(70) التعليم في بلاد اليابان:
ليس مُرَادُنَا من عقد هذا الفصل هو أنْ نُبَيِّنَ أنَّ أصْلَ تَقَدُّمُ اليابانيين المادي والأدبي، وعُلُوِّ كعبهم في مضمار الحضارة هو نشر التعليم العصري، فإنَّ هذا من القضايا المُسَّلَمَةِ؛ إذِ العِلْمُ هو أسَاسُ كُلِّ سعادة الأمم وإنَّمَا المُرَادُ أنْ نُبَيِّنَ كيف اعتناء القوم بأمر التعليم، هذا الاعتناء الذي لم تشاركها فيه أمَّةٌ أخرى شرقية كانت أو غربية فضلًا عن أن تسبقها فيه.

إنَّ اليابان كانت قبل هذا القرن كباقي أمم الشرق من حيث الجهل السَّائد فيها، ولم تكن تعرف من المدنية شيئًا يُذكَر، ولكنها حين شعرت بهذا التأخر وعرفت مزية العلوم ونشرها في البلاد، وتعميمها بين الأفراد اندفعت اندفاع الشَّرِه الجوعان إلى لذيذ الطعام، وفتحت المدارس على اختلاف أنواعها، وفي قليل من الزمن خطت خطوات كثيرة في سبيل التقدم والمدنية لم تكن لتخطوها أمَّة غيرها في أضعاف هذا الزمن القصير؛ إذ يمكن لو عملنا نسبة بينها وبين أيَّة أمَّة مُتمدِّنة غيرها أن نقول إن ما كانت تخطوه اليابان في هذا السبيل في يوم تخطوه غيرها في أسبوع، وما تخطوه في أسبوع تخطوه غيرها في شهر وهكذا، حتى لقد عَدَّ بعضهم هذا التَّقدُّمَ الباهر من خوارق العادات ومن القوى التي هي فوق طبيعة البشر، ولَمَّا كان القصدُ من نشر التعليم في الأمم هو تثقيف العقول وتهذيب النفوس واستعداد الأفراد لأن يكونوا رجالًا يخدمون أوطانهم ويفيدونها بفضل ما تعلموه، لا مجرد الحصول على نفس العلوم والاكتفاء بأن المرء يكون عالمًا بغير أن يظهر أثر هذه العلوم؛ اتبعوا القوم طرقًا في التعليم بها يغرسون في نفوس الناشئة حُبَّ الوطن، وما يجب عليهم نحوه حتى إنهم يجعلون ذلك في المسائل العلمية والقواعد الموضوعة في أصُول كُلِّ فن، هذا وقد كُنْتُ كتبتُ رسالة بَيَّنْتُ فيها طرق التعليم فيْ بلاد اليابان وبعثتُ بها إلى جريدة المُؤَيَّدِ الغرَّاءِ، ونُشِرَت في تاريخ 18 أبريل سنة 1907 عدد 5143 حين كانت الجرائد تشغل أعمدتها بالكتابة سلبًا وإيجابًا في موضوع تعليم العلوم باللغة العربية، كما أنَّ المُباحثات دارت بين أعضاء مجلس الشورى بعد أن اقترحتْه الجمعية العمومية...

وهذا نصها:
إنَّ كُلَّ مَنْ يتحدَّث بحديث عن الأمَّة اليابانية وما وصلت إليه من الرُّقيِّ المَادِّيِّ والأدبي فإنَّهُ يسند كُلَّ شيءٍ في ذلك إلى العلوم والمعارف التي أقبلت عليها منذ ثلاثين عامًا إقبال الشَّرِه الحريص على لذيذ الطعام ونفيس الكنوز، واقتدائها بأمر يبين في الأخذ بأسباب المدنية، ولكن إذا أراد أن يعرف الشرقي سُرعة ترقي هذه الأمَّة تلك السُّرعة الغريبة التي لم تُوفَّق إليها أمَّة من الأمم في الماضي والحاضر وقف وقفة الحائر؛ لأنَّ الدَّرجة التي وصلت إليها في الرُّقي لا يكفي لها قرنٌ من الزمان، ومبلغ ما يقفُ عنده جهد الفكر من التعليل هو الرَّغبة الزَّائدة والإقبال الفائق من سائر طبقات الأمَّة واهتمام الحكومة والأهالي معًا بنشر العلوم.

