مُحَمَّد المثال الأسمى
رؤية فيلسوف هندوسي معاصر لنبي الإسلام
ك. س. رامكرشنة راو
أستاذ الفلسفة بجامعة ميسور في الهند
الفصل الأول
مُحَمَّد نبي الإسلام
البدايات (22):
ولد مُحَمَّدٌ وفقاً لِمَا قَرَّرَهُ المؤرخون المسلمون في صحراء الجزيرة العربية يوم العشرين من شهر إبريل في عام خمسمائة وواحد وسبعين بعد المسيح.
واسمه يعني "المُثنى عليه أو الممدوح أو المحمود حمداً كثيراً". (23)
وهو بالنسبة لي أعظم عقل مُفَكِّرٍ أنجبته الجزيرة العربية على الإطلاق.
إنه أعظم بكثير من جميع الشعراء والملوك الذين عاشوا قبله أو جاءوا بعده في هذه الصحراء المعزولة ذات الرمال الحمراء.
وحينما ظهر مُحَمَّدٌ لم تكن الجزيرة العربية شيئاً مذكوراً.
ومن هذه الصحراء التي لم تكن شيئاً مذكوراً إستطاع مُحَمَّد بروحه العظيمة أن ينشئ منها عالماً جديداً وحياةً جديدةً وثقافةً جديدةً وحضارةً جديدةً ومملكةً جديدةً إمتدَّت من مراكش إلى شبه القارة الهندية، وأن يؤثر في فكر وحياة ثلاث قارات هي آسيا وإفريقية وأوروبا.
الحاجة إلى التفاهم:
عندما فكرت في الكتابة عن النبي مُحَمَّد كنت متردداً بعض الشيء لأنني سأكتب عن دين لا أعتنقه، (24) وإنه لأمر بالغ الحساسية أن يفعل المرء ذلك لأنه يوجد الكثير من الناس الذين يعتنقون ديانات متنوعة وينتمون إلى مذاهب فكرية وطوائف مختلفة حتى داخل الدين الواحد.
وعلى الرغم من أن البعض يزعم أحياناً أن الديانة مسألة شخصية تماماً فإنه لا يمكن إغفال أن الدين يميل إلى الإحاطة بالكون بأسره ما نرى منه وما لا نرى أيضاً.
وهو بطريقة ما يتخلل مـن حين إلى آخر قلوبنا وأنفسنا وعقولنا فـي مناطـق الوعي ومـا دون الوعي (subconscious) واللاوعي (unconscious) منها، أو أي من تلك المناطق الي تشتمل عليها أو يفترض أنها تشتمل عليها.
وتأخذ المسألة أهمية بالغة عندما نقتنع اقتناعاً راسخاً أن ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا رهن هذا الخيط الحريري اللين الدقيق المُسَمَّى بالدين.
أمَّا إذا كنا شديدي الحساسية فإن مركز الثقل يكون في الغالب دائماً في حالة توتر قصوى.
وبالنظر إلى المسألة من هذه الزاوية يتضح لنا أنه كلما قل الكلام عن ديانة الآخرين كلما كان ذلك أفضل.
ولندع أدياننا واعتقاداتنا مخفية ومغمورة في أعماق ثنايا قلوبنا الداخلية مُحَصَّنَةً بأختام من شفاهنا لا تنكسر.
جماعية الإنسان:
ولكن يوجد جانب آخر لهذه المسألة.
فالإنسان يعيش في المجتمع وترتبط حياتنا شِئْنَا أم أبَيْنَا وبطريقة مباشرة وغير مباشرة – بحياة الكثيرين.
فنحن جميعاً نأكل من ثمرات تزرع في نفس الأرض ونشرب الماء من نفس النبع ونسنتنشق هواء نفس الجو.
ومع تمسكنا الشديد بآرائنا الشخصية فإنه سيكون من المفيد –لا لغرض آخر سوى تشجيع الانضباط المناسب في البيئة المحيطة بنا– لو أننا عرفنا أيضاً بدرجة أو بأخرى كيف يفكر جارنا وما هي المنابع الأصلية لتصرفاته.
