سورة الأنبياء
(887)
وَقُلْ قَالَ (عَـ)ـنْ (شُـ)ـهْدٍ وَآخِرُهَا (عَـ)ـلاَ وَقُلْ أَوَلَمْ لاَ وَاوَ (د)ارِيهِ وَصَّلاَ
أي مقروء قال يريد - قل ربي يعلم القول - قرأه حمزة والكسائي وحفص على رسمها في مصاحف الكوفة دون غيرهم وفي آخر السورة - قل رب احكم بالحق - قرأه حفص وحده قال أي قال الرسول وقل أمر له بذلك ولما أمر به قاله والواو في أولم ير الذين كفروا لم تكتب في مصاحف أهل مكة فلم تثبت في قراءة ابن كثير وفائدتها العطف ومعنى داريه وصلا أي عالمه وصله أي نقله وعلمه والله أعلم.
(888)
وَتُسْمِعُ فَتْحُ الضَّمِّ وَالْكَسْرِ غَيْبَةً سِوَى الْيَحْصَبِي وَالصُّمَّ بِالرَّفْعِ وُكِّلاَ
يريد ولا تسمع الصم الدعاء - قراءة ابن عامر على الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلزم أن تكون التاء مضمومة والميم مكسورة لأنه مضارع اسمع ونصب لفظ الصم لأنه مفعول به وغيره جعل الصم فاعلا فرفعه وأسند نفي السماع إليه فلزم فتح ضم الياء وكسر الميم لأنه مضارع سمع ولزم أن يكون أوله ياء على الغيبة فقوله غيبة، أي ذا غيبة
(889)
وَقَالَ بِهِ فِي النَّمْلِ وَالرُّومِ (دَ)ارِمٌ وَمِثْقَالُ مَعْ لُقْمَانَ بِالرَّفْعِ (أَ)كْمِلاَ
به أي بما ذكرناه دارم أي شيخ معمر وقد سبق معناه في سورة النساء، يعني أن ابن كثير وحده قرأ في مثل هذا في النمل والروم بما قرأ به الجماعة هنا ووافق الباقون لابن عامر على ما قرأ به وحده هنا وأما - وإن كان مثقال حبة وفي لقمان (يا بني إنها إن تك مثقال حبة)، فرفعه نافع وحده في الموضعين على أن كان تامة كما قرأ هو وابن كثير في سورة النساء (وإن تك حسنة يضاعفها)، وكما أجمعوا على وإن كان ذو عسرة والنصب على أنه خبر كان والتقدير وإن كان الشيء مثقال حبة وفي لقمان تك المظلمة مثقال، وعلى قراءة نافع يكون تأنيث الفعل على المعنى لأن المثقال سيئة أو حسنة كما قال (فله عشر أمثالها)، بقوله بالرفع أكملا إلى أن الجملة على قراءة الرفع لا تحتاج إلى تقدير اسم لكان والله أعلم.
(890)
جُذَاذاً بِكَسْرِ الضَّمِّ (رَ)اوٍ وَنُونُهْ لِيُحْصِنَكُمْ (صَـ)ـافي وَأُنِّثَ (عَـ)ـنْ (كِـ)ـلاَ
أي قرأه راو فالمكسور جمع جذيذ بمعنى مجذوذ كخفاف وكرام في جمع خفيف وكريم والمضموم جمع جذاذة كزجاجة وزجاج، وقيل الضم واحد في معنى الجمع كالرفاة والفتاة وهذا بناء ما كسر وفرقت أجزاؤه وقيل هما لغتان، قال أبو علي جذاذ الشيء إذا قطعته ومثل الجذاذ الحطام والرفات والضم في هذا النحو أكثر والكسر فيما زعموا لغة وهي قراءة الأعمش وقرأ أبو بكر وحده لنحصنكم من بأسكم بالنون لقوله وعلمناه صنعة لبوس لكم - فهي نون العظمة وقرأه حفص وابن عامر بالتاء تأنيثا للفعل على الحمل على المعنى أي ليحصنكم اللبوس لأن المراد بها الدروع أو التقدير لتحصنكم الصنعة وقرأ الباقون بالياء على التذكير أي ليحصنكم الله تعالى أو داود أبو اللبوس لأنه بمعنى ملبوس أو التعليم الذي دل عليه وعلمناه كل ذلك قد قيل وهو صحيح واختار أبو عبيد قراءة الياء، قال لأن اللبوس أقرب إلى الفعل وهو ذكر فكان أولى به وقول الناظم ونونه على تقدير ولنحصنكم نونه صافي على التقديم والتأخير ومثله ما سبق في يونس وبنونه ونجعل صف أي ونجعل صف بنونه ويجوز أن يكون لنحصنكم ونجعل كلاهما بدلا من الهاء كما تقول ضربته زيدا واضمر ذلك على شريطة التفسير تفخيما له وصافا فعل من المصافاة وقراءة الجماعة بالياء يجوز أن نأخذها من كونها تذكيرا فهو ضد للتأنيث إن عادت على اللبوس ويجوز أن نأخذها من الضد للنون إن عادت على الله سبحانه أو على داود عليه السلام أو على التعليم، وإنما لم يقل وبالتاء عن كلا لئلا يشتبه بلفظ الياء