ولَكِنَّ كُلَّ هذه العلل وإن كانت قريبة للصِّحة فإن هناك سببًا آخر يُعَادِلُ كُلَّ هذه العِلَلِ، بل يمكننا أن نقول إنَّ تلقِّي العلوم بدون التأثير الذي يؤثره هذا السَّبب يُعَدُّ ناقصًا نُقصانًا عظيمًا، إنْ لم نقل أنه لا يُجْدِي نفعًا إلَّا مُجَرَّدِ الاتصاف بالعلم فقط مع فقدان الاتصاف بالعمل به وحُصُولِ النتيجة المقصودة في تلقِّيه، وإنِّي أكتفي في إيضاح هذا السَّبب بِذِكْرِ حادثةٍ حدثت في اليابان في أثناء الحرب الأخيرة بينها وبين الرُّوس، ونقلتها الصُّحُفُ الرُّوسيَّة وغيرها من الصُّحُفِ الأخرى السَّيَارَةِ فيما تُسَطِّرُهُ لِقُرَّائِهَا من غريب الأخبار وعجيب الحوادث.

اتَّفَقَ في ذلك الحين أنَّ أحَدَ مُكَاتِبِي الجرائد الرُّوسيَّة زار إحدى المدارس اليابانية الابتدائية، وطلب من رئيس المدرسة مُشاهدة التلامذة في فصولهم فأدخله في أحَدِ الفصول وكانت حِصَّة الجغرافيا، فسُرَّ من حالة التعليم وأُعْجِبَ بنجابة التلامذة وحُسْنَ أسلوب المُعَلِّمِ في التَّدريس، وفيما هو كذلك؛ إذ أبصر خريطة تمتاز عن جميع الخرائط برسم أناس في زي اليابانيين فدَنَا من الخريطة وشاهد مرسومًا فيها منشوريا وكوريا مُبيَّنًا فيها المَوَاقِعَ، والبُلدَانَ، وجميع المُرتفعات والمُنخفضات، والأرضَ الصَّالحة للزِّرَاعَةِ وغير الصَّالحة، والسُّهُول، والحُزُونَ، والمَضَائقَ، والجبال، والوهاد، والمناجم، والأنهر، والبُحيرَات، والغابات، وهؤلاء الأشخاص المرسومون في الخريطة رجالٌ من اليابانيين يقيسون المسافات بين كُلِّ بقعة وأخرى، ومقادير ارتفاعها عن سطح الماء وانخفاضها وغير ذلك من المسائل التي تجعل الطالب كأنه يرى منشوريا وكوريا رَأْيَ العَيْنِ بحيث لا يغيب عنه منها قيد شبر، فعجب من هذه الصُّدفة الغريبة، وزاد عجبُه من ذكاء اليابانيين وفضل اختراعهم الأساليب المُؤثِّرة في نفس الطالب كأنهم يقولون لهم بلسان الحال إن امتياز رسم منشوريا وكوريا عن باقي الرُّسُوم إنَّما نقصدُ به تفهيمكم أننا سنطرد الرُّوسَ من هذه البقاع، ولكن قبل أن نعرِّض جنودنا للخطر في مخارمها وفجاجها بعثنا رجالًا يعرفون المواقع الصَّالحة لمُرُورِ الجيش منها، بحيث يأمَنُ فيها من الأخطار وتَسْهًلً عليه أسباب الانتصار.

