الباب التاسع والسبعون في التوبة والاستغفار
قد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة، وأمر الله تعالى بالتوبة فقال وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ«1» ووعد بالقبول فقال تعالى: "هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ«2».
وفتح باب الرجاء فقال: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ 53«3».
وروي في الصحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيها الناس توبوا إلى الله تعالى فإني أتوب إلى الله تعالى في اليوم مائة مرة.
وروى أحمد بن عبد الرحمن السلماني قال: اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله تعالى يقبل التوبة من عبده قبل أن يموت بيوم، فقال الثاني: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
قال: وأنا سمعته يقول: إن الله تعالى يقبل توبته قبل أن يموت بنصف يوم، فقال الثالث: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
قال: وأنا سمعته يقول إن الله تعالى يقبل توبة العبد قبل موته بضحوة، أو قال بضجعة، فقال الرابع: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
قال: وأنا سمعته يقول: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل بأرض دوية مهلكة معه راحلته، فنام واستيقظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا أدركه الموت قال: أرجع إلى المكان الذي أضللتها فيه وأموت، فأتى مكانه فغلبته عينه فاستيقظ وإذا راحلته عند رأسه فيها طعامه وشرابه وزاده وما يصلحه، فالله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من هذا براحلته وزاده».
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة». (رواه البخاري).
وعن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها». (رواه مسلم).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعبد أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة؟ قال: لا، فقتله وكمل به المائة.
ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فأتاه وقال له أنه قد قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم.
ومن يحل بينك وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله تعالى فاعبد الله تعالى معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء.
فانطلق حتى كان نصف الطريق أدركه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط.
فأتاهم ملك في صورة آدمي فحكموه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى؟ فهو أقرب لها، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأَرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة». (متفق عليه وفي الصحيحين) : فكان أدنى إلى أرض التوبة الصالحة فجعل من أهلها.
وعن أبي نُجيد بضم النون وفتح الجيم عمران بن الحصين الخزاعي رضي الله عنه، أن امرأة من جهينة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا فقالت: يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فشدت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها فقال عمر: يا رسول الله تصلي عليها وقد زنت؟ قال: «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل ممن جادت بنفسها لله عز وجل». (رواه مسلم).
وعن أبي نصرة قال: لقيت مولى لأبي بكر رضي الله عنه فقلت له: سمعت من أبي بكر شيئا، قال: نعم، سمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أصر من استغفر ولو عاد إلى الذنب في اليوم سبعين مرة».
وحكي.. أن نبهان التمار وكنيته أبو مقبل أتته امرأة حسناء تشتري تمرا، فقال لها: هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه، فذهب بها إلى بيته وضمها إلى نفسه وقبلها، فقالت له: اتق الله، فتركها وندم على ذلك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فأنزل الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً«1» إلى آخر الآية.
وعن أسماء بن الحكم الفزاري قال: سمعت عليا يقول: إني كنت رجلا إذا سمعت من رسول الله حديثا ينفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته فإذا حلف لي صدقته، وإنه حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله يقول: «ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ويصلي ثم يستغفر الله إلا غفر له».
وروي في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أذنب العبد ذنبا فقال يا رب أذنبت ذنبا فاغفره لي، قال الله عز وجل: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، فغفر له.
ثم إذا مكث ما شاء الله وأصاب ذنبا آخر، فقال: يا رب أذنبت ذنبا فاغفر لي، قال ربه: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء.
وكان قتادة رضي الله تعالى عنه يقول: القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، أما دواؤكم فالاستغفار، وأما داؤكم فالذنوب.
وكان علي رضي الله تعالى عنه يقول: العجب لمن هلك ومعه كلمة النجاة، قيل: وما هي؟ قال: الاستغفار.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال عشرا حين يصبح وحين يمسي، أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه وأسأله التوبة والمغفرة من جميع الذنوب، غفرت ذنوبه ولو كانت مثل رمل عالج.
