الفصل الثالث: بعض أحكام الصلاة للداخل في الإسلام
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: قضاء الفوائت وفيمن صلى صلاتنا من غير المسلمين
المبحث الثاني: صفة الصلاة للداخل في الإسلام
المبحث الثالث: الجنائز للداخل في الإسلام
 
المبحث الأول: قضاء الفوائت وفيمن صلى صلاتنا من غير المسلمين
المطلب الأول: قضاء غير المسلم إذا أسلم ما فاته من الصلاة

أولاً: قضاء ما فاته قبل إسلامه.
اتفق الفقهاء على أن، غير المسلم إذا أسلم لا يجب عليه قضاء الصلوات التي تركها قبل إسلامه.

جاء في المغني: "وأما الكافر فإن كان أصلياً لم يلزمه قضاء ما تركه من العبادات في حال كفره بغير خلاف نعلمه"(1).

واستدلوا بما يلي:
1- بحديث عمرو بن العاص رضي الله عنه وجاء فيه" فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أبسط يمينك فأبايعك، فبسط يمينه. قال: فقبضت يدي قال: "مالك يا عمرو؟"قلت: أردت أن تشترط. قال: "تشترط بماذا"؟ قلت: أن يغفر لي، قال" أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟...."(2).

ففيه بيان عظم موقع الإسلام والهجرة والحج؟ وأن كل واحد منهما يهدم ما كان قبله من المعاصي ومنها ترك الصلاة(3).

2- بما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: "من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية.
ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر."(4)

قال النووي: "وأما معنى الحديث، فالصحيح فيه ما قاله جماعة من المحققين أن المراد بالإحسان هنا: الدخول في الإسلام بالظاهر والباطن جميعاً، وأن يكون مسلماً حقيقياً فهذا يغفر له ما سلف في الكفر بنص القرآن العزيز والحديث الصحيح: " الإسلام يهدم ما قبله" ..والمراد بالاساءه عدم الدخول في الإسلام بقلبه بل يكون منقاداً في الظاهر للشهادتين غير معتقد للإسلام بقلبه، فهذا منافق باق على كفره بإجماع المسلمين"(5).

1- ولأنه أسلم خلقُ كثير في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن بعده، فلم يؤمر أحد بقضاء الصلاة لما فيه من التنفير من الإسلام(6).

ثانياً: مقدار الوقت الذي تدرك به الصلاة لمن أسلم:
ذهب بعض الفقهاء إلى أن الصلاة تدرك بركعة(7).

واستدلوا:
بحديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر"(8).

قال ابن عبد البر: "ومنها أنه أفادنا في حكم من أسلم من الكفار، أو بلغ من الصبيان أو طهرت من الحيض، في ذلك الوقت أنه كمن أدرك الوقت بكماله في وجوب صلاة ذلك الوقت وتلزمه تلك الصلاة بكمالها، كما لو أدرك وقتها من أوله ففرط فيها"(9).

ثالثاً: الصلوات التي تجب على من أسلم وقت إسلامه
إن غير المسلم إذا أسلم لم يكن عليه أن يصلي شيئاً ما فات وقته، فإذا أسلم وقت صلاة العصر لا يقضي صلاة الظهر وإذا أسلم وقت صلاة العشاء فلا يقضى صلاة المغرب بل يصلي ما أدرك وقته(10).

والأدلة على ذلك:
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى في اليومين في حديث ابن عباس وابن مسعود وجابر وأبي سعيد وأبي موسى وغيرهم في أول الوقت وآخره ثم قال: "ما بين هذين وقت"(11) وفي حديث عبد الله بن عمر وأبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر"(12).

وفي بعض ألفاظ الحديث أبي هريرة: "وآخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر"(13).

فقد دل الحديث على أن لكل صلاة وقتاً مخصصاً غير وقت الصلاة الأخرى، فلا يدخل وقت صلاة على غيره.
 
المطلب الثاني: قضاء الصلاة لمن أسلم إذا تركها جاهلاً بوجوبها:
حقيقة الجهل: هو عدم العلم عما من شأنه العلم(14).

والذين تقبل دعواهم بالجهل بالأحكام هم قريبو العهد بالإسلام.