ثُمَّ زار فصلًا آخَرَ، وكانت حِصَّةُ الرَّسْمِ، فوجد الطلبة يَرْسُمُونَ والخريطة أمامهم، فلم يبدأ باختبار الطلبة، بل نظر إلى الخريطة؛ إذ ربما يكون مرسومًا فيها ما يُمَاثِلُ الرَّسْمَ الأول في الفصل الأول، فوجد بورت آرثر مرسومًا وواقعة دموية بين الجنود اليابانية والرُّوسِيَّة قُرْبَ هذا الرَّسْمِ، ولكن الجنود اليابانية مُهاجمُونَ من الجهة التي تمكِّنهم من الدُّخُولِ في القلعة، كما رأى أشلاء القتلى والدِّمَاءَ قد ملأت الفضاء وألسِنَةِ النِّيران تخرج من فُوَّهات المدافع والبنادق، والدُّخان قد انعقد مع الغبار المُثار، وحجب الغبراء عن الخضراء، فكاد يطير لبُّه من الإعجاب والدَّهشة، والمُصادفات الغريبة؛ إذ تَصَوَّرَ أنَّه لَابُدَّ من انتصار اليابان على الرُّوس وأخْذِ بورت آرثر عُنْوَةً وقَهْرًا.

ثُمَّ زَارَ فصلًا آخر فرأى مثل ما رآه في الفصلين السَّابقين، وهو أنَّ التلاميذ يشتغلون بحل مسائل حسابية أُتِي بها شواهد على القواعد المتعلّقة بجوهر الفن، ولكن صورة المسألة مُرَكَّبَةٌ من جيش من اليابانيين يُرِيدُ أن يجتاز مضيق “موتو” في كذا من السَّاعات فكم يكفي من الرَّصاص لكُلِّ جندي وهو يجتاز هذا المضيق إذا كان ما يطلقه في الدَّقيقة الواحدة كذا منها؟ وكم يكفي من الرَّصاص إذا كان عدد جنود الجيش كذا؟ وهنا مرسوم أمامهم طول المسافات بين مواقعه الحربية.

هذا ولَمَّا رأى المُكَاتِبَ كُلَّ هذه الأحوال الغريبة في طُرُقِ التعليم دُهِشَ دَهَشًا أدَّاهُ إلى أنْ يعتقد أن القوة العقلية التي تُودَع في مثل هؤلاء التلاميذ سنًّا وحداثة لا تؤهلهم إلى فهم المغزى من هذه الصُّوَرُ السِّياسيَّة العلميَّة، وكاشف الناظر بهذا الاعتقاد، فما كان جوابه له إلَّا أن قال: إنَّ عندنا مثلًا مشهورًا وهو أنَّ الياباني الصغير يفعلُ فعلَ الرَّجُلَ الكبير، فكان هذا الجواب عنده أغرب لِمَا وقر في نفسه من أنَّ هذه الأمَّة بلغت من العِزَّةِ مبلغًا ضُرِبَ به المَثَلُ، وفيما قاله له ناظر المدرسة إننا نُلقِي في قلوب النَّاشئة حُبَّ الوطن بهذا الأسلوب لنضمن له رجالًا في المستقبل يتقلّبون في المناصب فيجب أن يكون كُلُّ فرد منهم مُلِمًّا بالفنون التي تؤهله لأن يملأ كُرْسِي المنصب كفاءة واستحقاقًاk فبَعَثَ المُكَاتِبُ في الحال إلى جريدته بِوَصْفِ ما شاهده وبَيَّنَ مقدار دهشته واستغرابه.
•••
هذا ولَمَّا كُنْتُ في اليابان أرَدْتُ ذاتَ يوم أنْ أقِفَ على عدد المدارس هناك وعدد المُعلّمين والطالبين ومقدار ما تصرفه الحُكُومَةُ في هذا السَّبيل، فأطلعتُ جناب المسيو “جازنيف” على إرادتي هذه فقال لي: إنِّي كُنْتُ أريدُ أن أدعوكَ إلى زيارة نظارةِ المَعَارِفِ قبل أن تُخاطبني في هذا الخُصُوص، وفي الحال توجَّهنَا إلى النَّظارة وكان في صُحبتنا حضرة الفاضل السيد حسين عبد المنعم، ولَمَّا وصلنا إلى دار النَّظارة وجدناها دارًا مُشيَّدة البناء جميلة الرُّواء، بابُها صُنِعَ أدق صنعة وأجملها؛ حيث هو كناية عن شبه قوصرة قائمة على أربعة أعمدة بديعة الشكل متينة البُنيان، ولَمَّا اجتزنا الباب رأيتُ ساحة أفسحَ من صدر الحليم شُرِّفت بالرُّخام المُختلف الألوان مِمَّا يروق الناظر، ويَسُرُّ الخاطر والشَّرُفات بارزة بمنظر بديع دَلَّ على ترقي فَنِّ البناء في هذه البلاد، ثُمَّ وصلنا إلى غرفة جناب المسيو “تاراويزي”، ووظيفته تُعَادِلُ سكرتير النَّظارة في مِصْرَ، فاسْتَأْذنَّا بالدُّخُولِ ولَمَّا دخلنا غرفته قابَلَنا ببشاشة تامَّة ولُطْفٍ دَلَّ على كرم أخلاقه، وكمال تربيته، وجميل آدابه، وحادثَنا أحْسَنَ حديث، فكان يُحْسِنُ التكلّمَ والاستماع، وكان حضرة السيد حسين عبد المنعم يُتَرْجِمُ بيننا، ومن العجب أنه مع هذا الإكرام والاحتفاء الفائق لم يطلب لنا قهوة ولا شايًا ولم يُقَدِّمْ لنا السِّيكارة كما هي العادة عند أمم الغرب والشرق، ولعل هذا عادة عندهم والعادة يجب الوقوف عند حكمها، وهذا لا يُعَدُّ نقصًا من آداب القوم؛ لأن الإكرام بتقديم مثل ذلك ليس كإكرام حُسْنِ الاستماع والكلام والمُقابلة بالّلطفِ والبَشاشة.

