وجوه تفسير قوله تعالى: "وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ".   
    وجوه تفسير قوله تعالى: "وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ" Untit901
السؤال:
أريد تفصيلاً في مسألة، وهي متعلقة برد الشبهات.
ألا يوجد فهم مُحدَّد للنصوص الشرعية؟
فمثلاً: منذ قرون كانت تفسر آية: "وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ".
على أنها: الذكر والأنثى، ولمَّا أصبحنا نعلم جنس الجنين بالسونار صارت تفسر على أنها الرزق والعمر، وهكذا.
وأنا غير مقتنع بهذا الفعل، وهو تغيير التفسير لتجنب شبهات العصر؛ لأن هذا تحايل، ومحاولة لإحقاق شيء بغض النظر عن صحته.
أنا لا أخوض طبعاً في القرآن، لكن هذا الاستدلال على عدم التعارض لا يصح بحال.
هذا السؤال ليس وسوسة -جزاكم الله خيرًا-، بل إني في حاجة إلى إجابته.

الإجابــة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه..

أمَّا بعد:
فالأدلة الشرعية من حيث دلالتها ليست نوعًا واحدًا، فمنها النص الذي لا يحتمل إلا معنًى واحدًا، كقوله تعالى: "فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ" [البقرة: 196].

ومنها المُجمل الذي يدل على أكثر من معنى على السَّواء، كقوله تعالى: "وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ" [البقرة: 228]، فالقرء في اللغة يُطلق على الحيض والطهر معًا، فيُطلب الترجيح من الأدلة الأخرى.

ومنها الظاهر الذي يحتمل أكثر من معنى، ولكنه في أحدها أرجحُ منه في غيره، فالراجح يُسمَّى ظاهرًا، والمرجوح مؤَّولًا.

والترجيح -كما هو معروف- أمرٌ نسبيٌ، تختلف أسبابه واجتهادات أهل العلم فيه، ولذلك يختلفون في تعيين المعنى المُراد في ظاهر النص.

وفي التفسير -خصوصًا- يكثر المفسرون من التفسير بالمثال، ولا يكون مُرادهم التعيين أو القصر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمته في أصول التفسير:
(غالب ما يصح عن السلف من الخلاف في التفسير يرجع إلى اختلاف تنوع، لا اختلاف تضاد...

وذلك صنفان: أحدهما:
أن يعبر كل واحد منهم عن المُراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المُسمَّى غير المعنى الآخر مع اتحاد المُسمَّى...

الصنف الثاني:
أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل، وتنبيه المستمع على النوع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه). اهـ.

ومن هذا ما ذكره بعض المفسرين عند قوله تعالى: "وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ" {لقمان: 34} من أمر الذكورة والأنوثة، فهذا مُجرَّد مثال، وفي مرحلة من الحمل، لا في كل المراحل، ولا في كل الأحوال، وإلا فكثيرٌ من القدماء زادوا على ذلك: السلامة والسقم، والتمام والنقص، والإيمان والكفر، والشقاوة والسعادة.

قال الماوردي في النكت والعيون:
{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} فيه وجهان:
أحدهما: من ذكر وأنثى، سليم وسقيم.
الثاني: من مؤمن وكافر، وشقي وسعيد. اهـ.

وقال البيضاوي في أنوار التنزيل:
{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ} أذكر أم أنثى؟ أتام أم ناقص؟ اهـ.

وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير:
{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} أي: ينفرد بعلم جميع أطواره من نطفة وعلقة ومضغة، ثم من كونه ذكرًا أو أنثى، وإبان وضعه بالتدقيق.

وجيء بالمضارع لإفادة تكرر العلم بتبدل تلك الأطوار والأحوال.

والمعنى:
ينفرد بعلم جميع تلك الأطوار التي لا يعلمها الناس. اهـ.

ثم إن الآية إن عورضت على هذا النحو الوارد في السؤال، فلن يقتصر الإشكال على اختصاص علم الله تعالى بما في الأرحام، بل يتعدَّاه إلى غيره أيضًا، كالعلم بوقت نزول الغيث، والعلم بوقت وفاة بعض المُصابين بأمراض معينة، ونحو ذلك.

والذي يرفع هذا الإشكال هو استحضار الفرق البيِّن الواضح بين علم الله تعالى الذاتي المُحيط بكل دقائق وتفاصيل هذه الأمُور، والذي لا يتخلّف ولا يتغيَّر، وبين علم المخلوق المُكتسب من أسبابه، القاصر في كَمِّهِ وكَيْفِهِ، الذي يسبقه جهلٌ ويلحقه خللٌ!

ثم إنه لا بد من التفريق بين فهم الدليل، والدليل ذاته؛ وبين لفظ القرآن، وفهمنا لمعناه، فالقرآن في ذاته حقٌ بلا ريب، ولكن فهمه قد يصيب فيه المرء أو يخطئ.

وقد سبق أن نبَّهنا على ذلك، مع بيان معنى الآية، وذلك في الفتوى: 119411.
المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب
والله أعلم.