2ـ حقيقة النفس البشرية*
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد...
فقد عرفنا في الحلقة الماضية قصة ابني آدم كأحداث متتالية، ووقائع متوالية، وفي القصة دروس لا بد من الوقوف عندها، والاستفادة منها:
أولًا: في هذه القصة الرائعة بيانٌ واضحٌ لطبيعة النفس البشرية، وطبيعة نوازعها الخفية، سواء نوازع خيِّرَة وطيبة، أم نوازع شريرة خبيثة، وقد بيّن الله -تعالى- في القرآن الكريم في مَعرِض القسَم في سورة الشمس: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا).

وأصل النفس الروحُ الذي ينفخه الله -تعالى- في جسد ابن آدم في أطوار خلقه، كما قال: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي)، وبعد أن اختلط الروح العلوي بالجسد السفلي سماه القرآن نفسًا، كما قال -تعالى-: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)، وعند خروج الروح من البدن بالموت يسمى نفسًا، كذلك قال -تعالى-: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً)، وهذا الروح أو النفس تكون منها القوة العاقلة الواعية في الإنسان، والتي سماها القرآن قلبًا وحِجْرًا، بدليل قول الله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا).

وقصة ابنَي آدم -عليه السلام- تُصوّر للنفس الفاجرة في سحيق فجورها صورةً تتمثل في قابيل بن آدم، كما تُصوّر للنفس التقيّة الصالحة في قمة تقواها صورةً تتمثل في هابيل بن آدم، أما قابيل فقد بلغت نفسه في الشر والفجور مداها، حيث حسد أخاه في النّسب والدين على رزقٍ قسّمَه الله، حسده على جمال زوجته، حسده على أن الله تقبل منه قربانه، وهذا بُغضٌ للخير، وكراهيةٌ للبر، فلا يليق بعاقلٍ يغضبُ ويضيق لأن صاحبه أو أخاه على تقوى من الله ورضوان، أمّا أن يكون مستجاب الدعوة مبغوضًا، أو يكون مقبول العمل عند الله في الناس مرفوضًا؛ فهذا من فجور النفس.

ثم إنه في مقام التقرب إلى الله -تعالى-، وفي مقام استخارة الله فيما ينبغي أن يكون؛ يقول قابيل لأخيه هابيل التقِيّ: (لَأَقْتُلَنَّكَ)، إنه الحقد الثائر في النفس الفاجرة حتى غطّى على العقل، وران على القلب، فبدا الإنسان وكأنه لا يعقل ما يهلكه وما ينجيه.

ففي موقف الرهبة ومقام الهيبة من الله -ذي الجلال- إذا بقابيل لا يلتفت إلا إلى الحقد، ولم يشعر إلا بالغِلّ، فما كان جوابه إلا أن قال لأخيه: (لَأَقْتُلَنَّكَ).

ثم تتمادى النفس الطاغية في فجورها، وذلك أن قتل الأخ أمرٌ قاسٍ عل  الإنسان، ولكي يحدث في واقع الحياة يحتاج إلى اجتياز مراحل بعيدة، وإيقاف لتيارٍ دعويّ غزير  ينبض في عروق النسب والأُخُوة، لذلك لم يقتل قابيل أخاه إلا بعد أن سوّغَت له نفسه هذا الجرم تسويغًا، وطوّعته له تطويعًا، حتى استجاب بعد أن تشجّم صعابًا شديدةً، وتجرّع مراراتٍ كثيرةً (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ) .

وهكذا تبرز النفس الشريرة في أقبح وأبشع صورها، وتجسد القصة القرآنية هذه الصورة الشريرة الخالصة في شخص قابيل ابن آدم.

بينما تبدو صورة الحق والخير، صورة النفس الإنسانية الطيبة بهيةً نقيةً، تتجسد معانيها الجليلة في شخص هابيل بن آدم -عليه السلام- على أجمل وأكمل ما يكون، وذلك حين دُعِيَ إلى التقرب إلى الله بقربان، فتقدم بأجود ما كان عنده، فنَفسُه طوّاعة للخير، سخية بالفضل، فقدم لله كبشا عظيمًا، وحين تُقبِّل القربان لم ينسب لنفسه فضلًا، ولم تطغَ نفسه بطرًا وفخرًا، بل نسب الفضل لله (قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).

 وحين وجّه قابيل تهديده ووعيده بالقتل (لَأَقْتُلَنَّكَ) لم تضعف نفسُه خوفًا وجُبنًا، ولم يتنازل عن شرع ربه وهنًا، فلم يتكلم في تغيير قسمة الأزواج عما شرع الله لهم، وكانت نفسه مطمئنةً إلى الخير، متوطنةً على الإحسان (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ)، ولم يقل هذا ضعفًا ولا خوفًا، ولكن لسبب آخر (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ).

وبيْن هاتين الصورتين لطبيعة النفس البشرية المزدوجة، بيْن صورة الخير المَحض المطلق وصورة الشر الطاغي المَحض المطلق، ينبغي  أن يقف كل عاقلٍ -فضلًا عن كل مسلم- مع نفسه، وينظر ويفكر: أيُّ الشخصين يحب أن يكون؟ وأي الشخصيتين يجب أن يكون؟

لو تدبر الناس هذه القصة لأدركوا هذا الدرس النافع، ولعرفوا طبيعة النفس البشرية، وأنها قد تكون فاجرةً لأبعد حدّ، وقد تكون طيبةً لأبعد حدّ، ولا تكون طيبة الا بالتقويم الشرعي، كما قال -تعالى-: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)، وقال -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ)، وقال: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)، إلى آخر الصفات الدالة على التزامهم بما يزكي النفس الإنسانية من الواجبات والفضائل التي شرعها مَن خلقَ النفس فسواها.
هذا، والله أعلم.