الباب الحادي والثمانون في ذكر الموت وما يتصل به من القبر وأحواله
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات لأحدكم ميت فحسنوا كفنه وعجلوا إنجاز وصيته وأعمقوا له في قبره وجنبوه جار السوء «1»، قيل: يا رسول الله وهل ينفع الجار الصالح في الآخرة؟ قال: وهل ينفع في الدنيا؟ قالوا: نعم.
قال: وكذلك في الآخرة.
ومن وصية علي رضي الله عنه لأبي ذر: زر القبور تذكر بها الآخرة، ولا تزرها بالليل واغسل الموتى يتحرك قلبك، وصلّ على الجنائز لعل ذلك يحزنك فإن الحزين في ظل الله تعالى.
ويقال: جزعك في مصيبة صديقك أحسن من صبرك، وصبرك في مصيبتك أحسن من جزعك.
ونظر فيلسوف إلى ميت يحمل إلى قبره فقال: حبيب تحمله أهله إلى حبس الأبد.
ودخل عمرو بن العاص رضي الله عنه على معاوية في مرضة مرضها، فقال له: أعائد أنت أم شامت؟
فقال له عمرو: ولم تقول هذا، والله ما كلفتني رهقا ولا أصدعتني زلقا ولا جرعتني علقا، فلم أستطل حياتك ولم استبطىء وفاتك.
فأنشد معاوية يقول:
فهل من خالدين إذا هلكنا ... وهل في الموت بين الناس عار
ولما مرض معاوية رضي الله عنه مرضه الذي مات فيه، وفد إليه الناس يعودونه فقال لأهله: مهدوا لي فراشا وأسندوني وأوسعوا رأسي دهانا ثم اكحلوا عيني بالإثمد ثم ائذنوا للناس يدخلوا ويسلموا علي قياما ولا تجلسوا عندي أحدا، ففعلوا ذلك، فلما خرجوا من عنده أنشد يقول:
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع «2»
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع «3»
وقيل لما دنا منه الموت تمثل بهذا البيت:
هو الموت لا منجى من الموت والذي ... نحاذر بعد الموت أدهى وأقطع
ثم قال: رفع يديه وقال: اللهم أقل العثرة واعف عن الزلة وعد بحلمك على من لم يرج غيرك ولا يثق إلا بك، فإنك واسع المغفرة وليس لذي خطيئة منك مهرب.
ومات رحمه الله تعالى.
وذكر أبو العباس الشيباني قال: وفد على أبو دلف عشرة من أولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه في العلة التي مات فيها فأقاموا ببابه شهرا لا يؤذن لهم لشدة العلة التي أصيب بها، ثم أفاق فقال لخادمه بشر: إن قلبي يحدثني أن بالباب قوما لهم إلينا حوائج فافتح الباب ولا تمنعن أحدا، قال: فكان أول من دخل آل علي رضي الله عنه فسلموا عليه ثم ابتدأ الكلام رجل منهم من ولد جعفر الطيار فقال: أصلحك الله أنا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفينا من ولده وقد حطمتنا المصائب وأجحفت بنا النوائب، فإن رأيت أن تجبر كسيرا وتغني فقيرا لا يملك قطميرا فافعل.
فقال لخادمه خذ بيدي وأجلسني، ثم أقبل معتذرا إليهم ودعا بدواة وقرطاس وقال: ليكتب كل منكم بيده أنه قبض مني ألف دينار، قالوا: فبقينا والله متحيرين فلما أن كتبنا الرقاع ووضعناها بين يديه قال لخادمه: علي بالمال.
فوزن لكل واحد منا ألف دينار ثم قال لخادمه:
يا بشر إذا أنا مت فأدرج هذه الرقاع في كفني، فإذا لقيت محمدا صلى الله عليه وسلم في القيامة كانت حجة لي أني قد أغنيت عشرة من ولده ثم قال: يا غلام ادفع لكل واحد منهم ألف درهم ينفقها في طريقه حتى لا ينفق من الألف دينار شيئا حتى يصل إلى موضعه، قال: فأخذناها ودعونا له وانصرفنا ثم مات رحمه الله.
وقيل: لما دفن عمر بن عبد العزيز نزل عند دفنه مطر من السماء، فوجدوا بردة «4» مكتوبا فيها بالنور (بسم الله الرحمن الرحيم أمان لعمر بن عبد العزيز من النار).
وقيل لأعرابي: إنك تموت، قال: وإلى أين أذهب؟
قالوا: إلى الله تعالى، فقال: لا أكره أن أذهب إلى من لا أرى الخير إلا منه.
وبكى الخولاني عند موته فقيل له: ما يبكيك؟
قال: أبكي لطول السفر وقلة الزاد، وقد سلكت عقبة ولا أدري إلى أين أهبط وإلى أي مكان أسقط.
