الباب الحادي والستون
في الحيل والخدائع المتوصل بها إلى بلوغ المقاصد والتيقظ والتبصر والحيلة

من فوائد الآراء المحكمة وهي حسنة ما لم يستبح بها محظور وقد سُئِلَ بعض الفقهاء عن الحيل في الفقه فقال علمكم الله ذلك فإنه قال: ( وخذ بيدك ضغثًا ) ( فاضرب به ولا تحنث ) وكان إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها وكان يقول: "الحرب خدعة".

ولَمَّا أراد عمر رضي الله عنه قتل الهرمزان استسقى ماء فأتوه بقدح فيه ماء فأمسكه في يده واضطرب، فقال له عمر لا بأس عليك حتى تشربه، فألقى القدح من يده فأمر عمر بقتله، فقال أولم تؤمِّنِّي؟ قال كيف أمَّنتك؟ قال قلت لا بأس عليك حتى تشربه، وقولك لا بأس عليك أمان ولم أشربه، فقال عمر قاتلك الله أخذت مني أماناً ولم أشعر.

وقيل كان دُهاة العرب أربعة كلهم ولدوا بالطائف معاوية وعمرو بن العاص والمُغيرة بن شعبة والسَّائب بن الأقرع، وكان يُقال الحاجة تفتح أبواب الحيل وكان يُقال ليس العاقل الذي يحتال للأمور إذا وقع فيها، بل العاقل الذي يحتال للأمور أن لا يقع فيها.

وقال الضحاك بن مزاحم النصراني لو أسلمت فقال ما زلت مُحِبّاً للإسلام إلا أنه يمنعني منه حبي للخمر، فقال أسلم واشربها، فلمَّا أسلم قال له قد أسلمت فإن شربتها حديناك، وإن ارتددت قتلناك، فاختر لنفسك، فاختار الإسلام وحَسُنَ إسلامه فأخذه بالحلية.

وقيل دليت من السماء سلسلة في أيام داود عليه الصلاة والسلام عند الصخرة التي في وسط بيت المقدس وكان الناس يتحاكمون عندها فمَنْ مَدَّ يده اليها وهو صادق نالها ومَنْ كان كاذباً لم ينلها إلى أن ظهرت فيهم الخديعة فارتفعت، وذلك أن رجلاً أودع رجلاً جوهرة فخبأها في مكانه في عكازة ثم أن صاحبها طلبها من الذي أودعها عنده فأنكرها، فتحاكما عند السلسلة فقال المُدَّعِي اللهم إن كنت صادقاً فلتدن مني السلسلة فدنت منه فمسَّها، فدفع المُدَّعَى عليه العُكَّازَةَ للمُدَّعِي وقال اللهم إن كنت تعلم أني رددتُ الجوهرة إليه فلتدن مني السلسلة فدنت منه فمسَّها فقال الناس قد سَوَّتْ السلسلة بين الظالم والمظلوم فارتفعت بشؤم الخديعة، وأوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام (أن أحكم بين الناس بالبينة واليمين) فبقي ذلك إلى قيام الساعة.

وكان المختار بن أبي عبيدة الثقفي من دُهَاةِ ثقيف، وثقيف دُهَاةُ العرب قيل أنه وجه إبراهيم بن الأشتر إلى حرب عبيد الله بن زياد ثم دعا برجل من خَوَاصِّهِ فدفع إليه حمامة بيضاء وقال له إن رأيت الأمر عليكم فأرسلها، ثم قال للناس إني لأجد في مُحكم الكتاب وفي اليقين والصواب أن الله ممدكم بملائكة غضاب صعاب تأتي في صور الحمام تحت السحاب، فلما كادت الدائرة تكون على أصحابه عمد ذلك الرجل إلى الحمامة فأرسلها فتصايح النَّاسُ الملائكة، الملائكة، وحملوا فانتصروا وقتلوا ابن زياد.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال خرجت امرأتان ومعهما صبيَّان فعدا الذئب على صبي إحداهما فأكله فاختصما في الصبي الباقي إلى داود عليه الصلاة والسلام فقال كيف أمركما؟ فقصَّتا عليه القصة فحكم به للكبرى منهما، فاختصما إلى سليمان عليه الصلاة والسلام فقال ائتوني بسكين لأشق الغلام نصفين لكل منهما نصف، فقالت الصغرى أتشقه يا نبي الله؟ قال نعم، قالت لا تفعل ونصيبي فيه للكبرى، فقال خذيه فهو ابنكِ، وقضى به لها.

