(46) رسالة سيدنا محمد -صلى اللهُ عليه وسلم-:
إنَّ نَسَبَ هذا الرَّسولُ الكريمُ يتصل بسيدنا إسماعيل ابن سيدنا إبراهيم، وهو من أشرف قبيلة في العرب وقد أخبر بمبعثه الرُّهابُ والكُهَّانُ قبل أن يُولَدَ، كما أخْبَرَ بهذا المسيح في الإنجيل، كما وَرَدَ في القرآن حكايةً عن ذلك في قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)، ولكنَّ الذين حَرَّفُوا التَّوراةَ والإنجيلَ حَذَفُوا هذا النَّبَأ منه.

وُلِدَ هذا الرَّسُولُ ورُبِّيَ يَتِيمًا؛ حيثُ مَاتَ أبوهُ وهو صغيرٌ فتكفَّلَ به بعضُ أقربائه، وقد ظهرت عند ولادته آياتٌ وعجائبٌ لم تتفق لغيره، فمن ذلك خًمًود بيوت النيران في أرض فارس؛ إذ كانت تُعْبَدُ من دون الله تعالى، وتكسير الأصنام من فوق الكعبة؛ إذ كان العربُ يتخذونها وسيلة إلى الله تعالى، كما أنَّ كِسْرَى مَلِكِ الفُرْسِ رأى ليلة مولده رؤيا هالته فقصَّها على الكُهَّان فأخبروه بأن رَسُولَ آخر الزمن قد وُلِدَ، ومن ذلك أنَّهُ لَمَّا كان يشتغل بالتجارة وكان ذاهبًا إلى الشام كانت تُظلِّله غمأمَّة دون سائر مَنْ معه من التُّجَّار، ولَمَّا رآه الراهب بحيرا عرفه؛ إذ كانت له علامات دالة على أنه النبي المُنتظر.

وكانت أخلاقه في عهد شبيبته لا تُعادِلها أخلاقُ أكملِ الناس عقلًا، وبما أن الله اختارهُ لرسالته طهَّرهٌ من سِفَاحِ الجاهلية، فلم يفعل ما كان يفعله العرب من الأفعال التي نهى عنها القرآن؛ كَشُرْبِ الخمر، وشُرْبِ الدَّمِ، ولِعْبِ المَيْسِرِ وغير ذلك، بل نشأ على عبادة ربِّه وانعكف في غار حراء يتعبَّدُ على مِلَّةِ أبيه إبراهيم -عليه السلام-، حتى جاءهُ الأمْرُ من عند الله بدعوة الخلق إلى الإسلام وذلك في بلوغه الأربعين سَنَةً، فجاءهُ المَلَكُ وهو سيدنا جبريلُ -عليه السلام- بأمر رَبِّهِ؛ إذ قال له: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ…) الآية، ولَمَّا بُعِثَ رَسُولًا أيَّدَهُ اللهُ بالآيات البيِّناتِ مِمَّا يطولُ شرحه، فمن الآيات: انشقاق القمر، وتفجُّر الماء من بين أصابعه، ورد العين المفقوءة صحيحة، وكلام الضب، والجمل، وإتيان الجذع يسعى إليه، ومن هذه الآيات القرآن الذي أعجز فصحاء العرب والعجم عن الإتيان بمثله أو بعضه، وهو الكتاب الذي جاء به حاويًا لكُلِّ أصول الدِّين الإسلامي وفروعه، وقد بَيَّنَ اللهُ مِقْدار فضله ومنزلته عنده ومحبَّته له في كثير من الآيات القرآنية، وبَشَّرَ الذين يتبعونه ومَدَحَهُمْ وأنذرَ الذين يُخالفونه وذَمَّهُمْ، وذلك في قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وقوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)، وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ…) الآية، وقوله عز وجل: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ)، فكُلُّ هذه الآيات القرآنية بَيَّنَتْ فَضْلَهُ -صلى الله عليه وسلم- وفَضْلَ الذين يتبعونه ويتَديَّنُونَ بدينه، وأوَّلُ مَنْ أُمِرَ بإبلاغهم الدَّعوةَ إلى الإسلام هم أهله وعشيرته؛ حيث يقول الله تعالى له: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)، فكانوا له أعوانًا في الدعوة إلى الإسلام، ومن هذه إشارة خفية إلى أن أهل الإنسان أَوْلَى الناس بإيصال الخير إليهم للُحمة القرابة، وما زال -صلى الله عليه وسلم- يدعو الناس إلى الإسلام ويجاهد في هذا السبيل وهو محفوفٌ بمعونة النَّصر والغلبَةِ على الكُفَّارِ حتى قُبِضَ وهو في الثالثة والسِّتينَ من عُمُرِهِ الشَّريف على أصَحِّ الرِّوايَات -صلى الله عليه وسلم-.