الإهداء والمقدمة Aiaoo_11
إهــــداء
أهدي هذا العمل إلى روح والدي/ عبد الله السَّـحْت (رحمه الله تعالى).
وإلى أخي وصديقي العزيز المهندس/ عادل محمد عبد المعين العجرودي (رحمه الله تعالى).
وإلى كل المُحِبّينَ في كل مكان.

رقم الإيداع بدار الكتب
17521 / 2003م
الترقيم الدولي
I.S.B.N.  977-17-1065-6
القاهرة طبعة أولى
1424هـ / 2003م.


المقـــــدمـــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خـلق الإنسان، علمه البيان، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، خاتم الأنبياء والمرسلين، وأفضل ولد آدم ولا فخر، قدوة المؤمنين، وأستاذ الدعاة المخلصين، وأشهد أنه قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله على يديه الغمة، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها ونهارها سواء، لا يزيغ عنها إلا هالك.
فاللهم صلاة وسلاماً دائمين متلازمين عليه، وعلى آله وأصحابه، وأحبابه، وأتباعه، ومن تمسك بسنته، وسار على هديه إلى يوم الدين...
أمَّا بعـد!!
فإن المسلم الحق هو من سلم المسلمون من لسانه ويده، كما أن المهاجر الحق هو: من هجر ما نهى الله تعالى عنه، وكلما حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه من الأقوال، والأفعال، والاعتقادات!!
وإذا كان المرء المسلم مرهون بإصغريه: قلبه، ولسانه، لأن القلب كالبئر، وإن اللسان كالرشاء (1)، فإن كان في القلب خير؛ غرف اللسان خيراً، وإن كان فيه شر، أو دخَلٌ (2)، أو ذبذبة، غرف اللسان من ذلك بحسبه.
واللسان ستار الإنسان بوجه عام، الذي يختفي وراءه، فإذا تكلم أظهر نفسه، وأعلن على الملأ عنها دون مواراة (3)، قال -صلى الله عليه وسلم-: (المرء مخبوء (4) تحت لسانه، فإذا تكلم ظهر!!)
ورحم الله إنساناً مسلماً خزن من لسانه، وأمسك الفضل من كلامه، ولم يطلق للسانه العنان، يجلد به الناس، ويلوك (5) سيرتهم بالباطل، ومن حسب كلامه من عمله؛ قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه!!
ورحم الله تعالى مسلماً رزقه الله تعالى لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وبدناً على البلاء صابراً، وسلبه لساناً لعَّاناً، فحَّاشاً عيَّاباً، نمَّاماً مُغتاباً، سبَّاباً صخَّاباً آمين.
والوجه مرآة اللسان، وصورة القلب، فمهما احترف المنافقون تزيين أقوالهم، وأتقنوا تزييف أحاديثهم؛ حتى يحظوا بمصداقية وهمية عند الناس في الدنيا؛ إلا أن الوجه سرعان ما يفضحهم،ويكشف للمتقين خبث طويتهم (6)، وسوء نيتهم، ودخَلَ قلوبهم، ومهما توارى المؤمنون عن أعين الناس، وحاولوا عدم الظهور أمامهم خوفاً على أنفسهم من المفسدة المحتملة من مخالطتهم، أو استحيوا منهم تواضعاً لله وحده، ورجاء تحقيق الإخلاص الكامل لله رب العالمين في كل حركاتهم وسكناتهم، في غدوهم (7) ورواحهم (8)، في فرحهم وترحهم (9)، في حلهم (10) وترحالهم (11)، في ظعنهم (12) وإقامتهم (13)، في سلمهم (14) وحربهم، في دعائهم ودعوتهم، في سرهم وعلانيتهم، في خَلْوتهم (15) وجَلْوتهم (16)، في الغيب (17) والشهادة (18)، في الانفراد والجماعة؛ مهما حاولوا ذلك: فإن الوجه يكبر الخير المكنون في نفوسهم، ويظهر الإيمان الباطن في قلوبهم!! يعرف ذلك المسلم القوي الصلة بالله تعالى.