وجاء رجل إلى سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام وقال يا نبي الله إن لي جيراناً يسرقون أوزي فلا أعرف السَّارق فنادى الصلاة جامعة ثم خطبهم وقال في خطبته وإن أحدكم ليسرق أوز جاره ثم يدخل المسجد والريش على رأسه فمسح الرجل رأسه فقال سليمان خذوه فهو صاحبكم.

وخطب المُغيرة بن شعبة وفتى من العرب امرأة وكان شاباً جميلاً فأرسلت إليهما أن يحضرا عندها فحضرا وجلست بحيث تراهما وتسمع كلامهما فلما رأى المغيرة ذلك الشاب وعاين جماله علم أنها تؤثره عليه فأقبل على الفتى وقال لقد أوتيت جمالاً فهل عندك غير هذا؟ قال نعم فعدَّد محاسنه ثم سكت، فقال له المغيرة كيف حسابك مع أهلك؟ قال ما يخفى علي منه شيء وإني لأستدرك منه أدق من الخردل، فقال المغيرة لكني أضع البدرة في بيتي فينفقها أهلي على ما يريدون فلا أعلم بنفادها حتى يسألوني غيرها، فقالت المرأة والله لهذا الشيخ الذي لا يُحاسبني أحَبَّ إلىَّ من هذا الذي يُحصي علي مثقال الذرَّة فتزوَّجت المغيرة.

وبلغ عضد الدولة أنَّ قوماً من الأكراد يقطعون الطريق ويقيمون في جبال شامخة ولا يقدر عليهم فاستدعى بعض التجار ودفع إليه بغلاً عليه صندوقان فيهما حلوى مسمومة كثيرة الطيب في ظروف فاخرة ودنانير وافرة، وأمره أن يسير مع القافلة ويظهر أن هذه هدية لأحد نساء الأمراء، ففعل التاجر ذلك وسار أمام القافلة، فنزل القوم فأخذوا الأمتعة والأموال وانفرد أحدهم بالبغل وصعد به الجبل فوجد به الحلوى فقبح على نفسه أن ينفرد بها دون أصحابه فاستدعاهم فأكلوا على مجاعة فماتوا عن آخرهم وأخذ أرباب الأموال أموالهم.

وأتي لبعض الولاة برجلين قد اتهما بسرقة فأقامهما بين يديه ثم دعى بشربة ماء فجئ له بكوز فرماه بين يديه فارتاع أحدهما وثبت الآخر فقال للذي ارتاع اذهب إلى حال سبيلك وقال للآخر أنت أخذت المال وتلذَّذت به وتهدَّده فأقرَّ فسُئِلَ عن ذلك فقال إن اللص قوي القلب والبرئ يجزع ولو تحرَّك عصفور لفزع منه.

وقصد رجل الحج فاستودع إنساناً مالاً فلمَّا عاد طلبه منه فجحده المستودع فأخبر بذلك القاضي أياساً، فقال أعَلِمَ بأنك جئتني؟ قال لا، قال فَعُدْ إليَّ بعد يومين، ثم إن القاضي إياساً بعث إلى ذلك الرجل فأحضره، ثم قال له أعلم أنه قد تحصَّلت عندي أموال كثيرة لأيتام وغيرهم وودائع للناس وإني مُسافر سفراً بعيداً وأريد أن أودعها عندك لِمَا بلغني من دينك وتحصين منزلك، فقال حُبَّاً وكرامة، قال فاذهب وهيئ موضعاً للمال وقوماً يحملونه فذهب الرجلُ، وجاء صاحب الوديعة فقال له القاضي إياس امض إلى صاحبك وقل له ادفع إليَّ مَالِي وإلا شكوتك للقاضي أياس، فلمَّا جاء وقال له ذلك دفع إليه ماله واعتذر إليه، فأخذه وأتى إلى القاضي إياس وأخبره، ثم بعد ذلك أتى الرجل وتبعه الحمَّالون لطلب الأموال التي ذكرها له القاضي، فقال له القاضي بعد أن أخذ الرجل ماله منه بدا لي ترك السفر امض لشأنك لا أكثر الله في الناس مثلك.