قال السيوطي(15): "كل من جهل تحريم شيء ما يشترك فيه غالب الناس لم يقبل، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية  بعيدة يخفى فيها مثل ذلك: كتحريم الزنا والقتل، والسرقة والخمر والكلام في الصلاة، والأكل في الصوم، والقتل بالشهادة إذا رجعا وقالا تعهدنا ولم نعلم أنه يقتل بشهادتنا"(16).

وهذا والحكم إن جرى في الصلاة، فإنه كذلك يجري في الصوم والزكاة والحج وغيرها من الأحكام.

فقد ذهب بعض الفقهاء أن من أسلم إذا ترك الصلاة جاهلاً بوجوبها عليه فلا قضاء عليه سواءً كان في بلاد إسلامية أو غير إسلامية(17).

واستدلوا:
1- من الكتاب: قوله تعالى {لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} الأنعام19, قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}. (الإسراء: 15).

2- وقوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165).

3- قال ابن تيمية: "ومثل هذا في القرآن متعدد بَين سبحانه وأنه لا يعاقب أحداً حتى يبلغ ما جاء به الرسول"(18).
 
وسُنَّةُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مستفيضه عنه أن من آمن به صلى الله عليه وسلم ولم يعلم كثيراً ما جاء به لم يعذبه الله على ما لم يبلغه.

2- جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجنبت فلم أصب الماء، فقال عمر بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت؟ فأما أنت فلم تصل، أما أنا فتمعكت فصليت، فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنا بكفيك هكذا"

وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه(19).

أن عمر بن الخطاب وعماراً أجنبا، فلم يصل عمر حتى أدرك الماء ظن عماراً أن التراب يصل إلى حيث الماء، فتمرغ كما تمرغ الدابة فليم يأمر واحداً منهما بالقضاء(20).

3- عن عائشة رضي الله عنها زوج الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أنها قالت: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في الصلاة الحضر(21).

ولما زيد في صلاة الحضر حين هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة كان من كان بعيداً عنه مثل من كان بمكه، وبأرض الحبشة يصلون ركعتين، ولم يأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بإعادة الصلاة(22).

ما سبق يظهر أن لا يجب قضاء الصلاة على من أسلم إذا تركها جهلاً بوجوبها عليه، وذلك لأن حكم الخطاب لا يثبت في حق المكلف إلا بعد البلاغ.

قال ابن تيمية: "الأظهر أنه لا يجب قضاء شيء من ذلك ولا يثبت الخطاب إلا بعد البلاغ"(23).

ولأن الله سبحانه وتعالى وضع عن أمَّة محمد -صلى الله عليه وسلم- الخطأ والنسيان لقوله عليه السلام: "وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"(24).

والجهل يعتبر من الخطأ.

قال ابن تيمية: "والصحيح في جميع هذه المسائل عدم وجوب الإعادة لأن الله عفا عن الخطأ والنسيان"(25).

المطلب الثالث: في الحكم على غير المسلم بالإسلام إذا صلى صلاتنا
صورة المسألة:
إذا وجد شخص غير مسلم اقتنع بالإسلام لكنه جهل بوجوب النطق بالشهادتين، فصلى صلاة المسلمين سواء صلى منفرداً أو مع جماعة المسلمين، أو كان في بلادة إسلامية أو غير إسلامية.

فقد ذهب بعض الفقهاء إلى أنه يحكم له بالإسلام بفعل الصلاة، سواءً صلى منفرداً أو مع جماعة المسلمين(26).

واستدلوا:
بحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم، الذي له ذمه الله وذمة رسوله، فلا تخفروا (27) الله في ذمته(28).

قال البهوتي(29): "والظاهر من قوله: "صلى صلاتنا" أنه لا يحكم بإسلامه حتى يصلى ركعة، لأنه لا يسمى مصلياً بدونها".

المبحث الثاني: صفة الصلاة للداخل في الإسلام
المطلب الأول: تكبيرة الإحرام بغير العربية

قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن من أحرم للصلاة بالتكبير أنه عاقد لها داخل فيها"(30).

وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجوز التكبير بغير العربية لمن يحسنها وتجوز لمن لا يحسنها(31).