(891)
وَسَكَّنَ بَيْنَ الْكَسْرِ وَالْقَصْرِ (صُحْبَةٌ) وَحِرْمٌ وَنُنْجِي إِحْذِفْ وَثَقِّلْ (كَـ)ـذِي (صِـ)ـلاَ
وحرم مفعول وسكن أي صحبة راء هذا اللفظ وقبله كسر الحاء وبعده حذف الألف وهو المعبر عنه بالقصر وقراءة الباقين وحرام بفتح الحاء والراء وإثبات الألف وحرم وحرام لغتان كحل وحلال يريد قوله تعالى - وحرام على قرية أهلكناها وأما - وكذلك ننجي المؤمنين - فكتبت في المصحف بنون واحدة فقرأه ابن عامر وأبو بكر كذلك، فهذا معنى قوله احذف أي احذف نونه الثانية كما قال في سورة يوسف وثان ننج احذف وكلا الموضعين كتب بنون واحدة، وقوله وثقل يعني شدد الجيم وباقي القراء بنونين وتخفيف الجيم من أنجى ينجي وقراءة ابن عامر وأبي بكر من نجى ينجي كما قال قبله - ونجيناه من الغم - واختار أبو عبيد هذه القراءة وضعفها النحاة وعسر تخريج وجهها على معظم المصنفين، قال أبو عبيد هذه القراءة أحب إلي لأنا لا نعلم المصاحف في الأمصار كلها كتبت إلا بنون واحدة ثم رأيتها في الذي يسمى للإمام مصحف عثمان بن عفان أيضا بنون واحد وقال إنما قرأها عاصم كذلك اتباعا للخط وقد كان بعضهم يحمله من عاصم على اللحن، قال ابن مجاهد قرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر نجى بنون واحد مشدد الجيم على ما لم يسم فاعله قال وروي عن أبي عمرو نجى مدغمة قال وهذا وهم لا يجوز ههنا الإدغام لأن النون الأولى متحركة والثانية ساكنة والنون لا تدغم في الجيم وإنما خفيت النون لأنها ساكنة تخرج من الخياشيم فحذفت من الكتاب وهي في اللفظ ثابتة ومن قال إنها مدغمة فقد غلط قال الزجاج أما ما روي عن عاصم بنون واحدة فلحن لا وجه له لأن ما لم يسم فاعله لا يكون بغير فاعل، قال وقد قال بعضهم المعنى نجى النجاء المؤمنين وهذا خطأ بإجماع النحويين كلهم لا يجوز ضرب زيدا يريد ضرب الضرب زيدا لأنك إذا قلت ضرب زيد فقد علم أن الذي ضربه ضرب فلا فائدة في إضماره وإقامته مقام الفاعل وإنما قال الزجاج ذلك لأن الفراء وأبا عبيد تحيلا في تخريج وجه هذه القراءة على هذا قال الفراء القراء يقرءونها بنونين وكتابتها بنون واحدة وذلك لأن النون الثانية ساكنة ولا تظهر الساكنة على اللسان فلما خفيت حذفت وقد قرأها عاصم فيما أعلم بنون واحدة ونصب المؤمنين كأنه احتمل اللحن لا يعرف لها جهة إلا تلك لأن ما لم يسم فاعله إذا خلا باسم رفعه إلا أن يكون أضمر المصدر في نجى فنوى به الرفع ونصب المؤمنين فيكون كقوله ضرب الضرب زيدا ثم يكنى عن الضرب فتقول ضرب زيدا وكذلك نجى النجاء المؤمنين وقال أبو عبيد الذي عند نافيه أنه ليس بلحن وله مخرجان في العربية، أحدهما أن يريد ننجي مشددة لقوله - ونجيناه من الغم - ثم تدغم الثانية في الجيم، والمخرج