ودخل ملك الموت على داود عليه السلام فقال له: من أنت؟ قال: أنا الذي لا يهاب الملوك ولا تمنع منه القصور ولا يقبل الرشا، فقال: إذا أنت ملك الموت، وإني لم أستعد بعد، فقال له: يا داود أين فلان جارك أي فلان قريبك؟
قال: ماتا، قال: أما كان لك في موت هؤلاء عبرة لتستعد بها، ثم قبضه عليه السلام.
وفي الخبر من حديث حميد الطويل عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الملائكة تكتنف العبد وتحتبسه ولولا ذلك لكان يعدو في الصحراء والبراري من شدة سكرات الموت وقد أجمعت الأمة على أن الموت ليس له زمن معلوم فليكن المرء على أهبة من ذلك.
وقيل: بينما حسان جالس وفي حجره صبي يطعمه الزبد بالعسل إذ شرق الصبي فمات.
فقال:
إعمل وأنت صحيح مطلق فرح ... ما دمت ويحك يا مغرور في مهل
يرجو الحياة صحيح ربّما كمنت ... له المنية بين الزبد والعسل
وقيل: إن المأمون لمَّا قربت وفاته دخل عليه بعض أصدقائه فوجده قد فرش له جلد دابة وبسط عليه الرماد وهو يتمرغ فيه ويقول: يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه.
ولما احتضر عمرو بن العاص دعا بغل وقيد وقال:
ألبسوني إياهما فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن التوبة مقبولة ما لم يغرغر ابن آدم بنفسه، ثم استقبل القبلة، وقال: اللهم إنك أمرتنا فعصينا فارتكبنا، وهذا مقام العائذ بك فإن تعف فأنت أهل العفو، وإن تعاقب فبما قدمت يداي.لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، ثم مات وهو مغلول القيد، فبلغ ذلك الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما فقال: استسلم الشيخ ولعلها تنفعه.
ولما احتضر المعتصم جعلوا يهونون عليه فقال: هان على النظارة ما يمر بظهر المجلود.
وسمع أبو الدرداء رجلا في جنازة يقول: من هذا؟
فقال: أنت.
فإن كرهت فأنا.
وقيل: مات عكرمة مولى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكثير عزة في يوم واحد.
فقال: اللهم كما جمعتهما في زيارة القبور فلا تفرق بينهما يوم النشور.
فما بقي في المدينة أحد إلا استحسن كلامه.
ولما احتضر إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام قال:
هل رأيت خليلا يقبض روح خليله؟
 فأوحى الله إليه: هل رأيت خليلا يكره لقاء خليله؟
قال: فاقبض روحي الساعة.
وقيل: إذا قضى الله لرجل أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة فيسيره إليها.
وقال بعضهم:
إذا ما حمام المرء كان ببلدة ... دعته إليها حاجة فيطير «1»
حكي أن شابا تقيا من بين إسرائيل كان يجتمع مع سليمان عليه السلام ويحضر مجالسه، فبينما هو عند سليمان في مجلسه إذ دخل ملك الموت عليه، فلما رآه الشاب اصفرّ لونه وارتعدت فرائصه وقال: يا نبي الله إني خفت من هذا الرجل، فمر الريح أن تذهب بي إلى الهند، فأمر سليمان الريح فذهبت به، فما كان إلا قليل حتى دخل ملك الموت على سليمان وهو متعجب، فقال له سليمان: ممّ تعجب؟ قال: أعجب أني أمرت بقبض روح الشاب الذي كان عندك بأرض الهند ودخلت عليك فوجدته عندك، فصرت متعجبا، ثم توجهت إلى الهند فرأيته هناك وقبضت روحه فهذا عجبي.
فقال له سليمان: إنه لما رآك خاف وانزعج وطلب مني أن تحمله الريح إلى الهند فأمرتها فحملته.
وفي ذلك المعنى قال محمد بن الحسن:
ومتعب الروح مرتاح إلى بلد ... والموت يطلبه في ذلك البلد
وقيل: إن الانسان يحصل له عند الموت قوة حركة، نحو ما يحصل للسراج عند انطفائه من حركة سريعة وضياء ساطع، وتسميها الأطباء النعشة الأخيرة والله أعلم.
وقيل: إن الرشيد ماتت له جارية وكانت من خواص محاظيه، فجزع عليها جزعا شديدا، فقال لبعض أصدقائه: أما ترى ما بليت به؟ ما أحببت أحدا إلا مات.
فقال يا أمير المؤمنين: أحببني، فقال: ويحك إن الحب ليس هو شيء يصنع إنما هو شيء يقع في القلب تسوقه الأسباب، فقال: قل أنا أحبك، قال: نعم أحبك، فحمّ من وقته ومات.
وفي الحديث المرفوع: «كسر عظم الميت ككسره في حياته».
