(77) تَجَوُّلٌ فِي بَعْضِ بِلَادِ اليَابَانِ:
بعد أنْ أقمنا في مدينة طوكيو نحو الأسبوعين أردتُ أنْ أتجوَّلَ في بعض بلاد اليابان، ووافقني على ذلك حضرة الحاج مخلص محمود والسيد حسين عبد المنعم، واخترنا الذهاب إلى مدينة كيوتو عاصمة اليابان القديمة؛ لأنها المدينة الوحيدة بين سائر مدن اليابان بعد طوكيو من حيث جودة هوائها واستكمالها أنواع الحضارة والمدنية، ولِمَا فيها من كثرة المُنتزهات الجميلة والمسافة بينها وبين طوكيو نحو السِّتِّ ساعات تقريبًا لِرَاكِبِ السِّكَّةِ الحديديَّة.

رَكِبْنَا القطار وفي أثناء الطريق كُنَّا نُطِلُّ من نوافذ العربة على الجانبين فنرى الغابات الكثيرة، والأشجار، والأرض المَكْسُوَةَ بساطًا سُنْدُسِيًّا من النباتات والزُّرَّاعُ يفلحون الأرض، ويتعهدون الزَّرْعَ إلى غير هذا من المناظر التي تروق العين وتَسُرُّ الخاطر.

ولَمَّا كان من شأن المُسافرين صُحْبَةً أن يتجاذبوا أطراف الحديث كان حضرة الحاج مخلص محمود يُحَدِّثَنَا عن أحوال الرُّوسيا وما يُلاقيه الرَّعايا هناك من أنواع الظلم والاستبداد مما لم يُسمَع بمثله إلَّا في عهد الرومانيين، وعلى الخصوص الرعايا المُسْلِمون الذين كان يقص علينا من أحاديث اضطهاد الروس لهم، وظلمهم إياهم ما يجري شئون العيون بدل الدمع دمًا، ويدع القلب الذي كأنه قُدَّ من الصخر إلى الرأفة بهم والتوجع لهم، الأمر الذي دعانا إلى تصديق كُلِّ ما تنقله الصحف السيارة عن المظالم التي يُعَانِيهَا المُسْلِمونَ هناك، وقد يتَّسِعُ بي مجالُ القول إذا سَرَدْتُ كُلَّ مَا قصَّهُ عليَّ من هذا القبيل، ولكن أذكر بعضها على سبيل الاستشهاد على أنَّ الرُّوسيا لم تجرِ على السياسة الفاضلة حيال رعاياها المُسْلِمين.

فَمِنْ ضِمْنِ هذه المَظالم كثرة الضرائب التي تضربها عليهم وعلى باقي الرَّعايا يكون المُسْلِمون فيها مخصوصين بالزيادة، فمثلًا إذا كانت الضريبة على غيرهم قرشًا على الفرد الواحد تكون على المُسْلِم قرشين أو قرشًا ونصفًا على الأقل، وكذلك إذا أراد المُسْلِمونَ أنْ يفتحوا مدارس لتعليم أبنائهم العلوم بلغتهم التترية الأصلية تحظر عليهم تلك الحكومة وتأبى إلَّا أن يكون التعليم باللغة الرُّوسيَّة، وهذا ولا شك يُعَدُّ من الاستبداد الذي لا تأتيه دولة تدَّعِي أنَّها نصيرة السِّلم وحليفة المدنية، وما زال الحاج مخلص محمود يَقُصُّ علينا أمثال هذه الأحوال وعلامات التَّأثُّر بادية في وجهه، فكنتُ ألاطفُهُ في تفريج هَمِّهِ، وإزالة غَمَّهِ، وكذلك كان يفعل السيد سليمان الصيني في تهدئة رَوْعِهِ، وبل غليله الذي جعله كأنه شعلة من نار تتَّقِدُ، ومِمَّا قاله الحاج مخلص هذا: إن الله سبحانه وتعالى لَمَّا عَلِمَ أنَّ دولة الرُّوس تمادت في الغطرسة وعدم المُبَالاة بأيَّة دولة أخرى، وبلغ بها ضرر بني الإنسان مبلغه أراد أنْ يَخذلها، ويكسر من شوكتها ويُقلِّل من اعتبارها في أعيُنِ الناس وسائر الدُّوَلِ والأمم على يد هذه الأمَّةِ اليابانية التي خذلتها في ميدان القتال، وجعلت أرض منشوريا مقابر لرجالها ودَمَّرَتْ أسطولها وطردتها من منشوريا وأخرجتها مُرغمَةً مقهورة بعد تلك الأنفة والعظمة، وأبطلت قول القيصر ووزرائه وقوَّادِهِ: “لأؤدبنَّ اليابان مائة مَرَّة”.