وبعد بُرْهَةٍ أطلعناه على رغبتنا في معرفة ما قصدنا لأجله الزيارة، فأمر أحَدَ مُستخدمي النَّظارة بأن يذهب معنا إلى حيث نريد، فأدخلَنا في غُرَفِ بعض الكُتَّابِ والعُمَّالِ فإذا هي مفروشة بأفخر الفراش مُزيَّنة بالنُّقوش كأحسن ما يوجد في قصور الأغنياء والأمراء وبها الكراسي والمقاعد الغريبة الصُّنْعِ، إلى غير ذلك مِمَّا تُزَيَّنُ به الغُرَفُ في أحسن القُصُورِ وأفخر الدُّورِ.

ولَمَّا دخلنا في غرفة بعض الكَتَبَةِ وهي الغرفة التي فيها دفاتر الإحصائيات طلبنا الدفتر المُرصَد فيه تعداد المدارس والمعلمين والطالبين فأحضره لنا فوجدنا في أول ورقة منه الجدول الآتي:
اسم المدرسة - عدد التلامذة - عدد الفصول - مقدار المُعلّمين - نوع المدرسة
هذا هو الجدول ثُمَّ هاك التعداد:
25 جامعة كبرى تُدرَّس فيها كُلُّ العلوم، 94 مدرسة عالية كالطب والحقوق، والمهندسخانة، والزراعة، والمعلمين، والصيدلية، والولادة، والبيطرية، 2365 مدرسة صناعية عالية، 5250 مدرسة صناعية درجة ثانية، 1765 مدرسة تجهيزية، أمَّا المدارس الابتدائية في اليابان فهي تنقسم إلى ثلاث درجات فمنها 9154 مدرسة ابتدائية درجة أولى، و15216 درجة ثانية و16112 درجة ثالثة فيكون مجموع المدارس كلها 49991، هذه هي المدارس الموجودة في اليابان على اختلافها، وإنَّ مجموع عدد المُعلّمين والمُتعلّمين فيها فهو 8864560 مُتعلّمًا ذكرًا وأنثى وعلى هذا فنسبة المُتعلّمين من الذكور هو 85 في المائة ومن البنات 57 في المائة، وعدد المُعلّمين في المدارس الابتدائية 242892، والمدارس الثانوية 1412، والمدارس العالية 7734.

