طريق الإسلام
المعاني النفسية للحج
المعاني النفسية للحج Untit881
في عُمر الإنسان هناك نماذج لمسلمين حجوا أكثر من ثلاثين مرة في عمرهم، وكل وقفة بعرفة جديدة عليهم من حيث المشاعر الغامرة، وكأن الواحد منهم يقف في عرفة لأول مرة في حياته، فكل حجة يحجها المرء لها طعم يختلف عن الحجة السابقة، سواء كانت السابقة من العام الماضي، أو قبل خمسة أعوام مضت، أو عشرين عامًا مضت، لا فرق في الشعور الداخلي لدى الحاج، يتطلع في هذا اليوم العظيم إلى أن يشمله عفو من الله وغفران منه ورحمة، ويتطلع إلى أن يعود من حجه كيومَ ولدته أمه.

وفي هذا الشعور الداخلي حكمة من الله تعالى تجعل المرء لا يشعر بأنه يقوم بعمل طالما قام به من قبل، وطالما سيقوم به من بعد، إن بقي على قيد الحياة، وهكذا ينبغي أن يكون الشعور ليس في الحج فحسب، ولكن في جميع الأعمال التي يقوم بها العبد يقصد من ورائها مرضاة الله تعالى؛ كالصلاة والصدقة والصوم وبقية العبادات بما فيها المعاملات.

ولهذه الوقفة العظيمة معانٍ في النفس يختلج بها الفؤاد، وتعبر عنها التطلعات إلى السماء، تطلعات مصحوبة بالرجاء والخوف.. وهذا هو القاسم المشترك بين الحجاج الذين يقفون اليوم في عرفة.

إلا أن هناك من الحجاج فئة قدمت من خارج البلاد، بعيدًا من البلاد.. كانت تحسب لهذا الموقف حسابات كثيرة، الرحلة بالنسبة لهؤلاء لم تكن هينة.. نحن نعرف أن هناك من يصل مكة المكرمة من الداخل في اليوم الثامن وينهي حجه في اليوم الثاني عشر فلا تزيد أيامه في المشاعر عن الخمسة، ولكن هناك تلكم الفئة التي تستغرق معها الرحلة عديدًا من الأيام.. سنين في الإعداد للرحلة.. وأشهرًا في الرحلة نفسها؛ ولهذا تجد هذه الفئة تحاول أن تأخذ من الحج كل ما تستطيع، رغبة في أن تكون قد أدته على الوجه الذي تعتقد هي في أنه الكمال.

المعاني النفسية..
هنا بيت القصيد في هذه الوقفة عند هذا الموقف العظيم؛ فالحج في أيامه كلها عبادة توقيفية.. الزيادة فيه غير مرغوب فيها.. والنقص فيه قد يخل في مدى كماله.. وقليل من هذه الفئة من ينقص نفسه فيه عن عمد.. ولكن عددًا لا بأس به من الحجاج يزيد فيه زيادة ربما تخل به.. وتخرج به عن مجرد أداء فريضة فرضها الله على المستطيع من عباده.. هناك بعض المبالغات التي تمليها النفس.. ولا أساس لها من دليل شرعي.. يقوم بها البعض ليستغل فرصة وجوده فيبالغ في أدائها.. تقبيل الحجر الأسود وسط الزحام مثلًا.. تعريض الحاج نفسه للشمس والتعب والنصب مثلًا، مزاحمة الناس بشكل غير طبيعي مثلًا في المشاعر.. الإفراط في استخدام ماء زمزم مثلًا.. إرهاق النفس وعدم إعطائها كفايتها من الراحة.. والله سبحانه وتعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.. وليس هذا انتقادًا لمن يأتون العزائم؛ فالمرء يدرك ما يرمون إليه.. ولكن الوقفة مركزة على المبالغة التي قد تؤثر أحيانًا على الشعيرة التي يقوم بها الحاج.