وقالوا يجب على غير العربي أن يتعلم من اللغة العربية ما يحتاجه لصلاته.

جاء في الذخيرة: "يجب على العجمي أن يتعلم من لسان العرب ما يحتاجه لصلاته وغيرها، فإن أسلم أول الوقت، أخر الصلاة حتى يتعلم كعادم الماء الراجي له آخر الوقت(32).

واستدلوا بما يلي:
1- بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "صلوا كما رأيتموني أصلي"(33) وكانت صلاته عليه الصلاة والسلام بالتكبير العربي(34).

2- لو كانت الصلاة تنعقد بغير لفظ التكبير بالعربية لتركه -صلى الله عليه وسلم- ولو في عمره مره لبيان الجواز، فحيث لم ينقل أحد عنه قط أنه عدل عنه حتى فارق الدنيا، دل على أن الصلاة لا تنعقد بغيره(35).
 
وأما من عجز عن تعلم التكبير أو ضاق الوقت عنه فإنه يكبر بلغته لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إلا وسعها} (البقرة: 286).

وألحق الحنابلة به كل ذكر واجب كتسميع وتحميد، وتسبيح، وتشهد، وسلام فيلزمه تعلمه إن قدر، وإلا أتي به بلغته(36).

المطلب الثاني: حكم قراءة الفاتحة في الصلاة.
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن قراءة الفاتحة فرض من فرائض الصلاة وركن من أركانها(37).

واستدلوا
1- بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"(38).

وفي الحديث دلالة على نفي الصلاة الشرعية إذا لم يقرأ فيها المصلي بالفاتحة لأن الصلاة مركبة من أقوال وأفعال، والمركب ينتفي بانتفاء جمع أجزائه وبانتفاء البعض(39).

2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج(40) والخداج: النقص والفساد(41).
 
المطلب الثالث: العاجز عن قراءة الفاتحة
من عجز عن قراءة الفاتحة بحيث لم يستطع تعلمها لعدم معلم أو مصحف أو لضيق الوقت أو غير ذلك فقد فصل الفقهاء في هذه المسألة.

فقالوا: ويلزم من لم يحسن الفاتحة تعلمها فإن عجز عنها لزمه قراءة قدرها في الحروف عدداً وفي الآيات من أي سورة شاء من القرآن لحديث: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل: "فإن كان معك قرآن فاقرأه"(42).

فإن لم يعرف إلا آية من الفاتحة أو غيرها كررها بقدر الفاتحة.

فإن لم يحسن قرآنا، لزم قول"سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" لحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علم رجلاً الصلاة فقال: "إذا كان معك قرآن فاقرأه وإلا فاحمد الله وكبره وهلله"(43).

فإن لم يعرف هذا الذكر كله، بل عرف بعضه كرره بقدره كمن عرف آية فأكثر من الفاتحة، وإن لم يعرف شيئاَ من الذكر وقف بقدر القرآءة(44).

حكم الصلاة بترجمة القرآن:
ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم الصلاة بترجمة القرآن مطلقاً(45).

قال ابن قدامه: "ولا تجزئه القراءة بغير العربية ولا إبدال لفظها بلفظ عربي سواء أحسن قراءتها بالعربية أو لم يحسن"(46).

واستدلوا:
1- بقوله تعالى {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 195).

فإنه نفى عنه غير العربية فدل على عدم صحة الصلاة بترجمة القرآن(47).

2- أن رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً فعلمني ما يجيزيني قال: "قل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله".

وجه الدلالة:
أنه لوجاز العدول عن القرآن إلى معناه لأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- لما عدله به إلى التحميد والتكبير(48).

المبحث الثالث: بعض أحكام الجنائز للداخل في الإسلام
تعريف الجنازة بالفتح، الميت.

والجنازة بالكسر، السرير الذي يحمل عليه الميت.

قيل: لا يسمى جنازة حتى يكون عليه ميت.

وإلا فهو سرير أو نعش(49).

ولا يختلف المعنى " الاصطلاحي عن المعنى اللغوي عند الفقهاء.

المطلب الأول: جنائز أقاربهم من غير المسلمين ويندرج تحته الفروع الآتية:
الفرع الأول: عيادة المريض منهم.
ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز عيادة غير المسلم بقصد ترغيبه في الإسلام وتبين محاسنه له(50).

