(80) شَذْرَةٌ مِنْ تَارِيخِ الْهِنْدِ:
أذْكُرُ هُنَا باختصار شيئًا من تاريخ الهند إتمامًا للفائدة فأقول: إنَّ للهند تاريخًا مَمْلُوءًا بالحوادث العجيبة البعيدة عن تصديق العُقلاءِ من خصوص عوائد ومُعتقدات أهل هذه المملكة وما جرى فيها من الوقائع ممَّا لا طائل تحته لو ذكرته هنا، ولكن أذكر بعض الوقائع والحوادث التي تتعلّق بأحوال الهند السِّيَاسِيَّة.
•••
كان المَلِكُ سيزوستريس أحَدُ مُلُوكِ الفراعنة قد غزا بلاد الهند بالجنود المصرية وحصلت بينه وبين جيوش الهند وقائع دموية، تغلَّبَ فيها على بعض ولايات ومقاطعات وحمل من الغنائم والأموال شيئًا وافرًا، ثُمَّ أعقبته المَلِكَةُ سميراميس وفتحتْ عِدَّةَ مُدُنٍ واستولت عليها، وفَعَلَتْ كما فعل سيزوستريس من أخذ الغنائم وغير ذلك، ومن هذا يُعلَم أنَّ الجندي المصري وصلت به شجاعته وإقدامه إلى أن وطئت قدمه أرض آسيا الكبرى.

ثُمَّ قَصَدَ الهند بعد ذلك المَلِكُ داريوس هستاسب ملك فارس وأوغل فيها وفتح عِدَّةُ ولايات وأدخلها في أملاكه، وجاء بعده إسكندر المكدوني الفاتح العظيم، وغزا بلاد الهند بجيش جرار يبلغ زهاء المائة والعشرين ألفًا، وأخذ يغزو البلاد والمُدُنَ ويفتحُ الممالك الهندية ويستولي على الغنائم حتى فتح عِدَّةَ ممالك، وكان يريد أن يستولي على الهند كُلِّها بحيث لا يترك شبر أرض لم يدخل تحت حُكْمِهِ، ولكن جنوده وقواده لم يوافقوا على ذلك فقفل راجعًا بعد النصر الباهر والفتوحات العديدة.
•••
ولَمَّا ظهر الإسلامُ في الوجود وأخذت فتوحاته تمتد في شرق البلاد وغربها، ذهبَ جيشٌ من المُسْلِمينَ إلى الهند تحت قيادة رجل يُقالُ له محمد قاسم أحَدُ قوَّاد بني أمَيَّة في خلافة الوليد وذلك سنة 711 للميلاد، وكان هذا القائد شُجاعًا مِقْدَامًا خَوَّاضُ غمراتٍ بطل غارات، والجيشُ الذي غزا به الهند من العرب لم يتجاوز عدده السِّتَّة آلاف مُقاتل مِمَّنْ ولدتهم الحروب ورضعوا ثدي الوقائع، فأخذ يُلاقي بهذا العدد القليل جيوش الهند فيهزمها ويُفَرِّقُهَا في الآفاق، ويُجَنْدِلُ الأبطال حتى أوغل في داخلية البلاد والنصر حليفه والفوز ظهيره أينما سار، وكان كلما فتح بلدًا يعرض على أهله الإسلام فمَنْ أسلم وكان سِنُّهُ فوق السَّبْعَة عَشَرَ عامًا سَلِمَ ونجا، ومَنْ أبى قتله، أمَّا النِّسَاءُ والأطفالُ فكان يأخذهم سَبْيًا ويستعبدهم.