وقد نشأ عن قراءة الوجه ما يعرف بـ (الفراسة) وهي: نور يقذفه الله تعالى في قلب من شاء من عباده المؤمنين، حيث يرى المتفرِّس بنور الله تعالى في وجه المتفرَّس ما لا يراه المرئي من نفسه، ولا يمكن أن يحوم طائر فكره إليه.
والفراسة موجودة في الناس من لدن آدم -عليه السلام- إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكلما ازداد العبد قرباً من ربه، وتوثقت صلته بخالقه؛ كلما صدقت فراسته، وتحقق حدسه (19)، وقلما خاب ظنه، ونادراً ما يسوء وصفه، ويبطل حكمه.
والفراسة هي البصيرة، وهي الحكمة، وكلاهما يحتاجهما المسلم في حياته كلها، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، والبصيرة سهم الداعية الناجح، الذي يصيب به شغاف قلب المدعوين من أقرب الطرق، وبأقل كلفة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
إن لشهر رمضان في نفوس المسلمين, وقلوبهم, مكانة عظمى, بين الشهور, لأسباب كثيرة منها:
•    أنه الشهر الوحيد الذي ذكره الله تعالى في كتابه الكريم, فقال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ (20).
* وأنه الوعاء الزمني الذي أنزل الله تعالى فيه القرآن الكريم مجملا من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا, ثم أنزله الله تعالى منجماً (21), حسب الحوادث على مدار ثلاثة وعشرين عاماً, هي مدة البعثة النبوية المشرفة.
*  وأنه الشهر الذي يحوي أفضل ليلة على الإطلاق, وأكرم ليلة على الله تعالى, وأعظم ليلة باركها الله تعالى لعباده المؤمنين, وهي ليلة القدر, التي قال الله فيها: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ (22).
وقال تعالى: ﴿حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الْأَوَّلِينَ﴾ (23).
* وأنه الشهر الذي تضاعف فيه الحسنات و الأجور على الأعمال الصالحات, وعلى سائر الطاعات والقربات, يوضح ذلك حديث سليمان الفارسي -رضي الله عنه- والذي أخرجه ابن خزيّمة في صحيحه, والبيهقي في سننه, وصححه المنذري في الترغيب والترهيب, وفيه يقول سلمان رضي الله عنه: " خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آخر يوم من شعبان فقال: (أيها الناس!! قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر  يزداد فيه رزق المؤمن، من فطَّر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينتقص من أجره شيء). قالوا: ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم!! فقال: (يعطي الله هذا الثواب من فطر صائماً على تمرة، أو شربة ماء، أو مذقة (24) لبن، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، من خفَّف عن مملوكه (25) غفر الله له، وأعتقه من النار، واستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى بكم عنهما (26)، فأمَّا الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه، وأمَّا اللتان لا غنى بكم عنهما: فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من النار، ومَنْ أشبع فيه صائماً سقاه اللهُ من حوضي شربةً لا يظمأ (27) حتى يدخل الجنة) (28).
ولذا يحرص الناس على إحياء  هذا الشهر الفضيل في ليله ونهاره, بسائر أنواع الطاعات, والعديد من القربات, من إطعام الطعام, وتلاوة القرآن, وصلة الأرحام, وقيام الليل بالصلاة والعبادات, وكثرة الصدقات.
•    لكن لا يخلو حال المسلمين -إلا القليل منهم- من الوقوع في براثن السلوكيات المرفوضة, التي انزلقوا إليها على حين غرّة, وقد تكون عن قصد وعمد.
ولقد كثرت هذه السلوكيات المرفوضة, حتى أصبحت سبٌة في جبين المسلمين, ووصمة عار في حياة المسؤولين عن التوجيه والإرشاد في ديار الإسلام, وليسألن يوم القيامة عما كانوا يعملون.
