(23) القيام من تونس:
غَادَرْتُ تونسَ وركبتُ باخرة من بواخر الشركة الإيطالية، ووجهتي بلاد الشمس المُشرقة، وكان العزمُ أن نسافر من طريق بوغاز جبل طارق، فسواحل أفريقية لأجل أن نقف على أحوال سكان هذه البلاد، ولكن رأينا المسافة بعيدة جدًّا فعدلنا عن هذا العزم إلى السفر عن طريق مرسيليا، ثُمَّ على الخطِّ الحديدي من هناك فرأينا كذلك المسافة بعيدة فضلًا عن كثرة المصاريف، وأخيرًا عقدنا العزيمة على السفر من طريق بوغاز السويس؛ حيث الطريق منه أقرب وأسهل والمصاريف أقل، وفعلًا قطعنا التذاكر إلى عدن ونزلنا في الباخرة فإذا هي خاوية من الركاب نحو الثلاثُمَّائة ما بين الدرجة الأولى، والثانية، والثالثة، وبينما أنا ورفيقي نطالع في بعض كُتُبِ العلوم الدِّينية، وذلك في صالون الباخرة الذي هو أشبه شيء بنادٍ عمومي للركاب، وإذا برجلٍ فرنسوي يُدعَى المسيو “بيرتو” اقترب منا ورغب في التعرُّف بنا، فبعد التحية دار بيننا الحديث الآتي وكانت المخاطبة بيني وبينه.

فقال: إني أظنكما مُسلِمَيْنِ ومن أهل العلم.
أجل.
وإلى أيِّ البلاد أنتما ذاهبان؟
إلى بلاد اليابان للتبشير بالدِّين الإسلامي.
حسنًا فعلتما، وإني على ذِكْرِ الإسلام أريدُ أنْ أسألَ على شيء طالما وددتُ أن أجتمع بمثلكما ليُجيبني عنه، والآن أحْمِدُ اللهَ على الاجتماع بكما.
وما السُّؤالُ الذي تريد الجوابَ عنه؟
إنني قبل كُلِّ شيءٍ أؤكِّدُ لكُمَا بأنِّي لم أقصد بسؤالي إلَّا الاهتداءَ إلى الحقيقةِ، والعلم بالمَجْهُولِ، وما كُنْتُ لأقولَ هذا لولا خَشْيَةَ اتِّهَامِي بالتَّحَامُلِ على الإسلام والمُسْلِمينَ.

إنني اطلعتُ على تاريخ الإسلام من عهد نشأته إلى هذا العهد فدُهِشْتُ جِدًّا للفرق العظيم الذي بين حالته الأولى وحالته الحاضرة، فإنَّ الإسلامَ ظهرَ في جزيرة العرب ومن قلب آسيا ولم يمضِ عليه قليلٌ من الزَّمن حتى انتشر في بقاع المعمورة فلم يَبْق صَقْعٌ من الأصقاع إلَّا ودخله الإسلامُ، وإنَّ انتشارهُ هذا لم يكن بواسطة المُبَشِّرِينَ ولا غيرهم، بل هو لأجل مُلائَمَتِهِ لِكُلِّ جِنْسٍ وكُلِّ عادةٍ من عادات الأمَمِ، كَمَا يُعرَف ذلك من أحوالهِ وقواعده ومبادئهِ، وكان المُسْلِمونَ في تلك العُصُور في أعلى درجات التَّقَدُّمِ من حيث العلوم والمعارف، حتى إنَّ الأمَمَ كانت تخشى سطوة الإسلام وتنظرُ إلى مقام الخِلَافَةِ نظر الاحترام والاعتبار.

وذلك بخلاف ما عليه المُسْلِمون الآن من الانحطاط المادي والأدبي، حتى إنهم أصبحوا محكومين لأمم مخالفة لهم في الدِّين والعوائد، والقدر الذي يستظل بظل الخلافة منهم اليوم لا يوازي جزءًا من مائة من مجموع عدد المُسْلِمين الآن.

اعلم يا جناب الموسيو بيرتو أن الإسلام هو دين الفطرة، والعدل، والمدنية، والحرية، وإذا بحثت في أصوله، وقواعده، ومبادئه، وتعاليمه تكون أول مَنْ يَرُدُّ كُلَّ افتراءٍ يفتريه غيرُ المُسْلِمينَ على هذا الدِّينِ، وإلَّا لَمَا انتشر هذا الانتشار الهائل في سائر أنحاء الأرض في مُدَّةٍ وجيزة، وذلك التقدُّم الذي تقدَّمَهُ المُسْلِمونَ في العصر الأول ما هو إلَّا نتيجةُ سَيْرِ المُسْلِمينَ على قواعده والعملَ بما جاء فيه من الأوامر والنَّواهِي إلى غير ذلك من المُعاملات مع أهل الأديان الأخرى، وإذا قرأتَ سيرة الخلفاء الأمويين والعباسيين تعرفُ مقدار ما كان يبذلهُ هؤلاءِ في سبيل إعزاز كلمته وتأييد سُلطتهِ من إقامة الحُدُودِ في مقاطعها وتولية الأحكام لِمَنْ هم أكِفَّاءٌ لَهَا، والذَّوْدُ عن حِمَى الإسلام من أنْ تعبثَ به أيدي أهل الضَّلال وينال من كرامتهِ أعداؤه، هذا فضلًا عن إكرامهم لأهل العلم وتعزيزهم لأهل الفضل.