ومقدار ما تصرفه الحكومة على المعارف مليونان ونصف من الجنيهات، على أن أجرة المُعلّم لا توازي نصف قيمة أجرة المُعلّم في مِصْرَ، وليس هذا من بُخْلِ الحُكُومَةِ عليهم ولكنهم يجعلون أخذهم القدر الزَّهيد في سبيل الأجر هو لأجل أن يسدُّوا عَوَزهم من خصوص المعاش، ويقولون إن عدم أخذنا المبالغ الباهظة في سبيل أجر التعليم هو خدمة أخرى للوطن يجب علينا أداؤها.

ولَمَّا كانت المعارف في بلاد اليابان مُقتبسة من الغرب كان المُعلّمون فيها من بادئ الأمر من الأوروبيين، ولَمَّا أخذ القوم فيها بنصيب وافر أَنْشَأوا الكُلَّيات التي تخرَّج منها الأساتذة الأكْفَاء من كُلِّ أنواع العلوم؛ أخذوا يُقلّلونَ من المُعلّمين الغربيين ويستخدمون بدلهم من الوطنيين حتى أصبح المُعلّمون في كُلِّ المدارس من الوطنيين، وكأنَّهم في هذه الحالة يقولون إننا أمَّة شرقية خالفت كُلَّ أمم الشرق؛ حيث اكتفت برجالها الذين تعلَّموا واكتفت عن جلب المُعلّمين من الأجانب ولهم الحَقُّ في هذا الفخار؛ لأنَّ ثُمَّرة العِلْمِ هي أن تكون الأمَّة قائمة بذاتها غير مُستعينة بسواها في بُلُوغ الدَّرجات العالية من الحضارة والمدنية.

ومِنْ غريبِ ما وَقَعَ في بلاد اليابان ونقلتهُ الصُّحفَ مُعجَبة به ومُستغربة له أيُّمَا استغراب فيما يتعلّق بنتائج التعليم الرَّاقي في بلاد اليابان ويَدُلُّ على أنَّهم أخذوا حَظًّا وافرًا في الصِّناعة؛ أنَّ أحَدَ الغربيين كان يُحَادِثُ الكونت “كاتسورة” رئيس الوزراء سابقًا، وتَطَرَّقَ في الحديث إلى الانتقاد على اليابانيين في أنَّهم لم يصنعوا مراكبهم الحربية في معامل أوروبا، بحيث لو صنعوها فيها لكانت بحريتهم على الأقل تُعَادِلُ بحرية دولة من دُوَلِ الطبقة الأولى بين العالم، فقال الكونت كاتسورة: إنَّ هذا الّلومَ يَجِبُ أنْ يُوَجَّهَ مِنَّا إلى أوروبا التي لم تصنع مراكبها الحربية وأسلحتها في معامل اليابان التي تُعَدُّ بالمئات لأنها لا تفضُلُنَا في شيءً من خُصُوص العُلوم والفُنون والصَّنائع، ثُمَّ لم يكتف بهذا القول حتى أطلع هذا الأوروبي على المعامل التي تُصَنَّعُ فيها المراكب الحربية والأسلحة والأحواض التي أُعِدَّتْ للبِوِارِجِ فَرَأَى ما لم يكن يعتقد وجوده من قبل.

وقد حَدَا بهما الحديث إلى ذِكْرِ الحرب فقال الكونت كاتسورة ما معناه:
إنَّ مِنَ الظلم البَيِّنِ أنْ يتهمنا إنسان بأنَّ هذه الحرب لها أدنى تعلُّق بالدِّين أو بتفضيل جنس على جنس؛ لأننا نعتقد أنَّ بَنِي الإنسان هُمْ إخوة، وكُل فردٍ منهم مُحتاجٌ إلى الآخر في مُعترك الحياة وأنَّ المنافع المادية والأدبية يجب أن لا تقتصر على جنس دون آخر، بل كُلُّ إنسان يتبادل هذه المنافع مع الآخر بلا نظر إلى الجنس والدِّين، وإننا حين أعلنَّا الحرب رسميًّا جمعنا رؤساء الأديان وأمرناهم بأنْ يخطبُوا في الناس بأن هذه الحرب سياسية وأنها بين اليابان والرُّوس فقط وغير ذلك مِمَّا ينفي عن الأذهان ما عساه يعلق بها من أن هذه الحرب غير سياسية.