ولمَّا أراد شيرويه قتل أبيه ابرويز، قال إبرويز للدَّاخل عليه ليقتله إني لأدلك على شيء فيه غناك لوجوب حقك علي، قال وما هو؟ قال الصندوق الفلاني فلمَّا قتله وذهب إلى شيرويه وأخبره الخبر فأخرج الصندوق فإذا فيه حق فيه حب ورقعة مكتوب فيها من تناول منه حبة واحدة افتض عشرة أبكار وكان لشيرويه غرام في الباه، فتناول منه حبة فهلك من ساعته، فكان أبرويز أول مقتول أخذ بثأره من قاتله.

ولَمَّا بايع الرشيد لأولاده الثلاثة بولاية العهد تخلّف رجل مذكور من الفقهاء، فقال له الرشيد لِمَ تخلّفت؟ فقال عاقني عائق، فقال اقرأوا عليه كتاب البيعة، فقال يا أمير المؤمنين هذه البيعة في عُنُقِي إلى قيام الساعة، فلم يفهم الرشيد ما أراد وظن أنه إلى قيام الساعة يوم الحشر وما أراد الرجل إلا قيامه من المجلس.

وقال المُغيرة بن شعبة لم يخدعني غير غلام من بني الحرث بن كعب فإني ذكرت امرأة منهم لأتزوجها فقال أيها الأمير لا خير لك فيها فقلت ولِمَ؟ قال رأيت رجلاً يُقبلها فاعرض عنها فتزوجها الفتى، فلُمته وقلت ألم تخبرني أنك رأيت رجلاً يُقبّلها؟ قال نعم، رأيت أباها يقبلها.

وأتى رجل إلى الأحنف فلطمه فقال ما حملك على هذا؟ فقال جعل لي جُعل على أن ألطم سيد بني تميم، فقال لست بسيدهم عليك بحارثة ابن قدامة فانه سيدهم، فمضى إليه فلطمه فقطعت يده.

وقال الشعبي وجَّهَنِي عبد الملك إلى ملك الروم فقال لي من أهل بيت الخلافة أنت؟ قلت لا، ولكني رجل من العرب، فكتب إلى عبد الملك رقعة ودفعها إليَّ فلمَّا قرأها عبد الملك قال لي أتدري ما فيها؟ قلت لا، قال فيها: "العجب لقوم فيهم مثل هذا كيف يولون أمرهم غيره"، قال أتدري ما أراد بهذا؟ قلت لا، قال حسدني عليك فأراد أن أقتلك، فقلت إنما كبرت عنده يا أمير المؤمنين لأنه لم يترك شيئاً إلا سألني عنه وأنا أجيبه، فبلغ ملك الروم ما قاله عبد الملك للشعبي فقال لله أبوه ما عدا ما في نفسي.

ولَمَّا ولي عبد الملك بن مروان أخاه بشراً الكوفة وكان شاباً ظريفاً غزلاً، بعث معه بن زنباع وكان شيخاً متورعاً فثقل على بشر مرافقته فذكر ذلك لندمائه، فتوصَّل بعض ندمائه إلى أن دخل بيت روح بن زنباع ليلاً في خفية فكتب على حائط قريب في مجلسه هذه الأبيات:
(يا روح من لبنيات وأرملة ... إذا نعاك لأهل المغرب الناعي)
(إن ابن مروان قد حانت منيته ... فاحتل بنفسك يا روح بن زنباع)

فتخوَّف من ذلك وخرج من الكوفة فلمَّا وصل إلى عبد الملك أخبره بذلك فاستلقى على قفاه من شدة الضحك، قال ثقلت على بشر وأصحابه فاحتالوا لك.