الآخر أن يريد نجى فعل فيكون معناه نجى النجاء المؤمنين فيكون نصب المؤمنين على هذا ثم ترسل الياء فلا ينصبها، قلت الوجه للثاني قد أبطله الزجاج على ما سبق والأول فاسد لأنه قدر الكلمة مشددة الجيم ثم جوز أن تدغم النون الثانية في الجيم ولا يتصور الإدغام في حرف مشدد ولم يكن له حاجة إلى تقدير الكلمة مشددة الجيم بل لو ادعى أن الأصل ما قرأ به الجماعة بتخفيف الجيم ثم زعم الإدغام لكان أقرب على أنه أيضا ممتنع قال النحاس هذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين لبعد النون من الجيم فلا تدغم فيها فلا يجوز في - من جاء بالحسنة - مجاء بالحسنة وقال الزمخشري النون لا تدغم في الجيم ومن تمحل لصحته فجعله فعل وقال نجى النجاء المؤمنين فأرسل الياء وأسنده إلى مصدره فمتعسف بارد التعسف، قلت ومعنى قولهم أرسل الياء أي أسكنها وقال مكي فيه بعد من وجهين، أحدهما أن الأصل أن يقوم المفعول مقام الفاعل دون المصدر، والثاني أنه كان يجب فتح الياء من نجى لأنه فعل ماض قال وقيل إن هذه القراءة على طريق إخفاء النون في الجيم قلت وهذا تأويل أبي علي في الحجة، قال مكي وهذا أيضا بعيد، لأن الرواية بتشديد الجيم والإخفاء لا يكون معه تشديد قال وقيل أدغم النون في الجيم وهذا أيضا لا نظير له لا يدغم النون في الجيم في شيء من كلام العرب لبعد ما بينهما وإنما تعلق من قرأ هذه القراءة بأن هذه اللفظة في المصاحف بنون واحدة قال فهذه القراءة إذا قرئت بشد الجيم وضم النون وإسكان الياء غير ممكنة في العربية قال أبو علي فأما قول من قال إنه يسند الفعل إلى المصدر ويضمر لأن الفعل دل عليه فذلك مما لا يجوز في ضرورة الشعر والبيت الذي أنشده ابن قتيبة، (ولو ولدت فقيرة جرو كلب لسب بذلك الجرو الكلابا)، لا يكون حجة في هذه القراءة وإنما وجهها ما ذكرنا لأن الراوي حسب الإخفاء إدغاما، قال الشيخ واحتجوا لإسكان الياء بقراءة الحسن، (وذروا ما بقي من الربا)، ويقول النابغة ردت عليه أقاضيه وليده قال وقد قرأ أبو جعفر ليجزي قوما أي ليجزي الجزاء قوما قلت وكل هذا استدلال بقراءات ضعيفة شاذة وبضرورات شعر وكل ذلك مما يشهد بضعف هذه القراءة وعجبت ممن يذكرها ويترك غيرها مما هو شائع لغة نقلا وموافق خطا نحو - ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون - ذكر ابن مجاهد رواية عن أبي عمرو بياء مضمومة ورواية عن ابن عامر بتاء مفتوحة مع كسر الجيم وأجود ما وقفت عليه في توجيه هذه القراءة ما نقله أبو جعفر النحاس قال لم أسمع في هذا بأحسن من شيء سمعته من علي ابن سليمان قال الأصل ننجي فحذف إحدى النونين لاجتماعهما كما تحذف إحدى التاءين لاجتماعهما نحو قوله تعالى - ولا تفرقوا - الأصل تتفرقوا قال والدليل على صحة ما قال أن عاصما يقرأ نجى بإسكان الياء ولو كان على ما تأوله من ذكرنا لكان مفتوحا وقال أبو الفتح ابن جني في كتاب الخصائص في باب امتناع العرب من الكلام بما يجوز في القياس أجاز أبو الحسن ضرب الضرب الشديد زيدا وقتل يوم أخاك قال هو جائر في القياس وإن لم يرد به الاستعمال ثم أنشد ابن جني، (لسب بذلك الجرو الكلابا) قال هذا من أقبح الضرورة ومثله لا يعتد به أصلا بل لا يثبت إلا محتقرا شاذا