وقال يزيد بن أسلم: لقد كان يمضي في الزمن الأول أربعمائة سنة ما يسمع فيها بجنازة، وعن ميمون بن مهران قال: شهدت جنازة ابن عباس رضي الله عنه بالطائف، فلما وضع ليصلى عليه جاء طائر أبيض حتى وقف على أكفانه، ثم دخل فيها فالتمسناه فلم نجده، ولما سوينا عليه التراب سمعنا من يسمع صوته ولا نرى شخصه يقول: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ 27 ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً 28 «2» الآية.
قال ابن عباس رضي الله عنهما إن قبر آدم عليه السلام بمسجد الخيف بمنى.
وقال عطاء: بلغني أن قبره تحت المنارة التي وسط الخيف.
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى ما لا يبكيه عند ذكر الجنة والنار، فقيل له في ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا العبد منه فما بعده أيسر منه».
وعن معاذ بن رفاعة الزرقي قال: أخبرني رجل من رجال قومي أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف الليل معتجرا بعمامة من استبرق، فقال: يا محمد من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر ثوبه مبادرا إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه فوجده قبض.
وقال الحسن رضي الله عنه: ما من يوم إلا وملك الموت يتصفح وجوه الناس خمس مرات، فمن رآه على لهو ولعب أو معصية أو ضاحكا حرك رأسه وقال له: مسكين هذا العبد غافل عما يراد به، ثم يقول له: اعمل ما شئت، فإن لي فيك غمزة أقطع بها وتينك «1».
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لرجاء بن حيوه: يا رجاء إذا وضعت في لحدي، فاكشف الثوب عن وجهي فإن رأيت خيرا فاحمد الله وإن غير ذلك فاعلم أن عمر قد هلك.
قال رجاء: فلما دفناه كشفت عن وجهه، فرأيت نورا ساطعا، فحمدت الله تعالى أن قد صار إلى خير.
وقال أيضا: دخلت على عمر بن عبد العزيز وهو محتضر فقال: يا رجاء إني أرى وجوها كراما ليست بوجوه إنس ولا جان، وهو يقلب طرفه يمينا وشمالا، ثم رفع يده فقال: اللهم أنت ربي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، فإن غفرت فقد مننت وإن عاقبت فما ظلمت، إلا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك المصطفى ونبيك المرتضى، بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمة، فعليه السلام والرحمة، ثم قضى نحبه رحمة الله.
وعن أسماء بنت عميس قالت: كنت عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعدما ضربه ابن ملجم إذ شهق شهقة بعد أن أغمي عليه، ثم أفاق وقال: مرحبا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء، فقيل له ما ترى؟ قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أخي جعفر وعمي حمزة وأبواب السماء مفتحة والملائكة ينزلون علي يبشرونني بالجنة، وهذه فاطمة قد أحاط بها وصائفها من الحور العين، وهذه منازلي، لمثل هذا فليعمل العاملون.
ولما احتضر عبد الملك بن مروان قال لابنه الوليد: إذا أنا متّ إياك أن تجلس وتعصر عينيك كالمرأة الوكعاء، لكن ائترز وشمر والبس جلد النمر وضعني في حفرتي وخلّني وشأني، وعليك شأنك.
وادع الناس إلى بيعتك فمن قال برأسه هكذا «2» ، فقل له بسيفك هكذا «3» ، ثم بعث إلى محمد وخالد ابني يزيد بن معاوية، فقال: هل عندكما ندامة في بيعه الوليد؟ فقالوا: لا نعرف أحدا أحق منه بالخلافة، فقال: أما إنكما لو قلتما غير هذا لضربت الذي فيه أعينكما، ثم رفع كنار فراشه فإذا تحته سيف مسلول تحت يمينه، كل هذا وروح
ه تتردد في حنجرته، وهو يقول: الحمد لله الذي لا يبالي أصغيرا أخذ أم كبيرا.
لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ثم بعد ساعة نفذت روحه فدخل عليه الوليد ومعه بناته يبكون، فتمثل بقول الشاعر:
ومستخبر عنا يريد بنا الرّدى ... ومستخبرات والعيون سواكن
وقال محمد بن هارون:
كأنّي بإخواني على جنب حفرتي ... يهيلون فوقي «4» والعيون دما تجري
فيا أيها المذري عليّ دموعه ... ستعرض في يومين عني وعن ذكري «5»
عفا الله عنّي أنزل القبر ثاويا ... أزار فلا أدري وأجفى فلا أدري
وكان يزيد الرقاشي يقول: من كان الموت موعده والقبر بيته والثرى مسكنه والدود أنيسه وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر، كيف تكون حالته، ثم يبكي حتى يغشى عليه.
فيجب على العاقل أن يحاسب نفسه بنفسه على ما فرط من عمره، ويستعد لعاقبة أمره بصالح العمل ولا يغتر بالأمل، فإن من عاش مات ومن مات فات، وكل ما هو آت آت.
نسأل الله أن يلهمنا رشدنا ويوفقنا لاتباع أوامره واجتناب نواهيه، وأن يجعل الموت خير غائب ننتظره وأن يختم لنا بالخير وأن يتغمدنا برحمته إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.