ومن الحيل الطريفة ما حكي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا فتح خيبر وأعرس بصفية وفرح المسلمون جاءه الحجاج بن علاط السلمي وكان أول مَنْ أسلم في تلك الأيام وشهد خيبر، فقال يا رسول الله، إن لي بمكة مالاً عند صاحبتي أم شيبة ولي مال متفرق عند تجار مكة فأذن لي يا رسول الله، في العود إلى مكة أسبق خبر إسلامي إليهم فإني أخاف إن علموا بإسلامي أن يذهب جميع مالي بمكة فأذن لي لعلِّي أخلصه فأذن له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله، إني احتاج إلى أن أقول، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قل وأنت في حِلٍ، قال الحجاج فخرجت فلمَّا انتهيت إلى الثنية ثنية البيضاء وجدتُ بها رجالاً من قريش يَتَسَمَّعُونَ الأخبار وقد بلغهم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سار إلى خيبر فلمَّا أبصروني قالوا هذا لعمر الله عنده الخبر، أخبرنا يا حجاج فقد بلغنا أن القاطع يعنون محمداً قد سار إلى خيبر، قال قلت إنه سار إلى خيبر، وعندي من الخبر ما يسرُّكُم قال فأحدقوا حول ناقتي يقولون إيه يا حجاج؟ قال فقلت هُزِمَ هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط وأسِرَ محمد، وقالوا لا نقتله حتى نبعث به إلى مكة فيقتلونه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم، قال فصاحوا بمكة قد جاءكم الخبر وهذا مُحَمَّد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم فيُقتل بين أظهركم، قال فقلت أعينوني على جمع مالي من غرمائي فإني أريد أن أقدم خيبر فأغنم من ثقل مُحَمَّد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى هناك فقاموا معي فجمعوا لي مالي كأحسن ما أحِبُّ فلمَّا سمع العَبَّاسُ بن عبد المطلب الخبر أقبل عليَّ حتى وقف إلى جانبي وأنا في خيمة من خيام التجار، فقال يا حجاج ما هذا الخبر الذي جئت به؟ قال فقلت وهل عندك حفظ لِمَا أودعه عندك من السر؟ فقال نعم والله، قال قلت استأخر عني حتى القاك على خلاء فإني في جمع مالي كما ترى فانصرف عني حتى إذا فرغت من جمع كل شيء كان لي بمكة وأجمعتُ على الخروج لقيتُ العباس فقلت له احفظ عليَّ حديثي يا أبا الفضل فإني أخشى أن يتبعوني فاكتم عَلَيَّ ثلاثة أيام ثم قل ما شئت، قال لك علي ذلك، قال قلت والله ما تركت ابن أخيك إلا عروساً على ابنة ملكهم، يعني صفية، وقد افتتح خيبر وغنم ما فيها وصارت له ولأصحابه، قال أحَقٌ ما تقول يا حجاج؟ قال قلت أي والله، ولقد أسلمتُ وما جئتُ إلا مسلماً لآخذ مالي خوفاً من أن أغلب عليه فإذا مضت ثلاثة فأظهر أمرك فهو والله على ما تُحِبُّ، قال فلمَّا كان في اليوم الرابع لَبِسَ العباسُ حُلَّةً له وتخلَّق بالطيب وأخذ عصاه ثم خرج حتى أتى الكعبة فطاف بها، فلَمَّا رأوه قالوا يا أبا الفضل، هذا والله هو التجلُّد لحر المصيبة، قال كلا والذي حلفتم به، لقد افتتح مُحَمَّدٌ خيبر وترك عروساً على ابنة ملكهم، وأحرز أموالهم وما فيها فأصبحت له ولأصحابه، قالوا مَنْ جاءك بهذا الخبر؟ قال الذي جاءكم بما جاءكم به، ولقد دخل عليكم مسلماً وأخذ ماله وانطلق ليلحق مُحَمَّداً وأصحابه ليكون معهم، قالوا تفلَّت عدو الله أما والله لو علمنا به لكان لنا وله شأن، قال ولم يلبثوا أن جاءهم الخبر بذلك، فتوصَّل الحجاج بفطنته واحتياله إلى تخليصه وتحصيل ماله.