قال ابن تيمية: "ويجوز عيادة أهل الذمة وتهنئتهم وتعزيتهم ودخولهم المسجد للمصلحة الراجحة كرجاء الإسلام، وقال العلماء: يعاد الذمي ويعرض عليه الإسلام(51).

واستدلوا:
1- ما أخرجه البخاري: "أنه لما أتى أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوجد عنده أبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أمية بن المغيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: "ياعم، قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله" فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والله لاستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله تعالى فيه"ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين" (التوبة: 113) (52).

واستدلوا بهذا الحديث على أن الرسول صلى الله عليه وسلم عاد عمه وهو مشرك وعرض عليه الإسلام فلم يسلم(53).

2- عن أنس رضي الله عنه قال " كان غلام يهودي يخدم للنبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- يعوده فقعد عند رأسه فقال له: أسلم فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم- فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم هو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه من النار"(54).

قال الشوكاني: "وفي الحديث دليل على جواز زيارة أهل الذمة إذا كان الزائر يرجو بذلك حصول مصلحة دينية كإسلام المريض"(55).
 
الفرع الثاني: غسل الميت وتشييع جنازته ودفنه.
ذهب بعض الفقهاء إلى أنه يجوز أن يغسل المسلم قريبه غير المسلم ويكفنه ويتبع جنازته ويدفنه في قبره(56).

واستدلوا:
1- بقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إحسانا} (الأحقاف: 15).

وجه الدلالة:
أن الولد المسلم مندوب إلى بر والده، وإن كان مشركاً، والمراد في الآية هو الوالد المشرك، بدليل قوله تعالى: "وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم.." (لقمان: 15).

ومن الإحسان والبر في حقه القيام بغسله ودفنه بعد موته(57).

2- عن علي رضي الله عنه قال: قلت للنبي – ان عمك الشيخ الضال قد مات، قال: "إذهب فوار(58) أباك ثم لا تحدثن شيئاً حتى تأتيني"، فذهبت فواريته، وجئته، فأمرني فغتسلت، ودعا لي(59).

قال الزيلعي(60): "وليس في الحديث الغسل والكفن، إلا أن يؤخذ ذلك من مفهوم قوله: "فأمرني فاغتسلت" فإن الاغتسال شرع من غسل الميت ولم يشرع من دفنه(61).

3- جاء رجل إلى ابن عباس فقال له: أن أبي مات نصرانياً، فقال له: اغسله وكفنه وحنطه، ثم ادفنه ثم قرأ هذه الآية:" {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} (التوبة: 113) (62).

كيفية تغسيل غير المسلم:
ذكر فقهاء الحنفية إنما يغسل غير المسلم كما تغسل النجاسات بإفاضة الماء عليه، لا يوضأ وضوء الصلاة كما يفعل المسلم لأنه كان لا يتوضأ في حياته(63).

الفرع الثالث: زيارة قبره بعد موته:
ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز زيارة قبر غير المسلم بقصد التذكر والاعتبار(64).

واستدلوا:
1- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد  أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فزورها، فإنها تذكر الآخرة"(65).

وفي رواية أخرى من حديث أبي هريرة، قال زار النبي -صلى الله عليه وسلم- قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: "استأذنت ربي في أن أستغفر فها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت"(66).

قال القاضي عياض: "استئذانه صلى الله عليه وسلم في زيارة قبر أمه والإذن في ذلك دليل جواز زيارة القبور وصله الآباء المشركين، وإذا كان هذا بعد الموت ففي الحياة أحق، كأنه قصد صلى الله عليه وسلم قوة الموعظة والذكرى بمشاهدته قبرها ورؤيته مصرعها، وشكر الله على ما من به عليه من الإسلام، الذي حرمته وخص قبرها لمكانها منه، ويدل مقصده قوله آخر الحديث "فزوروا القبور فإنها تذكر الموت".(67).

قال ابن تيمية: "ويجوز زيارة قبر الكافر للاعتبار ولا يمنع الكافر من زيارة قبر أبيه المسلم"(68).

