت وهن تسع إحداهن عائشة رضي الله عنهن.

15 ـ  جواز مراجعة ولي الأمر على سبيل العرض والمشاورة والاستشارة بما يظهر أنه مصلحة, لكن بعبارة لطيفة تحمل الحكمة وحسن الأسلوب.

16 ـ  جواز وقوف المأموم بجنب الإمام لحاجة أو مصلحة: كإسماع المأمومين التكبير في الجم الغفير الذين لا يسمعون الصوت, أو ضيق المكان, أو علة أخرى كصلاة المرأة بالنساء, أو المنفرد مع الإمام.

17 ـ  جواز رفع الصوت بالتكبير فينقل المبلغ للناس صوت الإمام إذا لم يسمع الناس تكبير الإمام.

18 ـ  التنبيه على الحرص على حضور الصلاة مع الجماعة إلا عند العجز التام عن ذلك.

19 ـ  الأعلم والأفضل أحق بالإمامة من العالم والفاضل.

20 ـ  إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى جالساً صلي الناس جلوساً, وإذا صلى قائماً صلوا قياماً.

21 ـ  البكاء في الصلاة من خشية الله لا حرج فيه لكن لا يتكلف ذلك ولا يطلبه, فإذا غلبه البكاء في الصلاة بدون اختياره فلا حرج (23).

-----------------------------------------------
1.     ( )  ابن هشام بسند ابن إسحاق, انظر: سيرة ابن هشام 4/320, وانظر: البداية والنهاية لابن كثير 5/224, وفتح الباري 8/ 129 - 130, وأخرجه أحمد 6/144 و228 لابن ماجه, والبيهقي, وقال الألباني: إن ابن إسحاق قد صرح بالتحديث في رواية ابن هشام فثبت الحديث والحمد لله. أحكام الجنائز ص 50.
2.  استعزبه: اشتد عليه وغلبه على نفسه.
3.  انظر: سيرة ابن هشام 4/320 والبداية والنهاية لا بن كثير 5/223 - 231, وقيل: كان ذلك في التاسع والعشرين من شهر صفر يوم الأربعاء, فبقي في مرضه ثلاثة عشر يوماً وهذا قول الأكثر.
4.    انظر: الفتح 8/129.
5.  صحيح مسلم برقم 418, وانظر: فتح الباري 8/129.
6.    (6)  هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما قال ابن عباس في آخر حديث البخاري رقم 687 ومسلم 418.
7.  وفي رواية: أهريقوا: أي أريقوا وصبوا. الفتح 1/303.
8.  هذا من باب التداوي؛ لأن لعدد السبع دخولاً في كثير من أمور الشريعة, وأصل الخلقة, وفي رواية لهذا الحديث عند الطبراني: ”... من آبار شتى“. الفتح 1/303 و8/141.
9.  أعهد: أي أوصي. الفتح 1/303.
10.  المخضب: هو إناء نحو المركن الذي يغسل فيه وتغسل فيه الثياب من أي جنس كان. النووي 4/379 والفتح 1/301 و303.
11.  طفقنا: أي شرعنا: يقال: طفق يفعل كذا إذا شرع في فعل واستمر فيه. الفتح 3/303.
12.  البخاري برقم 198 وذكر هنا له ستة عشر موضعاً, وقد جمع بين هذه المواضع الألباني في مختصر البخاري 1/170, ومسلم برقم 418.
13.  لينوء: أي لينهض بجهد. الفتح 2/174.
14.  أي الذي أرسله إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم ليصلي بالناس.
15.  والآخر علي رضي الله عنه كما تقدم.
16.  البخاري برقم 687 ومسلم برقم 418 وقد اخترت بعض الألفاظ من البخاري وبعضها من مسلم.
17.  وزعم بعضهم أنها الصبح, واستدل برواية أرقم بن شرحبيل عن ابن عباس: ”وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القراءة من حيث بلغ أبو بكر, وهذا لفظ ابن ماجه وإسناده حسن؛ لكن في الاستدلال به نظر؛ لاحتمال أن يكون صلّى الله عليه وسلّم سمع لما قرب من أبي بكر الآية التي انتهى إليها أبو بكر خاصة, وقد كان هو يسمع الآية أحياناً في الصلاة السرية كما في حديث أبي قيادة, ثم لو سلم لم يكن فيه دليل على أنها الصبح بل يحتمل أن تكون المغرب فقد ثبت في الصحيحين من حديث أم الفضل قالت: "سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفاً, ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله" البخاري برقم 763 و4429, ومسلم برقم 462 قال ابن حجر: لكن وجدت في النسائي أن هذه الصلاة التي ذكرتها أم الفضل كانت في بيته وقد صرح الشافعي أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يصلِّ بالناس في مرض موته في المسجد إلا مرة واحدة وهي هذه التي صلى فيها قاعداً وكان أبو بكر فيها أولاً إماماً ثم صار مأموماً يسمع الناس التكبير. انظر: الفتح 2/175.
18.  أسيف: شديد الحزن: والمراد أنه رقيق القلب إذا قرأ غلبه البكاء فلا يقدر على القراءة. فتح 2/152, 165, 203.
19.  البخاري برقم 713 , 2/204 ومسلم برقم 418, قول حفصة رضي الله عنها: ما كنت لأصيب منك خيراً. البخاري برقم 679.
20.  البخاري برقم 198, و4445, ومسلم برقم 418 رواية 93.
21.  البخاري برقم 713, مسلم برقم 418 وتقدم تخريجه.
22.  مسلم برقم 673.
23.  البداية والنهاية 5/234 وروى البيهقي عن أنس رضي الله عنه أنه كان يقول: ”آخر صلاة صلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع القوم في ثوب واحد ملتحفاً به خلف أبي بكر“ قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية 5/234: ”وهذا إسناد جيد على شرط الصحيح“ ورجح العلامة ابن باز حفظه الله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يصلِّ خلف أحد من أمته إلا عبد الرحمن بن عوف. قلت: أما الصلاة التي صلاها مع أبي بكر فإنه هو الإمام كما تقدم والله أعلم.