القاعدة التَّاسعة عشرة: (والصُّلح خير) 1912
القاعدة التَّاسعة عشرة: الصُّلح خير
أ. د. ناصـر بن سليمـان العمر
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين

قال الله تعالى: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) (النساء: 128).
وردت القاعدة التي تتضمّنها هذه الآية الكريمة، في سياق المشكلات التي تطرأ بين الزوجين، وذلك في قوله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) (النساء: 128)، وفي هذه القاعدة من الدِّلالات ما يستحقُّ الوقوف أمامه والتَّنويه به.

من أولى دلالات هذه القاعدة، أنَّ الإسلامَ يتعاملُ مع واقع الأسرة كما هو، لا يفترضُ فيه المثاليَّة والكمال، ولا يُسيء الظَّنَّ به ويصمه بالضَّعف والهوان، بل يراه كما هو كيانٌ متفرِّد، يعرض له النّقص لكنّه قابلٌ للرُّقيِّ في مدارج الكمال، وبالتالي فلا يخلو بيتٌ من وجود المشكلات، بل لم تخلُ بيوتُ الأنبياء من ذلك، ومنها بيتُ نبيِّنا (صلى الله عليه وسلم)، لم تخلُ من مشكلاتٍ طارئةٍ عارضة، ولكن عندما نجعل القاعدة الكبرى في حياتنا قائمةً على أساسِ أنَّ الصُّلح خيرٌ وأولى من كلِّ نزاعٍ وخصام، فعندئذٍ يكون الوئام قريبًا.

ومن دلالات هذه القاعدة، المستندة إلى قوله تعالى: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)، أنَّ هذا الصُّلح ينبغي في الأصل أن يُعقد في إطار العلاقة بين الزوجين، وفي سياق استجابتهما للهدايات القرآنيِّة الواردة بخصوص ما يجب على كلٍّ منهما تجاه الآخر، من حفظ الميثاق الغليظ الذي تقوم عليه العلاقة بينهما، فالأصل أن لا تتدخَّل أطرافٌ أخرى لإجراء هذا الصُّلح، إلا في الحالات الاستثنائية، عندما يعجزان عن القيام بذلك، وعندما يُخشى أن يَدِبَّ الشّقاقُ بينهما، كما قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) (النساء: 35)، فلا يلزم بعث الحكمين، ولا أن يدخل بين الزوجين في الأصل أحدٌ، ولا أولادهما، بل ذلك يكون حالة استثناء، ولا ينبغي أن تتكرَّر، ما دام أنَّ الزَّوجين يُدركان معنى قوله تعالى: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ).

وفي قوله تعالى: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا)، قال العلماء في المقصود بقوله: إن يُريدا إصلاحًا الزَّوجان، وقال آخرون: هما الحَكَمان، وكلاهما صحيح، فلا بدَّ أن يُريد كلٌّ من الزوجين الصلح صادقَيْن في ذلك، وكذلك ينبغي للحكمين، أن يُضمرا صدق النِّيَّة في الإصلاح بين الزَّوجين، وقد ورد أثرٌ عن عمر -رضي الله عنه- أنه بعث حكمينِ؛ فلم يحدث الصُّلح؛ فعاقبهما، بناءً على أنّ مفهوم الآية، يدلُّ على أنّ التوفيق بين الزّوجين، رهنٌ بإرادة الحكمين، وروي عن مالكٍ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه-، قَالَ فِي الْحَكَمَيْنِ: ”أنَّ إِلَيْهِمَا الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا وَالْاجْتِمَاعَ“، قال مالك: ”وَذَلِكَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ الْحَكَمَيْنِ يَجُوزُ قَوْلُهُمَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ فِي الْفُرْقَةِ وَالْاجْتِمَاعِ“.

وبين العفو والصَّفح الذي مرَّ بنا في قاعدةٍ سابقة، وبين الإصلاح علاقةٌ وثيقة، لكنَّهما مختلفان، فالعفوُ والصَّفح يكون بالتَّجاوز كلِّيَّةً من أحد الزَّوجين عن خطأٍ صدر من الطَّرف الآخر، أمَّا الصُّلح فإنَّه عبارةٌ عن اتِّفاقٍ على أمرٍ معين، يؤدّي إلى حلِّ بعض المشكلات الزَّوجيَّة، على أساس أن يتنازل كلٌّ من الطّرفين عن موقفه؛ فيُبرما بينهما صلحًا على هذا الأساس، فعلى سبيل المثال، لو احتاجت الزوجة إلى مبلغٍ من المال، لحاجةٍ لم يرَ الزَّوجُ أهمِّيَّتها، فأصرَّت على موقفها، فليعقدا بينهما صلحًا على أن يعطيها بعض المبلغ، وهكذا فالصُّلح وصولٌ إلى حلٍّ وسط يُرضي الطَّرفين في كلِّ نزاعٍ يختلفان فيه.

وحري بنا أن نجعل الصُّلح ديدننا في كلِّ خلافٍ أو اختلافٍ بين الزَّوجين تشاحا فيه بحقوقهما، في كلِّ أمرٍ من الأمور- مظلَّةً يلجأ إليها الزوجان إذا تعذر صفح أحدهما، أصلح الله قلوبنا؛ فإنَّها إذا صلحت، صلحت بيوتنا، والله تعالى أعلم.

المصدر:
http://almoslim.net/tarbawi/290314