فإذا نظرتَ يا مسيو بيرتو إلى أحكام القرآن، ثُمَّ نظرتَ إلى قوانين وشرائع سائرَ الدُّوَلِ تجدُ أنَّ الشريعة الإسلامية هي الكفيلةُ بكُلِّ ضُرُوبِ العدل، سواء ذلك في الحقوق الجنائية التي يتساوى فيها المُسْلِمُ وغير المُسْلِمِ في كُلِّ الشئون السياسية والدِّينيةِ؛ لأنَّهُ جَمَعَ أنواع ما به سعادة مَنْ يدينُ بهِ، وكان القاضي الشرعي يحكمُ في كُلِّ الدَّعَاوَى المدنية والجنائية على مُقتضَى القواعدِ الدِّينيَّةِ، وكُلُّ العقوبات التي حَدَّدَتْهَا الشريعة الإسلامية إذا تأمَّلْتَ فيها وجدتها وحدها الكفيلة بردع الناس عن ارتكاب الجرائم، كما أنَّكَ إذا تأمَّلْتَ في أركان الإسلام تجدهُ جامعًا لمعنى المدنية الحقيقية.

فالمُسْلِمونَ في العصر الأول كانوا آخذين بأوامر الدِّين ونواهيه، سائرين على كُلِّ ما رسمه لهم في كُلِّ أحوالهم الاجتماعية، أما الآن وقد نبذوا الدِّين ظهريًّا وجعلوه نسيًا منسيًّا لا تآلف بينهم ولا اتحاد يعزِّز جامعتهم، والبلية العظمى أنهم استعاضوا بالقانون الوضعي عن القانون السماوي، فالقاضي الشرعي لا يحكم الآن إلَّا في الأحوال الشخصية، هذا مع انكماش علماء الدِّين فلا هُم يعملون على إقامة البدع و(لا هم يعملون على)  تنبيه الحاكم إلى المفاسد المنتشرة بين المُسْلِمين؛ فكثر الفساد، وانتُهكت حرمات الدِّين وآدابه، ولم يعمل بها إلَّا الذين يتَّخذونها حبالة للتقرب من الملوك والأمراء، فهي غشٌّ ورياء، وزد على ذلك الجهل السائد بين كُلِّ الطبقات، فترى الأغنياء يصرفون أموالهم في اقتناء الزخارف من أنواع البناء الفاخر وكُلِّ مظاهر الغنى، ولم يأخذ المُسْلِمون من مدنية الغرب إلَّا ما يضرهم في دينهم ودنياهم على أن المدنية الغربية مُستمَدة من التمدُّن الإسلامي؛ إذ الإسلام لم يأمر بالعبادات فقط، بل يأمر بأن يعمل المُسْلِم لدنياه كأنه يعيش أبدًا، ولدينه كأنه يموت غدًا، فلو سعى المُسْلِمون سعي الغربيين من حيث الاكتشافات والاختراعات فهم يعملون بقول الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، حتى إن الحكمة التي أودعها الشرع الشريف في الصلاة والصوم والزكاة والحج هي نفس المدنية الحقيقية التي بها ترتقي الأمم إلى أوْج السعادة، فالصلاة والصوم يبعدان النفس عن ارتكاب الدنايا والفحش، والزكاة تمنع السرقات لأنك إذا بحثت عن جنايات السرقة، والسلب، والنهب تجد السبب فيها هو الفقر، والحج يؤلف بين قلوب المُسْلِمين المنتشرين في سائر أنحاء الكرة الأرضية، فيكونون يدًا واحدة يشعر كُلُّ فرد بما يشعر به الآخر على بُعد ما بينهما من المسافة، وأما ما يرمي به الجاهلون هذا الدِّين القويم من أنه دين التعصب ضد غيره من الأديان الأخرى خصوصًا المسيحية؛ فكله وهم باطل، وإلَّا لما عاش المُسْلِمون واليهود والنصارى كُلَّ هذه المدة من عهد بدء الإسلام إلى اليوم، وهم متمتعون بالحرية التامَّة في مرافق حياتهم يتبادلون فيما بينهم المنافع والفوائد المتعلقة بحياتهم الاجتماعية، ومن العجب أن أوروبا تتهم المُسْلِمين زُورًا بأنهم متعصبون، إذا بدت منهم بوادر الألفة والاتحاد والتضامن في كُلِّ ما يهمهم دنيا وأخرى.

وهذا تاريخ الإسلام من أوله إلى آخره لا تجد في أيِّ زمن من الأزمان أن المُسْلِمين هاجوا ضد النصارى أو اليهود، بل الحروب الصليبية كلها لم تحركها إلَّا يد أوروبا التي تريد أن تمحو الإسلام عن العيون.

وعلى وجه الإجمال أقول لك يا جناب المسيو بيرتو إن المُسْلِمين إذا عملوا بدينهم في أحوالهم السياسية، والدِّينية، والاجتماعية، ونبذوا كُلَّ ما يخالف شريعتهم وعملوا بما هو واجب عليهم؛ لكانوا استرجعوا مجدهم السالف وكان مركز الخلافة يصير مرهوب الجانب في سائر الأمم.

وإني أراك يا مسيو بيرتو قد عرفت حقيقة السبب في تقدُّم المُسْلِمين في العصر الأول وتأخُّرهم في العصر الحاضر.

– الآن قد وقفت على الحقيقة وزال عني الارتياب في معرفة الأسباب، وإني أشكرك شكرًا جزيلًا؛ حيث أفدتني فائدة طالما تعذر عليَّ الاهتداء إليها، ثُمَّ أخذنا نتجاذب أطراف الحديث في مسائل أخرى لا داعي لذكرها الآن.