زيارة المدينة المنورة:
ومن المعاني النفسية للحج اعتقاد البعض أن حجهم لا يتم إلا بزيارة المدينة المنورة.. قد يعبر عنها البعض بهذا.. ويعبر البعض عنها بزيارة مسجد رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بالمدينة المنورة.. ويعبر عنها آخرون بزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه في المسجد النبوي بالمدينة المنورة.. وتكون الزيارة قبل البدء في مشاعر الحج أو بعد الانتهاء منها.. ولكن هؤلاء لا يعبرون عنها بهذا وإنما يبدؤون بها مشاعرهم أو ينهون بها مشاعرهم.. والزيارة طيبة إذا كانت للمسجد، منهي عنها إذا كانت للقبر، ولكنها ليست ركنًا أو شرطًا أو واجبًا في الحج.. ويكمل حج المسلم إذا لم يزر المدينة المنورة.. والمشكل هنا أن هناك فئة قليلة من المسلمين تعطي الزيارة أهمية أكثر مما تعطيها لمناسك الحج التي قد لا يتم الحج إلا بها.

ولا يفهم من هذا التقليل من شأن زيارة مسجد رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ثم السلام عليه - عليه السلام - وعلى صاحبيه - عليهما من الله الرضوان - ولكن أن تصل المعاني النفسية بالمسلم إلى أن تطغى مستحبات على واجبات فهذا أمر يسترعي التنويه بعدم ترك أمور العبادات التوقيفية خاضعة للنفس البشرية ترسم لها أولوياتها حسبما يعتري المرء من شعور تجاه نسك أو شعيرة من شعائر الحج.

وماذا بعدُ؟!
فما دامت العبادات - ومنها الحج - توقيفية، فمن الأجدر بكل فرد أن يأخذها من منابعها.. ولا يترك لنفسه أن تتدخل في زيادة أو نقص.. ومن باب أولى ألا يترك لعقله أن يتدخل في هذه الأمور بزيادة أو نقص أو تغيير وجهة، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - له موقف من تدخل العقل في العبادات التوقيفية حينما قال: إنه لو كانت هذه الأمور تؤخذ بالعقل لكان المسح على القدم من باطنها لا على ظاهرها.. لأن الباطن هو الذي يدوس على الأرض.. وعندما سألت امرأة عائشة رضي الله عنها عن السرِّ وراء قضاء المرأة الصيام وعدم قضائها الصلاة حينما تنقطع عنهما، كان رد عائشة أن النساء تعمل هذا لأنهن أمرن أن يفعلن هذا، وهذا يوحي بالتسلم المطلق للآمر، ولو كان التسليم على حساب تحكيم العقل وتحكيم النفس وما تمليه من معانٍ قد لا تتفق والحكمةَ من العبادات.

هنيئًا لجميع المسلمين الذين وقفوا بعرفة.. وهنيئًا لجميع المسؤولين الذين هيؤوا للمسلمين الوقوف بعرفة.. ودعاء إلى الله تعالى أن يجعله حجًّا مبرورًا.. وأن يجعل سعيهم مشكورًا، وأن يجعل ذنوبهم مغفورة.. وأن يشركنا معهم بالأجر والثواب.. فرب امرئ أحجم عن الحجة إيثارًا.. وكان يتمنى أن يحج.. ورب امرئ يتمنى الحج ولكن لا يملِك له زادًا ولا راحلة.. ورب امرئ يملك الزاد والراحلة ولكن لا يملك القوة البدنية والصحة التي تحمله في هذه الرحلة الطيبة.. ورب امرئ يكسب أجر الحاج ولو لم يحج.. ورحمة الله واسعة.. هنيئًا للجميع بمرور موسم جديد خالٍ من جميع ما ينغص على الحاج حجه.. ومزيدًا من الدعاء بالعون والتوفيق لكل من يقف وراء هذه الجهود محتسبًا الأجر من الله والثواب، وكان الله في عون الجميع!

الكاتب: أ. د. علي بن إبراهيم النملة