ولَمَّا اجتمعت الاحزابُ على حرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الخندق وقصدوا المدينة وتظاهروا وهم في جمع كثير، وجم غفير من قريش وغطفان وقبائل العرب وبني النضير وبني قريظة من اليهود، ونازلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومَنْ معه من المسلمين واشتدَّ الأمر واضطرب المسلمون وعظم الخوف على ما وصفه الله تعالى في قوله تعالى: ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالًا شديدًا )، فجاء نعيم بن مسعود بن عامر الغطفاني إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إني قد أسلمتُ وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمُرني بما شئت فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خَذِّلْ عَنَّا إن استطعت، فإن الحرب خُدْعَةٌ، فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان نديماً لهم في الجاهلية، فقال يا بني قريظة قد علمتم ودِّي إيَّاكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا صدقت لست عندنا بمتهم، فقال لهم إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم فإن البلد بلدكم وبه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره وإن قريشاً وغطفان قد جاؤا لحرب مُحَمَّدٍ وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه وأموالهم وأولادهم ونساؤهم بغير بلدكم وليسوا مثلكم، لأنهم إن رأوا فرصة إغتنموها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لمن به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم، يكونون بأيديهم ثقة لِمَنْ على أن تقاتلوا معهم مُحمَدَّاً، قالوا أشرت بالرأي، ثم أتى قريشاً، فقال لأبي سفيان بن حرب وكان إذ ذاك قائد المشركين من قريش ومن معه من كبراء قريش، قد علمتم ودِّي لكم وفراقي مُحَمَّداً، وإنه قد بلغني أمْرٌ وأحببتُ أن أبلغكموه نصحاً لكم فاكتموه علي، قالوا نعم، قال اعلموا أن معشر يهود بني قريظة قد ندموا على ما فعلوا فيما بينهم وبين مُحَمَّدٍ وقد أرسلوا إليه يقولون إنا قد ندمنا على نقض العهد الذي بيننا وبينك فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنسلمهم إليك فتضرب رقابهم ثم نكون معك على من بقي منهم فنستأصلهم، فأرسل يقول نعم فان بعث إليكم يهود بني قريظة يلتمسون منكم رهائن من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً، ثم خرج حتى أتى غطفان فقال لهم مثل ما قال لقريش، وحذَّرهم فلما كانت ليلة السبت أرسل أبو ورؤس بني غطفان إلى بني قريظة يقولون لهم إنا لسنا بدار مقام وقد هلك الخف والحافر فاعتدوا للقتال حتى نناجز مُحَمَّداً ونفرغ فيما بيننا وبينه، فأرسلوا يقولون لهم إن اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل مُحَمَّداً حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز مُحَمَّداً، فإنا نخشى إن دهمتكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تشمروا إلى بلادكم وتتركونا، والرجال في بلدنا، ولا طاقة لنا به، فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان والله إن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لَحَقٌ، فأرسلوا إلى بني قريظة يقولون إنا لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا وقاتلوا، فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل إن الكلام الذي ذكره نعيم بن مسعود لَحَقٌ، وما يريد القوم إلا أن تقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك شمَّروا إلى بلادهم، وخلّوا بينكم وبين الرجل في بلدكم، فأرسلوا إلى قريش وغطفان إنا لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً فأبوا عليهم، فخذَّل الله تعالى بينهم وأرسل عليهم الريح فتفرَّقوا وارتحلوا وكان هذا من لطف الله تعالى أن ألهم نعيم بن مسعود هذه الفتنة وهداه إلى اليقظة التي عَمَّ نفعُها وحَسُنَ وقعُها.

وأمَّا ما جاء في التيقظ والتبصر في الأمور فقد قالت الحكماء من أيقظ نفسه وألبسها لباس التحفظ أيس عدوه من كيده له وقطع عنه أطماع الماكرين به وقالوا اليقظ حارس لا ينام وحافظ لا ينسام وحاكم لا يرتشى فمن تدرَّع بها أمن من الاختلال والغدر والجور والكيد والمكر.

وقيل إن كسرى أنو شروان كان أشد الناس تطلعاً في خفايا الأمور وأعظم خلق الله تعالى في زمانه تفحصاً وبحثاً عن أسرار الصدور وكان يبث العيون على الرعايا والجواسيس في البلاد، ليقف على حقائق الأحوال ويطلع على غوامض القضايا، فيعلم المُفسد فيقابله بالتأديب، والمُصلح فيجازيه الاحسان، ويقول متى غفل الملك عن تعرف ذلك فليس له من المُلك إلا اسمه، وسقطت من القلوب هيبته.

وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال خرج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ليلة من الليالي يطوف يتفقد أحوال المسلمين فرأى بيتاً من الشعر مضروباً فلم يكن قد رآه بالأمس فدنا منه فسمع فيه أنين امرأة ورأى رجلاً قاعداً فدنا منه وقال له مَنْ الرجل؟ فقال له رجل من البادية قدمت إلى أمير المؤمنين لأصيب من فضله، قال فما هذا الأنين؟ قال امرأة تتمخَّض قد أخذها الطلق، قال فهل عندها أحَدٌ؟ قال لا، فانطلق عمر لرجل لا يعرفه فجاء إلى منزله فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب بنت فاطمة الزهراء رضي الله عنهما هل لَكِ في أجر قد سَاقَهُ الله تعالى لَكِ؟ قالت وما هو؟ قال امرأة تتمخَّض ليس عندها أحَدٌ، قالت إن شئت، قال فخذي معكِ ما يُصلح للمرأة من الخرق والدُّهن، وائتني بقدر وشحم وحبوب، فجاءت به فحمل القدر، ومشت خلفه، حتى أتى البيت، فقال ادخلي إلى المرأة، ثم قال للرجل أوقد لي ناراً ففعل، فجعل عمر ينفخ النار ويضرمها، والدخان يخرج من خلال لحيته، حتى أنضجها، وولدت المرأةُ فقالت أم كلثوم رضي الله عنها بَشِّرْ صاحبك يا أمير المؤمنين بغلام، فلمَّا سمعها الرجل تقول يا أمير المؤمنين ارتاع وخجل، وقال واخجلتاه منك يا أمير المؤمنين، أهكذا تفعل بنفسك؟ قال يا أخا العرب مَنْ وَلِيَ شيئاً من أمور المسلمين ينبغي له أن يتطلع على صغير أمورهم وكبيره، فإنه عنها مسؤول، ومتى غفل عنها خسر الدينا والآخرة، ثم قام عمر رضي الله عنه وأخذ القِدْرَ من على النار وحملها الى باب البيت، وأخذتها أم كلثوم وأطعمت المرأةَ فلمَّا استقرت وسكنت، طلعت أم كلثوم فقال عمر رضي الله عنه للرجل قم الى بيتك، وكُلْ ما في البُرمة وفي غَدٍ ائتِ إلينا، فلمَّا أصبح جاءه فجهزه بما أغناه به وانصرف.

وكان رضي الله عنه من شدة حرصه على تعرف الأحوال وإقامة قسطاس العدل وإزاحة أسباب الفساد وإصلاح الأمة يعس بنفسه ويباشر أمور الرعية سراً في كثير من الليالي حتى أنه في ليلة مظلمة خرج بنفسه فرأى في بعض البيوت ضوء سراج وسمع حديثاً فوقف على الباب يتجسَّس فرأى عبداً أسود قُدَّامَهُ إناء فيه مزر وهو يشرب ومعه جماعة فَهَمَّ بالدُّخُول من الباب فلم يقدر من تحصين البيت، فتسوَّر على السطح، ونزل إليهم من الدرجة، ومعه الدُّرَّةَ، فلمَّا رأوه قاموا وفتحوا الباب وانهزموا، فمسك الأسود فقال له يا أمير المؤمنين قد أخطأت وإني تائب فاقبل توبتي، فقال أريد أن أضربك على خطيئتك، فقال يا أمير المؤمنين إن كنت قد أخطأت في واحدة، فأنت قد أخطأت، في ثلاث فإن الله تعالى قال: ( ولا تَجَسَّسُوا ) وأنت تَجَسَّسْتَ وقال تعالى: (وأتوا البيوت من أبوابها) وأنت أتيت من السطح وقال تعالى: (ولا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأنسُوا وتسلّموا على أهلها) وأنت دخلت وما سلّمت فهب هذه لهذه وأنا تائبٌ إلى الله تعالى على يدك أن لا أعود، فاستتوبه فاستحسن كلامه، وله رضي الله تعالى عنه وقائع كثيرة مثل هذه.