ومن زاوية الرؤية هذه تصبح محاولة المرء للتعرف على جميع أديان العالم شيئاً مرغوباً فيه، وذلك بالروح الصحيحة، من أجل تشجيع التفاهم المتبادل والتقبل الأفضل لجيراننا على المدى القريب والبعيد.
كما أن أفكارنا ليست متناثرة ومبعثرة كما تبدو كذلك في الظاهر.
فلقد تبلورت تلك الأفكار حول بضع أنوية في شكل أديان العالم الكبرى والعقائد الحية التي ترشد وتدفع حياة الملايين من سكان أرضنا هذه.
وإذا كنا نفكر في أن نصبح في يوم من الأيام مواطنين للعالم الذي بين أيدينا، فمن واجبنا أن نحاول ولو محاولة صغيرة التعرف على أديان العالم الكبرى ونظم الفلسفة التي تحكم البشرية.
النبي شخصية تاريخية (25):
وعلى الرغم من هذه الملاحظات التمهيدية فإن الأرض التي يجري عليها الصراع بين العقل والعاطفة في مجال الدين زلقة جداً لدرجة أن المرء ليُذكَّر باستمرار بالحمقى الذين يندفعون حيث تهاب الملائكة الاقتراب.
والأمر أيضاً معقد جداً لسبب آخر.
فموضوع كتابي هو شرائع ديانة تاريخية ونبيها، وهو أيضا شخصية تاريخية لدرجة أن ناقداً عدوانياً مثل السير "وليم موير" يقول متحدثاً عن القرآن الكريم: "لا يوجد في العالم على الأرجح كتاباً آخر بقي إثني عشر قرناً (26) بنص بمثل هذا النقاء".
ويمكنني أن أضيف أن النبي مُحَمَّد شخصية تاريخية (27) أيضاً.
فكل حادثة في حياته دونت بدقة بالغة وحتى أدق التفاصيل حفظت سليمة للمتأخرين.
إن حياته وأعماله لم يكتنفهما الغموض ولم تكن محاطة بالأسرار.
ولا يحتاج المرء إلى البحث المجهد عن المعلومات الدقيقة ولا الإنطلاق في رحلات مرهقة لكي يفصل القشرة عن حبة الحق (28).
إساءة عرض وتقديم الإسلام في الماضي:
إن عملي هذا مستنير لأن الأيام التي كان يُسَاءُ فيها إلى حَدٍّ بعيد عرض الإسلام وتقديمه بواسطة نقاده (29) لأسباب سياسية وغير سياسية هي في إدبار وإلى زوال.
يقول الأستاذ بيفان (Prof. Bevan) في كتاب "كمبردج لتاريخ العصور الوسطى": "إن التقارير التي وصف فيها مُحَمَّداً والإسلام المنشورة في أوروبا قبل بداية القرن التاسع عشر يجب اعتبارها الآن مجـرد فضول أدبي أو استثناءات أدبيـة (Literary curiosities)".
إن المشكلة التي أواجهها مـن أجل كتابة هـذه الفقرة أصبحت أكثر سهولة مـن ذي قبل لأننا كنقاد وبوجه عام لم نعـد نقتات الآن على مثل هـذا النوع مـن التاريخ.
ولسنا فـي حاجة إلـى كثير مـن الوقت نمضيه في الإشارة إلى إساءاتنا فـي عرض الإسلام وتقديمه.
فمثلاً النظرية التـي تقول بانتشار الإسلام بالسيف لم تعـد تُردَّد الآن بكثرة في أي دائرة تستحق الذكر.
فمبدأ "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" (30) هو مبدأ معروف ومشهور جداً في الإسلام.
يقول المؤرخ العالمي الشهير "جيبون": (31)
"إن شريعة خبيثة قد ألصقت بالمُحَمَّديين (32) وهي واجب استئصال جميع الأديان بالسيف" (33).
ويقول المؤرخ البارز أن هذه التهمة الجاهلة والمتطرفة يدحضها القرآن كما يدحضها تاريخ الفتوحات الإسلامية.
وما اشتهر الفاتحون به من تسامح تجاه العبادة المسيحية معروف ومشروع.
إن أعظم نجاح في حياة مُحَمَّد جاء نتيجة للقوة الأخلاقية فقط وبلا ضربة سيف واحدة.