ومن قال سبحانك ظلمت نفسي وعملت سوءا فاغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، غفرت ذنوبه ولو كانت مثل دبيب النمل.
وقال أبو عبد الله الورّاق: لو كان عليك من الذنوب مثل عدد القطر وزبد البحر محيت عنك إذا استغفرت بهذا الاستغفار، وهو هذا: اللهم إني أسألك وأستغفرك من كل ذنب تبت إليك منه ثم عدت فيه، وأستغفرك من كل ما وعدتك من نفسي ثم لم أوف لك به، وأستغفرك من كل عمل أردت به وجهك فخالطه غيرك، وأستغفرك من كل نعمة أنعمت بها علي فاستعنت بها على معصيتك، يقول الله عز وجل لملائكته: ويح ابن آدم يذنب الذنب ثم يستغفرني فأغفر له، ثم يذنب فيستغفرني فأغفر له لا هو يترك الذنب من مخالفتي ولا ييأس من مغفرتي، أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت له.
وقال بشر الحافي «2» بلغني أن العبد إذا عمل الخطيئة أوحى الله تعالى إلى الملائكة الموكلين ترفقوا عليه سبع ساعات، فإن استغفرني فلا تكتبوها وإن لم يستغفرني فاكتبوها.
نكتة.. قيل: انقطع الغيث عن بني إسرائيل في زمن موسى عليه الصلاة والسلام حتى احترق النبات وهلك الحيوان، فخرج موسى عليه الصلاة والسلام في بني إسرائيل وكانوا سبعين رجلا من نسل الأنبياء مستغيثين إلى الله تعالى، قد بسطوا أيدي صدقهم وخضوعهم وقربوا قربان تذللهم وخشوعهم ودموعهم تجري على خدودهم ثلاثة أيام، فلم يمطر لهم، فقال موسى: اللهم أنت القائل: ادعوني أستجب لكم وقد دعوتك وعبادك على ما ترى من الفاقة والحاجة والذل، فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى إن فيهم من غذاؤه حرام وفيهم من يبسط لسانه بالغيبة والنميمة وهؤلاء استحقوا أن أنزل عليهم غضبي، وأنت تطلب لهم الرحمة كيف يجتمع موضع الرحمة وموضع العذاب؟ فقال موسى: ومن هم يا رب حتى نخرجهم من بيننا؟ فقال الله تعالى: يا موسى لست بهتاك ولا نمام، ولكن يا موسى توبوا كلكم بقلوب خالصة فعساهم يتوبوا معكم فأجود بإنعامي عليكم، فنادى منادي موسى في بني إسرائيل ان اجتمعوا فاجتمعوا فأعلمهم موسى عليه الصلاة والسلام بما أوحي إليه والعصاة يسمعون، فذرفت أعينهم ورفعوا مع بني إسرائيل أيديهم إلى الله عز وجل وقالوا: إلهنا جئناك من أوزارنا هاربين، ورجعنا إلى بابك طالبين فارحمنا يا أرحم الراحمين، فما زالوا كذلك حتى سقوا بتوبتهم إلى الله تعالى.
اللهم تب علينا وعلى سائر العصاة والمذنبين يا رب العالمين.
أوحى الله إلى داود عليه الصلاة والسلام: يا داود لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم، لماتوا شوقا إلي وتقطعت أوصالهم من محبتي، يا داود هذه إرادتي في المدبرين عني فكيف إرادتي بالمقبلين علي.
ولقد أحسن من قال:
أسيء فيجزي بالإساءة إفضالا ... وأعصي فيوليني برّا وإمهالا
فحتى متى أجفوه وهو يبرني ... وأبعد عنه وهو يبذل إيصالا
وكم مرة قد زغت عن نهج طاعة ... ولا حال عن ستر القبيح ولا زالا
وهذا آخر ما يسره الله تعالى في هذا البابا والله أعلم بالصواب.