وكان معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه قد سلك طريق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في ذلك، وكان زياد بن أبيه يسلك مسلك معاوية في ذلك، حتى نقل عنه أن رجلاً كلّمه في حاجة له وجعل يتعرَّف إليه ويظن أن زياداً لا يعرفه، فقال أنا فلان ابن فلان فتبسَّم زياد، وقال له أتتعرف إليَّ وأنا أعرف بك منك بنفسك؟ والله إني لأعرفك وأعرف أباك وأعرف أمَّكَ وأعرف جدك وجدتك، وأعرف هذه البُردة التي عليك، وهي لفلان وقد أعارك إيَّاها، فبُهِتَ الرجل وارتعد حتى كاد يُغشى عليه.

ثم جاء بعدهم مَنْ اقتدى بهم وهو عبد الملك بن مروان والحجَّاج ولم يسلك بعدهما ذلك الطريق واقتفى آثار ذلك الفريق إلا المنصور ثاني خلفاء بني العباس ولي الخلافة بعد أخيه السفاح، وهي في غاية الاضطراب فنصب العيون وأقام المتطلعين وبث في البلاد والنواحي مَنْ يكشف له حقائق الأمور والرعايا فاستقامت له الأمور ودانت له الجهات ولقد ابتُليَ في خلافته بأقوام نازعوه وأرادوا خلعه وتمرَّدُوا عليه وتكاثروا فلولا، أن الله تعالى أعانه بتيقظه وتبصره، ما ثبت له في الخلافة قدم، ولا رفع له مع قصد أولئك القاصدين علم، لكنه بَثَّ العيون فعرف من انطوى على خلافه فعالجه باتلافه، واطلع على عزائم المعاندين فقط رؤوس عنادهم بأسيافه، وكان بكمال يقظته يتلقى المحذور بدفعه دون رفعه، ويُعاجل المخوف بتفريق شمله قبل جمعه، فذلّت له الرقاب ولانت لخلافته الصعاب وقرَّر قواعدها وأحكمها بأوثق الأسباب.

فمن آثار يقظته وفطنته ما نقله عنه عقبة الأزدي قال دخلت مع الجند على المنصور فارتابني، فلمَّا خرج الجُند أدناني، وقال لي مَنْ أنت؟ فقلت رجل من الأزد، وأنا من جند أمير المؤمنين، قدمت الآن مع عمر ابن حفص، فقال إني لأرى لك هيبة، وفيك نجابة، وإني أريدك لأمر وأنا به معنى، فإن كفيتنيه رفعتك، فقلت إني لأرجو أن أصدق ظن أمير المؤمنين، فقال أخف نفسك واحضر في يوم كذا قال فغبتُ عنه إلى ذلك اليوم وحضرت فلم يترك عنده أحداً ثم قال لي اعلم أن بني عمِّنا هؤلاء قد أبوا إلا كيد ملكنا واغتياله ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا يكاتبونهم ويرسلون إليهم بصدقات أموالهم وألطاف بلادهم فخُذ معك عيناً من عندي وألطافاً وكتباً واذهب حتى تأتي عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب فاقدم عليه متخشعاً والكتب على ألسنة أهل تلك القرية والألطاف من عندهم إليه فإذا رآك فإنه سيردك ويقول لا أعرف هؤلاء القوم فاصبر عليه وعاوده وقل له قد سيروني سراً وسيروا معي ألطافاً وعيناً وكلما جبهك وأنكر أصبر عليه وعاوده واكشف باطن أمره قال عقبة فأخذت كتبه والعين والألطاف وتوجهت إلى جهة الحجاز حتى قدمت على عبد الله ابن الحسن فلقيته بالكتب فأنكرها ونهرني وقال ما أعرف هؤلاء القوم قال عقبة فلم أنصرف وعاودته القول وذكرت له اسم القرية وأسماء أولئك القوم وأن معي ألطافاً وعيناً فأنس بي وأخذ الكتب وما كان معي قال عقبة فتركته ذلك اليوم ثم سألته الجواب فقال أمَّا كتاب فلا أكتب إلى أحد ولكن أنت كتابي إليهم فاقرئهم السلام وأخبرهم أن ابنيَّ محمداً وإبراهيم خارجان لهذا الأمر وقت كذا وكذا قال عقبة فخرجتُ من عنده وسرت حتى قدمت على المنصور فأخبرته بذلك فقال لي المنصور إني أريد الحج فإذا صرتُ بمكان كذا وكذا وتلقاني بنو الحسن وفيهم عبد الله فإني اعظمه وأكرمه وأرفعه وأحضر الطعام فإذا فرغ من أكله ونظرت إليه فتمثَّل بين يدي ووقف قدامه فإنه سيصرف وجهه عنك فدر حتى تقف من ورائه واغمز ظهره بابهام رجلك حتى يملأ عينيه منك ثم انصرف عنه وإيَّاك أن يراك وهو يأكل ثم خرج المنصور يريد الحج حتى إذا قارب البلاد تلقاه بنو الحسن فأجلس عبد الله إلى جانبه وحادثه فطلب الطعام للغداء فأكلوا معه فلما فرغوا أمر برفعه فرفع ثم أقبل على عبد الله بن الحسن وقال يا أبا مُحَمَّد قد علمت أن مما أعطيتني من العهود والمواثيق أنك لا تريدني بسوء ولا تكيد لي سلطاناً قال فأنا على ذلك يا أمير المؤمنين قال عقبة فلحظني المنصور بعينه وقمتُ حتى وقفتُ بين يدي عبد الله بن الحسن فاعرض عني فدُرتُ من خلفه وغمزتُ ظهره بإبهام رجلي فرفع رأسه وملأ عينيه مني ثم وثب حتى جثى بين يدي المنصور وقال أقلني يا أمير المؤمنين أقالك الله فقال له المنصور لا أقالني الله إن لم أقتلك وأمر بحبسه وجعل يتطلب ولديه مُحَمَّد وإبراهيم ويستعلم أخبارهما.