ومن الوقائع الشهيرة التي أحْرَزَ فيها المُسْلِمون النَّصرَ البَاهِرَ وهي من الغرابة بمكان، أنَّ هذا القائد الباسل الْتَقَى بجيش من الهنود عند مدينة حيدرأباد الدكين يبلغ الخمسين ألفًا تحت قيادة رئيس يُقالُ له الرَّاجا الظاهر، فاشتبك الجيشان في القتال، ودارت رُحَى الحرب ومع قِلَّة عدد المُسْلِمين استظهروا على جيش الهند وقُتِل الرَّاجا وابنه، ولجأ المُنهزمُونَ إلى المدينة فحاصرهم المُسْلِمونَ حتى ضاقوا ذرعًا ونفدت من المدينة الأقواتُ، وصاروا في حالةٍ سيِّئةٍ، ولَمَّا يَئِسُوا وأيقنوا بالهلاك جمعوا النساء والأولاد وودَّعُوهُمْ الوداع الأخير، وجمعوا الحطب وأحرقوهم عن آخرهم خوفًا من وقوعهم في يد العرب المُسْلِمينَ، وبعد ذلك خرجوا لقتال المُسْلِمين وهم مستميتون فلاقاهم المُسْلِمون لقاء الأبطال وما زال القتال متواصلًا حتى أفنوهم عن آخرهم، وكانت ابنة الرَّاجا فِيمَنْ أُخِذَ في السِّبَاءِ وهي على جانب عظيم من الحُسْنِ والجمال، فأرسلها محمد قاسم هدية إلى الخليفة الوليد، ولمَّا مَثُلَتْ بين يديه أعجبه جمالها وأراد التَّسَرِّي بها فقالت له: لا تفعل ذلك أيُّها المَلِكُ؛ لأنِّي لَسْتُ أهلًا لِمَا تُريد، ولا يليق بمَلِكٍ مثلك أن يأكل فضلة أحَدِ رَعيَّتِهِ، فلَمَّا سألها عن السَّبَبِ قالت له: إنَّ القائد الذي حاربنا قعد مِنِّي مقعد الرَّجُلَ من المرأة، فغضب الوليدُ وأرسل مَنْ يأتي له بمحمد قاسم لينتقم منه، فلَمَّا ذهب الرسول واستدعى محمد قاسم أجاب بالطاعة، ولكنه مرض في الطريق ومات، فحُمِلَتْ جُثته إلى الخليفة، ولَمَّا وُضِعَتْ بين يديه أحضر الفتاة، وقال لها: كيف ترين مَنْ فَعَلَ مَعَكِ تلك الفِعْلَةِ الشَّنعاء؟ فقالت: أيُّهَا المَلِكُ إني لم أقل ما قلته إلَّا لأجل أنْ أنتقمَ لأبي منه والحقيقة أنه لم يفعل شيئًا مِمَّا أخبرتكَ به، ففرح الخليفة وتَسَرَّى بها.

وبعد موت محمد قاسم جمع الهنود قواهم واستعدوا لقتال المُسْلِمين وفعلًا حاربوهم، وأخرجوهم من بلادهم واستخلصوا منهم كُلَّ البلاد التي أخذوها.
•••
وفي سنة 967 ميلادية غَزَتْ الأعاجم بلاد لاهور الهندية تحت قيادة رجل فارس يُقالُ له سويكتاجي حاكم ولاية كندهار، والآن هي ولاية فارسية عاصمتها غزنة فقهر ملك لاهور واستولى على عِدَّةِ مَدَائن ضمَّها إلى ولايته التي هي الآن حُكُومَةُ أفغانستان، وكانت في ذلك العهد إحدى ولايات العجم، ولَمَّا مات هذا الحاكم خلفه ابنه محمود الغزنوي وذلك سنة 997 ميلادية وكان محمود هذا عالي الهِمَّةِ فحَدَّثتْهُ نَفْسُهُ بالاستقلال وفعلًا استقل بمُلْكِهِ وحارب الأعجام وانتصر عليهم، ووالى الغزوات في بلاد الهند واستولى على بلادٍ عديدة ضمَّها إلى مملكته، ومَكَثَ مَلكًا نحو خمسة وثلاثين سنة ثُمَّ تُوفِّي، ونقل خلفاؤه عاصمة السَّلطنة من غزنة إلى لاهور، ثُمَّ خلف العائلة الغزنوية العائلة الغورية، ومِنْ أشهر ملوكها السلطان محمد الغوري الذي امتدَّت الفتوحات الإسلامية في عهده في بلاد الهند امتدادًا عظيمًا، ثُمَّ أعقب هذه العائلة شعوب المَغُولِ ومِنْ أشهرهم تيمورلنك الذي له ذِكْرٌ في التاريخ خصوصًا في عهد ابتداء تأسيس الدَّوْلَةِ العَلِيَّةِ.