وإنَّ مُحاربتنا الرُّوس لا مُحَرِّكَ لها في الحقيقة، إلَّا كوننا نظرنا إلى هذه الدَّولة بعد ما وَطِئَتْ قدمها منشوريا، فرأيناها أشبه شيء بالوحش المُهاجم الذي يُريِدُ أن يفترس الشَّرق، فأعملنا كُلَّ قوانا في صَدِّ هذا الوحش ومُحاربته بكُلِّ ما أمكن من وسائل الدِّفاع، وإنَّ أوروبا مدينة لنا بهذا الجميل؛ لأنَّ توطيد قدم الرُّوسيا في الشرق واستيلائها على مثل منشوريا خطرٌ على دول أوروبا بأجمعها لأنَّ الرُّوسَ لا حَدَّ لمطامعها تقف عنده، فمن كلام الكونت كاتسورة هذا يُعلَمُ مقدار ما وصل إليه سواس اليابان من التَّنَوُّرِ ومعرفة ضُرُوبِ السِّياسَة، وهذا كُلُّهُ رَاجِعٌ إلى العِلْمِ الذي بذلوا ويبذلون فيه كُلَّ مَا في وسْعِهِمْ ليلَ نَهار.

هذا الذي ذَكَرْتُهُ بالنسبة للتعليم، وأمَّا بالنسبة للفنون الأخرى مثل الطب وغيره فهو قد بلغ مبلغًا يَحِقُّ أنْ نجعله درسًا أمامنا، ولا أريدُ أنْ أذْكُرَ هنا مِنْ فَنِّ الطبِّ عدد الصيدليات والمَستشفيات، وإنَّمَا أذْكُرُ ما قد وقفتُ عليه من اعتناء القوم بأمر الصِّحَةِ مِمَّا يَدُلُّ دِلالة واضحة على أنَّهم قد أخذوا نصيبًا وافرًا من صناعة الطبِّ لم تُماثلهم فيه أمَّة من الأمَمِ الأخرى.

وذلك أنَّهُ توجد حُبُوبٌ يَأْمَنُ مَنْ يتعاطاها من أخطار داء الدُّسنتارية، وهذه الحُبُوب تُستعمَل عند كُلِّ الطبقات من الأمَّة، حتى إن الحُكُومَةَ جعلتها من الأشياء الضرورية للجنود وهي مُفيدةٌ أيضًا من حيثُ البرد فإنَّ مَنْ يتعاطاها يقوى على احتمال البَرْدِ القارص والزَّمْهَرير الشَّديد التَّأثير، وكُلُّ جُندي كان في زمن الحرب يحمل معه علبة فيها عَدَدٌ وَافِرٌ من هذه الحُبُوبِ وكثيرًا من العقاقير الطبية؛ حَيْثُ الجو في منشوريا وحالة الطقس فيها مُهْلِكَةٌ خُصُوصًا في زَمَنِ الحرب الذي كانت تتولّد فيه الأمراض المختلفة، فكانُوا يحملون من العقاقير ما يُلائِمُ كُلَّ مَرَضٍ يخشون وقُوعِهِ، وبسبب تعاطي القوم هذه الحبوب تجد صحتهم متوفرة وأجسامهم سليمة صحية وقواهم تامة، والجندي يتعاطى من هذه الحبوب في كُلِّ يوم 26 حبة، وجملة ما يُنفَق منها في طوكيو في اليوم الواحد نحو 3500600 تقريبًا.
•••
هذا ولما نظرت أمم الشرق إلى هذه الأمَّة التي بلغت من الرقي الهائل مبلغًا عظيمًا أخذت ترسل إليها الشبان ليتلقوا العلوم في مدارسها، وكلياتها، ومصانعها حتى إنه يوجد عدد عظيم من أبناء الصين يزاحمون الطلبة اليابانية في المدارس هناك.