ومن هذه السلوكيات المرفوضة في شهر رمضان خاصة ما سنتناوله في هذا البحث بشيء من التفصيل، على قدر ما يتسع له المقام إن شاء الله تعالى.
وسنقدم إن شاء الله تعالى بين يدي ذلك ببيان مفهوم السلوك، مع ذكر فلسفة السلوك الإنساني، وكيفية تحقيق منظومة السلوك الإسلامي في عقد نضيد، من خلال معرفة مصادر السلوك الإسلامي الرشيد، وضرورة الرجوع إليها لمعرفة مدى رفض الإسلام للسلوكيات الوافدة على أهله، وماذا قدم الإسلام بمصدريه للحيلولة دون شيوع مفاسد تلك السلوكيات المرفوضة في المجتمع، وصيانة عقيدة المسلمين من عوامل الانفصام بينها وبين سلوك معتقديها، محاولين النصح لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، حسبة لله تعالى، سائلين الله تعالى أن يتقبله منا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعله شاهداً لنا لا علينا يوم نلقاه!!
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه العبد الفقير إلى الله تعالى:
عبد الله عبد الله السَّــحْـت
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
القاهرة الجديدة في:
يوم الأحد
1 ذي الحجة 1423هـ
2 فبراير 2003م
------------------------------------
الهوامش:
1. الدلو، أو المغرفة.
2. الاضطراب، أو الشك، أو عدم اليقين مطلقاً.
3. المواراة: الاخفاء، ومنه التورية: إخفاء المعنى الحقيقي وإظهار معان أخرى يحتملها اللفظ المستعمل.
4. مختفي.
5. يخوض في أعراضهم.
6. الطوية: ما يطويه الإنسان عن غيره، أي: يخفيه عنهم، بقصد حسن، أو بغير قصد حسن.
7. الغدو: حركة البكور، ويقصد به هنا الخروج من البيت صباحاً، سعياً وراء الرزق الحلال، من مصدره الحلال.
8. الرواح: عكس الغدو.
9. الترح: الحزن الشديد.
10. الحِل: ما يحلون فيه أي: المكان الذي ينزلون فيه للراحة أثناء السفر خاصة.
11. التِرْحال: عملية الرحيل ذاتها، والمراد: في أثناء السفر.
12. الظعن: السفر مع الرفقة المأمونة بزاد.
13. الإقامة: البقاء في المكان مدة طويلة، يقال له فيها: مقيم.
14. السِّلم: الإسلام، والسِّلم: المسالمة والموادعة، وعدم الحرب.
15. الخلوة: الانفراد عن الناس، وعدم مخالطتهم.
16. الجلوة: الظهور والمخالطة .
17. كل ما لا يدرك بأحد الحواس الخمسة: اللسان، العين، الأنف، الأذن، اليد، فإذا أدرك بواحد من هذه الخمسة، فليس غيباً.
18. ما أدرك بواحد من الحواس الخمسة، وخاصة العين.
19. الحدس: مرادف الفراسة، ويحمل معنى البصيرة.
20. البقرة / 185.
21. مفرقاً.
22. سورة القدر.
23. أوائل سورة الدخان.
24. المذقة: هي الرشفة، أو مقدار ما يملأ الفم مرة واحدة.
25. المملوك: العبد، ومن في حكمه نحو الأجراء، والخدم وغير ذلك.
26. أي لا تستغنون عنهما، لحاجتكم الشديدة إليهما.
27. الظمأ: العطش.
28. رواه ابن خزيمة في صحيحه: 5 ك /الصوم - 8ب /فضائل شهر رمضان في صحيحه إن صح الخبر - ح /1887 بلفظه، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب بنحوه: 2 /108 - ح /1487، عن ابن خزيمة، وزاد قوله: ”رواه من طريق البيهقي، ورواه أبو الشيخ ابن حبان في الثواب باختصار عنهما، وفي أسانيدهم على بن زيد بن جدعان” أي: ضعيف الإسناد بزيد هذا، وانظر أيضاً: الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني لأحمد بن عبد الرحمن البنا: 9 /233.