ما يقوله إذا مر بقبر غير المسلم:
لا يسلم عليه ولا يدعو له، بل يبشره بالنار.

ففي حديث سعد بن أبي وقاص قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبى كان يصل الرحم، وكان، وكان، فأين هو؟.

قال: "في النار" فكأن الأعرابي وجد من ذلك، فقال: يا رسول الله: فأين أبوك، قال: "حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار" قال: فأسلم الأعرابي بعد، فقال: لقد كلفني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعباً،  ما مررتُ بقبر كافرٍ إلا بشرته بالنار" (69).

المطلب الثاني: التعزية
لغة: من العزاء: وهو الصبر على كل ما فقدت.

تقول: عزيت فلاناً أعزيه تعزية أي: آسيته وحزبت له الأسى.

وأمرت بالعزاء فتعزى تعزياً، أي تصبر تصبراً(70).

اصطلاحاً: التسلية وحث المصاب على الصبر بوعد الأجر والدعاء للميت إن كان مسلماً والدعاء للمصاب(71).

ويشمل الفروع الآتية:
الفرع الأول: تعزية المسلم في قربيه غير المسلم.
الفرع الثاني: تعزية غير المسلم إذا مات له قريب مسلم أو (غير مسلم).

الفرع الأول: تعزية المسلم في قريبه غير المسلم
ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز تعزية المسلم في قريبه غير المسلم.

وصيغة التعزية عندهم (عظم الله أجرك وأحسن عزاءك) (72).

وقالوا: التعزية بالميت تجمع ثلاث أشياء:
أحدها: تهوين المصيبة على المعزي وتسليته منها، وتحضيضه على التزام الصبر، واحتساب الأجر بقدر الله، والتسليم لأمره.

الثاني: الدعاء له بأن يعوض الله من مصابه جزيل الثواب ويحسن له العقبى والمآب.

الثالث: الدعاء للميت والترحم عليه، والاستغفار له، فليس تحظير الدعاء للميت غير المسلم والترحم عليه والاستغفار له، لقوله: "ما كان النبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى" (التوبة: 113).

بالذي يمنع من تعزية ابنه المسلم بمصابه، إذ لا مصيبة على الرجل أعظم من أن يموت أبوه الذي يحن عليه –وينفعه في دنياه– كافراً، فلا يجتمع به في أخراه، فتهونه، فتهون عليه مصيبته، ويسليه منها.

ويعزيه فيها بمن مات للأنبياء الأبرار –عليهم السلام– من القرابة، والآباء الكفار، ويحضه على الرضى بقضاء الله، ويدعو له في جزيل الثواب إلى الله.

إذ لا يمنع أن يؤجر المسلم بموت أبيه الكافر، إذا شكر الله وسلم لأمره ورضي بقضائه وقدره، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال المسلم يصاب في أهله وولده، حتى يلقى الله وليس له خطيئة"(73).

ولم يفرق بين مسلم وكافر، وهل يشك أحد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أجر بموت عمه أبي طالب لما وجد عليه من الحزن والإشفاق(74).

الفرع الثاني: تعزية غير المسلم إذا مات له قريب مسلم أو غير مسلم:
ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز تعزية غير المسلم بموت قريبه المسلم أو غير المسلم.

وصيغة التعزية في موت المسلم "غفر الله لميتك وأحسن عزاءك".

وفي تعزيته بغير المسلم " أخلف الله عليك ولا نقص عددك"(75).

وقالوا: إذا كنا نعودهم كما عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- الغلام اليهودي فكذلك نعزيهم.

وإذا قصد من التعزية ترغيبه في الإسلام فكما جوزنا عبادته إذا مرض فتجوز تعزيته في وفاة قريبه وذلك لتأليف قلبه وإظهار محاسن الإسلام له.
 
المطلب الثالث: دفن المسلم في مقابر المسلمين.
اتفق الفقهاء على أنه لا يدفن مسلم في مقبرة غير المسلمين إلا للضرورة.

والدليل على ذلك:
حديث بشير بن نهيك، قال بينما أنا أماشي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بقبور المشركين، قال: "لقد سبق هؤلاء خيراً كثيراً ثلاثاً، ثم مر بقبور المسلمين فقال: "لقد أدرك هؤلاء خيراً كثيراً........"(76).