قال علي الهاشمي صاحب غدائه دعاني المنصور يوماً فإذا بين يديه جارية صفراء وقد دعا لها بأنواع العذاب وهو يقول لها ويلك إصدقيني فوالله ما أريد إلا الألفة ولئن صدقتيني لأصلن رحمه ولأتبعن البر إليه وإذا هو يسألها عن مُحَمَّد بن عبد الله بن الحسن بن علي ابن أبي طالب وهي تقول لا أعرف له مكاناً فأمر بتعذيبها فلما بلغ العذاب منها أغمي عليها فقال كفُّوا عنها فلما رأى أن نفسها كادت تتلف قال ما دواء مثلها؟ قالوا شم الطيب وصب الماء البارد على وجهها وأن تسقى السويق ففعلوا بها ذلك وعالج المنصور بعضه بيده فلما أفاقت سألها عنه فقالت لا أعلم فلما رأى إصرارها على الجحود قال لها أتعرفين فلانة الحجَّامة فلما سمعت منه ذلك تغيَّر وجهها وقالت نعم يا أمير المؤمنين تلك من بني سليم قال صدقت هي والله أمَتي إبتعتها بمالي ورزقي يجري عليها في كل شهر وكسوة شتائها وصيفها من عندي سيرتها وأمرتها أن تدخل منازلكم وتحجمكم وتتعرَّف أحوالكم وأخباركم ثم قال لها أتعرفين فلاناً البقَّال؟ قالت نعم يا أمير المؤمنين هو في بني فلان قال صدقت هو والله غلامي دفعتُ إليه مالاً وأمرته أن يبتاع به ما يحتاج إليه من الأمتعة وأخبرني أن أمَةً لكم يوم كذا وكذا جاءت إليه بعد صلاة المغرب تسأله حِنَّاء وحوائج فقال لها ما تصنعين بهذا؟ قالت كان مُحَمَّد بن عبد الله بن الحسن في بعض الضياع بناحية البقيع وهو يدخل الليلة وأردنا هذا ليتخذ النساء ما يحتجن إليه عند دخول أزواجهن من المَغيب فلمَّا سمعت الجارية هذا الكلام من المنصور ارتعدت من شدة الخوف وأذعنت له بالحديث وحدَّثته بكل ما أراد والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.