5ـ حقيقة القصص القرآني*
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد...
فمن قول الله -تعالى-: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ)  ندرك فارقًا عظيمًا بين القصة في القرآن والقصة في غيره من كلام الخلق، ونتعرف على خاصيةٍ من خصائص القصص القرآني تُميزُه عن أي قصصٍ آخر يقصُّه البشر، وذلك كله كامنٌ في قوله -تعالى-: (بِالْحَقِّ)، كما قال -سبحانه وتعالى- في قصة أصحاب الكهف: (نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ)، وقال -عز شأنه- في قصة عيسى -عليه السلام-: (إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، ولهذا قال الله -تعالى- عن نفسه: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ).

فالقصة القرآنية تمتاز بوصف الحقائق، ونقل أخبار الأحداث وروايتها بالحق، دون تزييف أو تزيين، دون مبالغة أو تخييل، إنما الحقُّ والحقُّ فقط، كما تبدو أحداث  قصة ابني آدم، وهذا على خلاف شأن البشر حين يقصُّون قصَصَهم، فكثيرًا ما تكون القصة خياليةً، لا ظِلّ لها في أرض الحقيقة، ولا وجود لها في واقع الحياة.

وربما كانت قصةً قائمةً على حدثٍ واقعٍ، ولكن لم يكن إخراجه إلا بعد وضع رتوش  معينةٍ عند تصويره، ووضع ألوان خاصة حتى تكتمل الصورة، فيكون الحق في القصة مخلوطًا ومشُوبًا بشيءٍ من الخيال، ولهذا لمّا سمع كفار مكة القرآن وقصصه الحق؛ اتهموه بما هو فيهم، فقالوا: (إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)  لِمَا تعودوا عليه من وضع وحكاية الأساطير من خيالهم.

ولمّا كان القصص القرآني حقًا، وليس فيه غير الحق، كان مشتملًا على العِبَر العظيمةِ، والعظات البليغة، فليس مجردَ حكايةٍ يُتسلى بها، أو يُستهلَك الفراغُ بواسطتها، وإنما كما قال ربنا -سبحانه وتعالى-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

ومن عِبَر القصة في القرآن بوجهٍ عام:
تثبيت فؤاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الحق والدعوة، والصبر على ما يلاقيه من أذى قومه، لئلا ييأس أو يأسى، كما قال الله -جل شأنه-: (وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ).

وقد تكون العبرة من القصص هي الإنذار والترهيب، كما جاء في قوله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)، وكما قال -سبحانه وتعالى- تعقيبًا على قصة فرعون في سورة النازعات: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ (25) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ).

وربما كانت العبرة من القصة القرآنية البشارة بالنصر وتفريج الكرب، كالقصص الذي في سورة الأنبياء، إذ يقول الله -تعالى- عن خليله إبراهيم -عليه السلام-: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ).

ويقول عن لوطٍ -عليه السلام-: (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ).

وعن نوح -عليه السلام-: (وَنُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا).

وقال أيضًا: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ).

فهذه جملةٌ من القصص تبشر بالخير والفضل، إلى غير ذلك من عِبَر تهدف إليها القصة في القرآن.

ولمّا كان الغرض من القصة في القرآن هو الاعتبار لا مجرد الحكاية؛ لوحظ في القصة القرآنية الإبهام، يعني: عدم الاهتمام بذكر أسماء الشخصيات، ولا بتحديد الأماكن التي وقعت فيها أحداث القصة، ولا بتعيين الزمان الذي يعتبر ظرفًا للأحداث، إلى غير ذلك مما لا يتعلق بذكره كبيرُ فائدة، ولا تفوت بإبهامه عبرة.

كما أبهم الله في القصة القرآنية أسماء ابني آدم، والمكان والزمان الذين حصلت فيها أحداث هذه القصة العجيبة، كما لم يَذكر ما هو القربان الذي تقرّب به كلٌّ من الأخوين، ولا سبب تقديم القربان؛ لأن كلَّ ذلك غير مقصود في القصة، وإن جاءت بعض الآثار بتسمية وتعيين بعض هذه المبهَمات، وهذا كثيرٌ وشائعٌ في القصة القرآنية، يظهر بجلاءٍ لمن طالع القصة في القرآن، فضلًا عمّن تدبرها.
هذا، وبالله التوفيق.