قال وأما قراءة من قرأ - وكذلك نجى المؤمنين - فليس على إقامة المصدر مقام الفاعل لأنه عندنا على حذف إحدى نوني ننجي كما حذف ما بعد حرف المضارعة في قوله تعالى - تذكرون - أي تتذكرون ويشهد لذلك أيضا سكون لام نجى ولو كان ماضيا لانفتحت اللام إلا في الضرورة وقال في كتاب المحتسب روى عن ابن كثير وأهل مكة - ونزل الملائكة تنزيلا - يعني في سورة الفرقان قال وكذلك روى خارجة عن أبي عمرو قال أبو الفتح ينبغي أن يكون محمولا على أنه أراد - وننزل الملائكة - إلا أنه حذف النون الثانية التي هي فاء فعل لالتقاء النونين استخفافا وشبهها بما حذف من أحد المثلين الزائدين في نحو قولك أنتم تفكرون وتظهرون وأنت تريد تتفكرون وتتظهرون، قال ونحوه قراءة من قرأ وكذلك نجى المؤمنين ألا تراه يريد ننجي فحذف النون الثانية وإن كانت أصلا لما ذكرنا قلت ونقل هذه القراءة وتعليلها المذكور الزمخشري في تفسيره وذكره المهدوي في قراءة ننجي المؤمنين وهو وجه سديد غريب لا تعسف فيه ويشهد له أيضا حذف إحدى النونين من أتحاجوني وتبشروني وتأمروني وتأمروني أعبد وعجبت من شيخنا أبي الحسن رحمه الله كيف لم ينقل هذا التعليل في شرحه مع كونه في إعراب النحاس وهو كثير الأخذ منه وقراءة الجماعة ننجي بنونين الثانية ساكنة وبتخفيف الجيم من الإنجاء وقبله ونجيناه من الغم بالتشديد جمعا بين اللغتين كما جمع بينهما في كثير من القرآن نحو (فمهل الكافرين أمهلهم رويدا)، (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة)، وقول الناظم كذى صلا إشارة إلى النظر والفكرة في وجه هذه القراءة أي كن في الذكاء والبحث كذى صلا وقد سبق تفسيره ويقال بكسر الصاد وفتحها والله أعلم.
(892)
وَلِلْكُتُبِ اجْمَعْ (عَـ)ـنْ (شَـ)ـذاً وَمُضَافُهَا مَعِي مَسَّنِي إِنِّي عِبَادِيَ مُجْتَلاَ
أي عن ذي شذا يريد - كطي السجل للكتاب - فالقراءة دائرة بين الجمع والإفراد قد سبق لهما نظائر فالكتب جمع كتاب والكتاب في الأصل مصدر كتب كتابا مثل بنى بناء ثم قيل للمكتوب كتاب وقد اختلف في معنى السجل فقيل هو ملك يطوى صحائف بني آدم وقيل كاتب كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- فالمعنى على هذين القولين ظاهر أي كما يطوى السجل الكتاب أو الكتب، فالمفرد اسم جنس يغني عن الجمع فهو واحد يراد به الكثرة واللام في الكتب أو للكتاب زائدة وحسنها اتصالها بمعمول المصدر تقوية لتعديته نحو عرفت ضرب زيد لعمرو والأصل ضرب زيد عمرا فكهذا هنا كطي السجل للكتاب فإضافة طي إلى السجل من باب إضافة المصدر إلى فاعله وقيل إن السجل هو اسم الصحيفة فيكون المصدر مضافا إلى مفعوله نحو (بسؤال نعجتك إلى نعاجه)، والمعنى كطي الصحيفة للكتابة فيها أو لأجل المكتوب فيها قال قتادة كطي الصحيفة فيها الكتب قال أبو علي كطي الصحيفة مدرجا فيه الكتب أي لدرج الكتب فيها فإن كان الجمع للمكتوب فظاهر وإن كان للمصدر فلأجل اختلاف أنواعه وقول الناظم مجتلا خبر قوله ومضافها ومع وما بعده عطف بيان لمضافها أو صفة له على تقدير الذي هو كذا وكذا وأراد هذا ذكر من معي فتحها حفص وحده - إني إله من دونه - فتحها نافع وأبو عمرو مسني الضر عبادي الصالحون سكنهما حمزة والله أعلم.