وجه الدلالة:
تفريق قبور المسلمين عن قبور غير المسلمين مما يدل على عدم جواز دفن المسلم في مقبرة غير المسلمين.

وقد ناقش المجمع الفقهي قضية دفن المسلم في مقابر غير المسلمين المنعقدة في مؤتمره الثالث بالعاصمة عمان بالمملكة الأردنية الهاشمية في 16 تشرين الأول 1986م.

فقد سُئِلَ:
"وما حكم دفن المسلم في مقابر غير المسلمين حيث لا يسمح بالدفن خارج المقابر المعدة لذلك ولا توجد مقابر خاصة بالمسلمين في معظم الولايات الأمريكية والأقطار الأوروبية؟

الجواب:
إن دفن المسلم في مقابر غير المسلمين في بلاد غير إسلامية جائز للضرورة" (77).
----------------------------------------
(1) ابن قدامه [ج1 / ص443]
(2)- صحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب كون الإسلام يهدم ما قبله حديث رقم 192.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم [ج1 / ص416] , (4)صحيح مسلم – كتاب الايمان – حديث رقم 189
(4) صحيح البخاري – كتاب استتابة. المرتدين – باب إثم من أشرك بالله، حديث رقم 6921.
(5) شرح النووي على صحيح مسلم: [1ج / ص413]
(6) البهوتي : كشاف القناع [ج1 / ص310]
(7) ابن عبد البر: الاستذكار [1ج / ص226]، الماوردي الحاوي الكبير [ج1 / ص34]
(8) صحيح البخاري – كتاب مواقيت الصلاة – باب من أدرك من الفجر ركعه – حديث رقم 579
(9) التمهيد [ج1 / ص158]
(10) حاشية ابن عابدين [2ج / ص468]
(12) سنن أبي داود – كتاب الصلاة – باب في المواقيت حديث رقم 393.
(13) صحيح مسلم – كتاب المساجد – باب أوقات الصلاة الخمس حديث رقم 612.
(14) سنن الترمذي – كتاب الصلاة – باب ما جاء في مواقيت الصلاة حديث رقم 151.
(15) ابن نجيم : الأشباه والنظائر، القاهرة، مؤسسة الحلبي (1968)م [ص303]
(16) عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، الإمام الكبير، برز في جميع الفنون وفاق الأقران، الشوكاني: الضوء اللامع [ج1 / ص230]
(17) الأشباه والنظائر ( ص 220)
(18) مجموعة الفتاوى: [ج2 / ص28]،
(19) المصدر السابق
(20)- صحيح البخاري – كتاب المتيمم هل ينفخ فيهما، حديث رقم 338.
(21)- ابن تيمية: مجموع الفتاوى [ج2 / ص29]
(22)- صحيح مسلم – كتاب الصلاة – باب صلاة المسافرين حديث رقم 685
(23)- ابن تيمية: مجموع الفتاوي [ج2 / ص29]
(24) المرجع السابق
(25) صحيح ابن حيان بترتيب ابن بلبان حديث رقم 7219
(26) مجموع الفتاوى [ج2 / ص63]،
(27) ابن الهمام [ج1 / ص502]، ابن قدامه [ج1 / ص592]
(28) لا تخفروا: أي لا تغدروا، ابن حجر: فتح الباري [ج1 / ص592]
(29) صحيح البخاري – كتاب الصلاة – باب فضل استقبال القبلة، حديث رقم 391.
(30) منصور بن يونس بن صلاح الدين المشهور بالبهوتي، شيخ الحنابلة في مصر، النعت الأكمل [ص210], شرح منتهى الارادات (ج 1/ ص413)
(31) الإجماع، عجمان: مكتبة الفرقان ط 2 (1999م) [ص42]
(32) الكاساني: بدائع الصنائع [ج1 / ص336]، النووي المجموع [ج3 / ص260]
(33) القرافي: [ج2 / ص168]
(34) صحيح البخاري – كتاب الأذان – باب الأذان للمسافر حديث رقم 631
(35) الماوردي: الحاوي الكبير [ج2 / ص96]
(36) ابن القيم: شرح سنن أبي داود [ج1 / ص63]
(37) البهوتي: شرح منتهى الإرادات [ج1 / ص373]
