2ـ الإنفاق من أحب المال*
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد...
فكان أبو طلحة الأنصاريّ -رضي الله عنه- أكثر الأنصار بالمدينة المنورة مالًا، وكان أحبَّ ماله إليه بستانٌ عظيمٌ، في مقابلة مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما عرف أبو طلحة أن العبد لن يبلغ الجنة حتى ينفق من أحب ماله، تصدق بذلك البستان في سبيل الله.

أبو طلحة هو: زيد بن سهل بن الأسود الخزرجي، من بني النجار أخوال الرسول -صلى الله عليه وسلم-، جاء يخطب أم سليم والدة أنس بن مالك -رضي الله عنه-، فقالت: ما مثلك يُرد، ولكنك امرؤٌ كافرٌ، ولا أريد مهرًا غير الإسلام، قال: فمن لي بذلك؟ قالت: النبي -صلى الله عليه وسلم-، فانطلق يريده، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "جاءكم أبو سلمة غُرَّةُ الإسلام بين عينيه".

فأسلم وحسن إسلامه، وكان صحابيًا جليلًا، من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، شهد غزوة بدرٍ الكبرى، وكان ممن بايعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة، والمشهور أنه مات بالمدينة، وصلى عليه عثمان بن عفان، سنة أربعٍ وثلاثين من الهجرة، أي بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأربعٍ وعشرين سنة.

في هذا الموقف نلاحظ تواضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث كان ليّنًا مع أصحابه الكرام، فكان يُخالطهم ويُجالسهم، وكان يدخل حديقة أبي طلحة كثيرًا لظلّها الظليل، ومائها البارد الجميل، ولاسيما أنها كانت مقابلةً للمسجد النبوي الشريف، وكانت تسمى (بَيرُحاء).

وكان أبو طلحة -كما شأن الأنصار- رجلًا كريمًا جوادًا، غير أن الأنصار كانوا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

فلما سمع أبو طلحة قول الله -تعالى-: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)، وعرف أن العبد لن ينال جنة ربه حتى يُحسن عمله، وينفق مما يحب من ماله؛ عند ذلك قال أبو طلحة للرسول -صلى الله عليه وسلم-: إن أحبَّ أموالي إليَّ بيرُحاء، وإنها صدقةٌ لله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بخٍ، ذاك مالٌ رابحٌ، ذاك مالٌ رابحٌ".

حينما نتذكر هذا الموقف نتذكر ما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم- ولاسيما الأنصار، من سرعة الاستجابة لمراد الله -سبحانه وتعالى-، فكما نرى -معاشر المستمعين الكرام- إن أبا طلحة زيد بن سهل الأنصاري بطل موقف هذه الحلقة؛ ما لبث أن سمع آيةً من آيات القرآن الكريم نزلت على الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى فهم مرادها، وأدرك مقصودها، فسبق إلى تحقيقها، فتصدق بحديقته (بَيرُحاء).

وتركها للنبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل فيها ما يُرضي الله، ويقسمها فيمن شاء الله، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أرى أن تجعلها في الأقربين"، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.

وإنها استجابةٌ عاقلةٌ، ومسارعةٌ إلى الله راشدةٌ، تنطلق من وعيٍ وتعَقُّلٍ، وفهمٍ وتأملٍ، لذلك لا ترى فيها رجعةً، ولا تجد بعدها ندمًا.

وينبغي أن يكون المسلم سريع الاستجابة لربه، ثقةً به -سبحانه- أنه لا يدعو العباد إلا لما فيه خيرهم وفلاحهم، كما قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، وقال: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، وقال: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)  حرج: أي ضيق، وهكذا...

ومن ثَم دعانا الله إلى سرعة الإقبال عليه، فقال: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).

هذا الموقف يشير إلى عظمة الجنة، وأنها عروسٌ غاليةٌ، لا يستحقها إلا أصحاب الهمم العالية، لِمَ لا وهي جنةٌ عاليةٌ، قطوفها دانيةٌ، (لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ)، (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ).

ويقول عنها المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ".

ويقول حبر الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: ليس في الدنيا من الجنة إلا مجرد الأسماء، وأعظم ما فيها النظر إلى وجه الله العظيم -سبحانه وتعالى-.

ولهذا فإنه لا ينالها إلا من طلبها بحقها، ولا يعطاها إلا من بذل ثمنها، كما قال -تعالى-: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، وقال: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، البر: وهي الجنة، وذلك لأن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، وكما أحسن إلى عباده ينبغي أن يُحسن إليه العباد، كما قال -جل شأنه-: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).