إذِ انْقَلَبَ هذا المعنى إلى الروس فأدَّبتْها اليابانُ ألفَ مَرَّةٍ ومَرَّةٍ على نهر اليالو، وأضعاف ذلك في مياه تشيوسيما وأضعاف أضعاف ذلك في بورت آرثر.
•••
هذا، وبعد أن قطعنا بعض محطات في سَيْرِنِا أحسسنا بالجُوع واخترنا أن لا نأكل غير الخبز والسَّمك، فلم يتيسَّرَ لنا ذلك فرأينا بعض الباعة في إحدى المحطات يحملون عُلَبًا أشبه شيءٍ بصناديق صغيرة الحجم مُرَبَّعَةٍ من الخشب يبلغُ حجم الواحدة منها عشرين سنتيمترًا، وعَلِمْنَا أنَّ بداخلها شيئًا من المأكولات فاشترينا سِتَّ عُلَبٍ لِكُلٍّ مِنَّا عُلبتان، يساوي ثُمَّن الواحدة أربعة أخماس القرش الصَّاغ، وفتحناها فإذا فيها الأرْزُ المُفلفل اللذيذ الطعم في جانب من العلبة وفوقه قطعة من العِجَّةِ المُتخذة من بيض الدَّجاج وفيها لقمة من الخبز ومن الجانب الآخر قطعة من السَّمَكِ المَقْلِي في الزَّيت وشيءٍ قليل من الخضراوات لم نعرف اسم نوعه، ويفصلُ الأرْزَ عن غيره قطعة من الخشب الرَّقيق، وبأسفل العُلبَةِ شيءٌ من الحُمُّصِ الكبير الحَبَّات مطبوخٌ ومُمَلّحٌ وكُلُّ هذه الأطعمة اللذيذة تُسمَّى “بنتو” كما يُسَمِّي التُّرك أنواع الخضراوات المطبوخة مع بعضها “طورلي”، ولكن الفرق بين الصِّنفين كبيرٌ في الطعم واللذاذة، فاستفدنا بشراء هذه العُلَبِ أكلًا لذيذًا واكتشفنا مجهولًا لم نكن نعرفه.

ومن الغريب أنَّ الملعقة التي يؤكلُ بها الأرزُ قطعتان من الخشب صغيرتان؛ إحداهما لليد اليمنى والأخرى لليد اليسرى، والتي لليد اليمنى مُجَوَّفَةٌ عريضة والتي لليسرى أقصرُ منها، وأقل في العرض، ووظيفة هذه تهيئة الأرز لتلك بحيث يسهل عليها تناوله.

والعُلبَةُ الواحدة منها أشبعت كُلًّا مِنَّا على جُوع شديدٍ، ولَمَّا فرغنا من الأكل رأينا الوابور يسير بين فضاءٍ من الماء شبيه بالبحيرة يشبه لَوْنُ أرضِه القبَّة الزرقاء، ينبتُ في وسطه العشب فكأنه بساط بديعُ النقوش أجاد صُنْعِهِ الصَّانِعُ، ووسط هذا المُتَّسَعِ جبالٌ تكسوها الغابات التي جعلت هذه الجبال ذات منظر جميل يحبسُ عليه نظر العيون، وهذه الغاباتُ غرسَها الوثنيون في الزَّمن الغابر؛ حيث كانت لهم منازل ومعابد في هذا المكان وبجوار هذه البحيرة مدينة كبيرة جميلة المنظر لم نستطع النزول فيها واسمها مدينة “انسو”، ولهذه البحيرة ذِكْرٌ في التاريخ؛ إذ كان يأتي إليها الشعراء، والكُتَّاب، والفلاسفة للترَيُضِ فيها ويجعلونها مَيْدَانًا تتسابقُ فيه جيادُ قرائحهم وأقلامهم؛ ولذلك حفظ التاريخ لها ذِكْرًا بين صفحاته كما حَفِظَهُ للرصافة والجسر من ذلك العصر.
•••
وبعد أن اجتزنا هذا الفضاء مَرَّ الوابورُ بين مُتَّسَعٍ آخر، ولكنه مَكْسُوٌّ بالأشجار والدوحات الكبيرة والغابات البديعة المنظر أكثر من الأول، وبعد نحو العشرين كيلومترًا تقريبًا وصلنا إلى مدينة “أواوسكا”، وهي واقعة على نهر مُسمًّى بهذا الاسم وتتخللها الخلجان كما كان الخليج في القاهرة، وفي هذا النهر جزيرة صغيرة في هيكل ضخم البنيان بناه الوثنيون لآلهتهم في الزمن الغابر، وهذه الجزيرة وهذا الهيكل أشبه شيء بجزيرة أنس الوجود الموجودة في النيل المصري عند أسوان.

أمَّا مدينة “أواوسكا” فهي ذات شُهرة في التاريخ؛ لأنها كانت عاصمة “السيكون” وهو أحَدُ المُلوك اليابانيين الذين أخضعوا كوريا لحُكمهم وسُلطتهم، ولَمَّا كان هذا المَلِكُ مشهورًا في تاريخ مُلوك اليابان بنوا له في هذه الجزيرة تذكارًا كالبُرج ضخم البناء، وكل هذه المناظر الجميلة كانت داعية ارتياح النفس، فكُنَّا نتناولُ أحاديث الفُكاهة والنَّوادر المُستظرفة والأدبيات الشعرية وغير ذلك من الأحاديث اللطيفة، والنَّاسُ ترمقنا بعين الاستغراب؛ لأننا أغراب وأصحابي مختلفو شكل الأثواب، ومن أغرب ما رأيناه في مسيرنا أنَّ الوابور مَرَّ في سيره على كوبري فوق نهر، وهذا الكوبري كان قبل أن يصل الوابور مُعلَّقًا في الفضاء بواسطة أعمدة منصوبة لرفعه ووضعه بمهارة غريبة، فلمَّا وصَلَ القطارُ أُنزِل هذا الكوبري على النهر، وبعد مُرُورِ القطار رُفِعَ ثانيًا، وهذا دَلِيلٌ على ما وصلت إليه أمَّةُ اليابان من الرُّقي الصناعي بواسطة العلوم التي تلقَّوها واجتهدوا في نشرها.