وقد أُلِّفت لجنة في الهند في حيدرأباد الدكن تحت رياسة حضرة المولوي الهمام عبد القيوم أفندي، وهو من النابغين الذين عرفوا مزية المدنية الحاضرة وحنَّكتهم حوادث الأيام، وقد جمعت الأموال اللازمة للإنفاق على الشبان الذين تريد أن ترسلهم اللجنة إلى اليابان وهي سائرة بكُلِّ اهتمام ونشاط.

فانظر أيها القارئ الكريم إلى هذه السعادة التي منحتها أمَّة اليابان، وارفع معي صوتك بإخلاص إلى الله -سبحانه وتعالى- داعيًا راجيًا أن يُلْهِم الأمَّة الإسلامية ما ألهم هذه الأمَّة المتمدِّنة التي اعتنت بشأن العلوم والمعارف، وبذلت جهدها في تعليم الناشئة، حتى تخرَّج من مدارسها من رفعوا شأن أوطانهم وصاروا يعدون في مصافِّ الرجال العاملين على سعادة أمتهم وبلادهم.

وليس هذا مقام تقريظ اليابانيين فإن الأيام وحدها وصفحات التاريخ قد سجلت لهم الفخار الباقي بقاء الأعصار وتوالي الليل والنهار.

ومما نستشهد به الآن على تعلُّم اليابانيين الترسخانة الحربية التي قلَّ أن يوجد مثلها في بلاد العالم.
•••
صحبت ذات يوم جناب المسيو جازنيف والسيد حسين عبد المنعم في زيارتي دار الصناعة الحربية “الترسخانة”، فتوجَّهنا إليها فإذا هي ليست بدار بل هي بلدة كبرى لكثرة ما فيها من العُمَّالِ الذين يُعَدُّونَ بالآلاف، وناهيك بمكان فيه الآلاف مِمَّنْ يشتغلون في صُنْعِ الآلات الحربية لدولة كدولة اليابان.

دخلنا هذه الدَّار فاستقبَلَنا بعض الرؤساء وَقد غاب عني حفظُ اسمه واسم وظيفته، فأطلعنا على محال صُنْعِ المدافع والبنادق والأسلحة البيضاء وعمل الدِّيناميت والبارود والرَّصاص فإذا حركة العمل في جِدٍّ فائق، ونشاطٍ ما بعدهُ نشاط، وليس استغرابي من حركة هؤلاء العُمَّال بأقلَّ من استغرابي لحركة العُمَّالِ الذين يصنعون السُّفن الحربية من مدرعات، وبوارج، ومراكب التوربيد؛ إذ دخلنا في غرف ولا أقول إنها غرف لاتساعها، بل أقول إنها صالونات؛ إذ الغرفة على قدر حجم السَّفينة وارتفاع سقف غرفها يماثل ارتفاع سقف محطة العاصمة، ووجدنا تسعة مراكب تُصنَّع في تسع غرف وهي تُصفَّح بالفولاذ فعرفت أنَّها مُدرَّعات، وما زلنا ننتقل من مكان إلى آخر حتى عَجِبْتُ كُلَّ العَجَبِ، وفي الوقت نفسه تذكرتُ حديث المسيو كاتسورة مع ذلك الأوروبي الذي انتقد على اليابان؛ حيث لم تصنع آلاتها الحربية في المصانع الأوروبية وما أجابه جنابه من الجواب المُسْكِتِ المُفْحِمِ، وفي الحال رَفَعْتُ أكُفَّ الضراعة إلى الله -سبحانه وتعالى- أنْ يرفع مِنْ شأن دولتنا العليَّة وأنْ تكونَ هي الدولة الأولى في العالم أجمع ذات الطول، والحول، والقوَّة.