حديث..
بئس مطية الرجل زعموا.. وكفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع..

39.    تأكد من الخطأ قبل النصيحة..
كان واضحاً من نبرة صوته لما اتصل بي.. أنه كن غضباناً يكتم غيظه قدر المستطاع..
ليست هذه هي النبرة التي تعودت عليها من فهد..
شعرت أن عنده شيئاً..
بدأ كلامه.. متحدثاً عن الفتن وتعرض الناس لها..
ثم احتدت النبرة.. وجعل يكرر: أنت داعية.. وطالب علم.. وأفعالك محسوبة عليك..
قلت: أبا عبد الله ليتك تدخل في الموضوع مباشرة..
قال: المحاضرة لتي ألقيتها في.. وقلت..
تعجبت.. قلت: متى كان ذلك؟
قال: قبل ثلاثة أسابيع..
قلت: لم أذهب لتلك المنطقة منذ سنة..
قال: بلى.. وتحدثت عن كذا..
ثم تبين لي أن صاحبي.. بلغته إشاعة فصدقها.. وبنى على أساسها مناصحته.. وموقفه.. وكلامه..
صحيح أنني لا أزال أحبه.. لكن نظرتي إليه قصرت.. لأنني اكتشفت أنه متسرع.. ومثل ما يقولون (يطير في العجّة)..!!
كم هم أولئك الذين يبنون مواقفهم ونظراتهم على إشاعات..
قليل منهم من يأتيك مناصحاً.. ليكتشف بعدها أنه كان يجري وراء إشاعة..
وكثير منهم من تنطبع هذه الإشاعة في قلبه.. ويكوّن على أساسه تصوره عنك.. وهي كذبة..
أحياناً يشاع أن فلاناً فعل كذا وكذا..
فلأجل أن تحتفظ بقدرك عنده.. تأكد من الخبر قبل الكلام عنه..
وهذا منهج النبي -صلى الله عليه وسلم-..
أتى رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.. فنظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه..
فإذا رجل رث الهيئة.. مغبر الشعر.. فأراد -صلى الله عليه وسلم- أن ينصحه ليصلح من هيئته.. لكنه خشي أن يكون الرجل فقيراً أصلاً.. ليس ذا مال..
فقال له: هل لك من مال؟
قلت: نعم..
قال: من أي المال..؟
قال: من كل المال.. من الإبل.. والرقيق.. والخيل.. والغنم..
قال: فإذا آتاك الله مالاً.. فليُر عليك..
ثم قال: تنتج إبل قومك صحاح آذانها.. فتعمد إلى الموسى.. فتقطع آذانها..
فتقول: هذه بحيرة.. وتشقها.. أو تشق جلودها..
وتقول:هذه صرم.. فتحرمها عليك وعلى أهلك..
قال: نعم..
قال: فإن ما أعطاك الله لك حل.. موسى الله أحد..
وفي عام الوفود.. كان بعض الناس يأتي مسلماً.. ويبايع النبي -صلى الله عليه وسلم-.. وبعضهم يأتي كافراً.. ويسلم أو يعاهد..
فبينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه يوماً.. إذ جاء وفد الصّدِف.. وهم بضعة عشر راكبا.. فأقبلوا إلى مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم-.. فجلسوا و لم يسلموا..
فسألأهم: " أمسلمون أنتم؟ "
قالوا: نعم.. قال: " فهلا سلمتم؟ "..
فقاموا قياماً فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته..
فقال: " وعليكم السلام.. اجلسوا ".. فجلسوا ثم سألوه -صلى الله عليه وسلم- عن أوقات الصلوات..
وفي عهد عمر ?.. توسعت بلاد الإسلام..
فعين عمر سعد بن أبي وقاص أميراً على الكوفة..
كان أهل الكوفة حينذاك مشاغبين على ولاتهم..
أرسل نفر منهم رسالة إلى الخليفة عمر ?.. يشتكون إليه من سعد..
وذكروا عيوباً كثيرة.. حتى إنهم قالوا: ولا يحسن أن يصلي!!
فلما قرأ عمر الكتاب.. لم يتسرع باتخاذ قرار.. ولا كتابة نصيحة..
وإنما أرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة معه كتاب إلى سعد..
وأمره أن يسير مع سعد ويسأل الناس عنه..
جعل محمد بن مسلمة يصلي مع سعد في المساجد.. ويسأل الناس عن سعد..
ولم يدع مسجد إلا سأل عنه.. ولا يذكرون عن سعد إلا معروفاً..
حتى دخلا مسجداً لبني عبس..
فقام محمد بن مسلمة.. وسأل الناس عن أميرهم سعد؟؟
فأثنوا عليه خيراً..
فقال محمد: أنشدكم بالله.. هل تعلمون منه غير ذلك؟
قالوا: لا نعلم إلا خيراً..
فكرر عليهم السؤال..
عندها قام رجل في آخر المسجد.. اسمه أسامة بن قتادة.. فقال:
أما إذ نشدتنا بالله.. فاسمع:
إن سعداً كان لا يسير بالسوية.. ولا يعدل في القضية..
فعجب سعد وقال: أنا كذلك؟
قال الرجل نعم..
فقال سعد: أما والله لأدعون بثلاث:
اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً.. وقد قام رياء وسمعة..
اللهم فـ:
•    أطل عمره..
•    وأطل فقره..
•    وعرضه للفتن..
ثم خرج سعد من المسجد..
ومضى إلى لمدينة ومات بعدها بسنوات..
أما ذلك الرجل فلا زالت دعوة سعد تلاحقه..
حتى كبرت سنه.. ورق عظمه.. واحدودب ظهره..
وطال عمره حتى مل من حياته.. واشتد فقره..
فكان يجلس وسط الطريق يسأل الناس.. وقد سقط حاجباه على عينيه من شدة الكبر.. فإذا مرت به النساء مد يده يغمزهن ويتعرض لهن..
فكان الناس يصيحون به.. ويسبونه.. فيقول:
وماذا أفعل!! شيخ كبير مفتون.. أصابتني دعوة الرجل الصالح سعد بن أبي وقاص..