(38) التاج والإكليل [ج2 / ص211]، النووي: المجموع [ج3 / ص283]
(39) صحيح البخاري – كتاب الأذان – باب وجوب القراءة للإمام والمأموم حديث رقم 756
(40) الصنعاني : سبل الإسلام، بيروت: دار الكتاب العربي ط 1 (1991م) [ج1 / ص349]
(41) صحيح مسلم – كتاب الصلاة – باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، حديث رقم 881
(42) ابن عبد البر: التمهيد  [ج3 / ص151]
(43)- سنن الترمذي – كتاب الصلاة – باب ما جاء في وصف الصلاة حديث رقم 303 وقال: حديث حسن.
(44) سنن أبي داود – كتاب الصلاة – باب ما يجزئ الأمي والأعجمي من القراءة، حديث رقم 832
(45)- ابن قدامه المغني [ج1 / ص523]
(46)- القرافي: الذخيرة [ج2 / 186]، النووي ، المجموع [ج3 / ص241]
(47) المغنى: [ج1 / ص562]
(48) الماوردي: الحاوي الكبير [ج2 / ص114]
(49) الماوردي: الحاوي الكبير [2ج / ص114]
(50) ابن منظور: لسان العرب مادة جنز [ج2 / ص383]
(51) ابن عابدين: [ج9 / ص473]، ابن عبد البر: التمهيد [ج15 / ص403].
(52) الفتاوى الكبرى [ج5 / ص544]
(53) صحيح البخاري – كتاب الجنائز – باب إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلا الله رقم (1360).
(54) ابن القيم زاد المعاد في هدى الخير العباد [ج1 – ص494]
(55) أخرجه البخاري – كتاب الجنائز – باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه رقم (1356)
(56) نيل الأوطار [ج8 / ص77]
(57) حاشية ابن عابدين  [ج3 / ص125]، ابن قدامه: المغني[ج2 / ص397]
(58) السرخسي : المبسوط  [1 / 2 / 55]
(59) التورية: الستر، أبو عبيد: غريب الحديث  [1ج / ص198]
(60) أخرجه أبو داود في الجنائز باب 66، الرجل يموت له قرابه مشرك رقم 3214
    وقال الرافعي: أنه حديث ثابت مشهور" تلخيص الحبير  [2ج / ص114]
(61) عبد الله بن يوسف بن محمد، فقيه حنفي طلب الحديث واعتنى به. المكي ذيل طبقات الحفاظ  [ج5  / ص88]
(62) نصب الراية  [ج2 / ص289]
(63) سنن سعيد بن منصور  [ج5 / ص227 1037]
(64) السرخسي: المبسوط  [ج2 / ص55]
(65) 2 الاستذكار [ج2 / ص161]، النووي: المجموع  [ج5 / ص120]
(66) أخرجه الترمذي بهذا اللفظ في كتاب الجنائز – باب الرخصة في زيارة القبور رقم 1054
(67) صحيح مسلم – كتاب الجنائز – باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه في زيارة قبر أمه حديث رقم 2259.
(68) إكمال المعلم بفوائد مسلم  [ج3 / ص452]
(69) الفتاوى الكبرى  [ج5 /ص62 3]
(70) أخرجه ابن ماجه – كتاب الجنائز – حديث رقم 1573، وصححه الألباني من أحكام الجنائز  [ص251]
(71) لسان العرب مادة عزاء  [9ج / ص196] ,(4) كشاف القناع (2ج/224)
(72) النووي المجموع [ج5 / ص275]، البهوتي كشاف القناع [ج2 / 224]
(73) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [ج3 / ص524]
(74) ابن رشد: البيان والتحصيل  [ج2 / ص212]
(74) الفتاوى الهندية  [ج1 / ص167]- الشربيني: مغني المحتاج  [ج2 / ص42]
(75) أخرجه أبو داود – كتاب الجنائز رقم 1664، وقال النووي: "إسناده حسن" المجموع  [ج5 / 288]
(76) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي (طبع على نفقة أحمد بن خليفة الثاني إيراد الأوقاف) قرار رقم 23 /  [11 / 3 / ص87]