•••
وهكذا استولى مُلُوكٌ من المَغول والفرس على بلاد الهند حتى وطِئَتْهَا قَدَمُ الإفرنج، وأوَّلُ مَنْ دخل فيهم في هذه المملكة البرتغاليون وذلك سنة 1497 وهم الذين اكتشفوا رأس الرَّجَاءِ الصَّالِحِ ودَعَوْهُ بهذا الاسم، وفي مُدَّةِ خمسين سَنَةً صارت لهم أملاك ومراكز تجارية في بنكال، ثُمَّ إنهم لم يُحْسِنُوا مُعاملة الأهالي فأبغضوهم وتعمَّدوا الأذى معهم، ولَمَّا دخلت البورتوغال في حُكْمِ الإسبان وكانت إسبانيا مُضطربة من خصوص أملاكها الأميركية فخسرت أملاكها الهندية تدريجًا، ثُمَّ جاء بعدهم الفلمنكيون الذين مكثوا في بلاد الهند حتى دخلها الإنكليز فحلُّوا مَحلَّهم وامتلكوا الهند نهائيًّا.
•••
وأوَّلُ تداخل الإنكليز في الهند كان سنة 1600م؛ إذ شكِّلت شركة إنكليزية تجارية للمُتاجرة في الهند الشرقية، وأوَّلُ بلد اتخذتها هذه الشركة مركزًا لتجارتها هي مدينة سورات، ومكثت هذه الشركة إلى سنة 1640م، وفي هذه السَّنَة وهبها أحَدُ الولاة قطعة أرض تبلغ مساحتها خمسة أميال مُرَبَّعَةٌ فبنت الشركة فيها منازل، ومركزًا للتجارة ثُمَّ اشتروا من والٍ آخر قطعًا أخرى وبنَوا فيها مراكز أشبه بخانات من حيث التجارة، وأشبه بالمراكز الحربية من حيث إنهم كانوا يضعون فيها الأسلحة خوفًا من إغارة الأهالي عليهم، وأوَّلُ مَرَّةٍ ظهر فيها طالع سعد إنكلترا أنَّ ابنة الشاد جهان صاحب مدينة دلهي أُصِيبت بحروق كادت تقضي عليها لولا أحَدُ الأطباء الإنكليز الذي أرسلته الشركة لمُعالجتها، ونالت الشفاء على يديه فسأل الشاد هذا الطبيب أنْ يطلب ما يُريد في مقابلة أتعابه وأظهر له سرورًا وارتياحًا، فطلب الطبيب منه أنْ يُصْدِرَ أمره بإعطاء الرُّخصة للشركة في أنْ تُنشئ مراكز تجارية في كُلِّ أنحاء المملكة بدون أخذ رسوم غير التي تدفعها في سورات، فأصدر الشاد أمره بذلك، وفي سنة 1662 على عهد الملك كارلوس الثاني ملك إنكلترا تنازل الشاد للشركة عن جزيرة بومباي نظير مبلغ معلوم جاعلًا هذا التنازل هبةً منه لإنكلترا، فنقلت الشركة مركزها في سورات وجعلته فيها، وأقامت حاكمًا إنكليزيًّا عليها فصارت هذه الجزيرة قطعة من أملاك إنكلترا.

وفي هذه الأثناء دخل الفرنسويون بلاد الهند للتجارة، وفي زمن قليل صار لهم نفوذ فوق نفوذ إنكلترا ولكن نجم سعدهم أفل؛ حيث حظُّ إنكلترا كان آخذًا في الصُّعود، وقد حصلت عِدَّةُ وقائع بين الإنكليز والفرنسويين بسبب المُنافسات فاز فيها الجندي الإنكليزي على الفرنسوي، وهكذا أخذت الشركة الإنكليزية تقوِّي نفوذها، حتى عَوَّضَتْ إنكلترا بالهند ما فقدته من أملاكها الأمريكية وهي تحت حُكْمِهَا الآن حتى يفعل اللهُ مَا يَشَاءُ.