(74) القَصَّاصُونَ فِي اليَابَانِ:
إنَّ كثيرًا من العَوَائِدِ المُستهجنَة في الأمم التي لم تعرف للمدنية معنًى، لو كانت عند الأمم المتمدِّنة لظهرت بخلاف المظهر الذي تظهر به عند تلك الأمم، ومن هذه العوائد القصص التي يلقيها القصاصون، ففي مصر إذا مررت بالشوارع الوطنية تجد في قهاويها القصاصين الذين يحدِّثون العامَّة بسيرة عنترة، وسيف بن ذي يزن، وأبو زيد، والملك الظاهر بيبرس، وغيرهم ولكن هذه القصص وإن كان لها في الأصل حقيقة ولكن الزيادات التي تُضاف إليها تدخلها في دائرة الخرافات ولذلك ترى السَّوَادَ الأعظم في الأمَّةِ المصرية، وإنْ شِئْتَ قلْ فِي الأمَّةِ الإسلاميَّة، يعتقدون اعتقادات باطلة في حوادث تاريخية وهم معذورون؛ لأنهم يرون أنَّ كُلَّ حكاية يحويها كتاب هي حقيقية واقعية، وقد عَلَّلَ بعضهم هذه الأفعال من قلب الحقائق إلى أمور لا دليل عليها.

ولكن كُلُّ هذا راجعٌ إلى شيوع الجهل في هذه الأمَّةِ، ولو كانت مترقية لألَّفت في سيرة عنترة وسيف بن ذي يزن كتبًا لا تحوي إلَّا الحقائق؛ ليكون للعامَّة والخاصَّة اعتبارٌ بهذه السِّيَرِ، ولنأخذ عادة اليابانيين مثالًا على ما نقول.

إن القصَّاصين في اليابان هم أناسٌ مُتخرِّجُون من مدارس أُنشِئَتْ لهذا الغرض، فتراهم لا يقصُّونَ على القوم إلَّا السِّيَر الحقيقية التي لها في التاريخ ذِكْرٌ، فإذا وُجِدَ القصَّاصُ في محل عمومي وأخذ يلقي قِصَّتَهُ لا يكادُ يفرغ منها حتى ترى القوم نفحوه بالدراهم الكثيرة، ولكن ماذا يفعل بهذه الدراهم؟ وماذا يكون عقب فراغ القصَّاص من حديثه؟
•••
إذا فرغ القصَّاصُ من قِصَّتِهِ تجد في الحال هذه القصَّة مَطبُوعة وموزعة على الحُضُور؛ لأنه توجد مطبعة في كُلِّ مَحلٍّ يوجد فيه القصَّاص، ثُمَّ تُوزَّعُ القِصَّة على الحاضرينَ بصفة البيع فيشترونها والقيمة التي تُجمَعُ يُعطَى منها القَصَّاصُ قيمة أتعابه والباقي يُحفظ في صندوق خاص بالكنيسة لأجل أن يُوَزَّعَ على الفقراء وعلى الأعمال الخيرية.

فلْينظرِ العقلاء إلى قصَّاصِي اليابان وإلى قصَّاصِي مصر، ثُمَّ ليَحكُم على كلتا الأمَّتين؛ ليعرف الفرق بين مَنْ تشرَّبتْ عوائدها بالمدنيَّة وبين مَنْ تشرَّبَتْ عوائدها بالهمجيَّة.