(12) حالة التعليم في تونس:
لا توجد مدرسة إسلامية في تونس ليتلقَّى فيها المُسْلِمون علوم الشرع الشريف إلَّا جامع الزيتونة، وقد كنت أظن أن هذا الجامع كالأزهر في مصر من حيث كثرة الطلاب واتساع المكان، فلما قدمت إلى تونس وزُرْتُ هذا الجامع وجدته في اتساعه لا يزيد عن المسجد الحُسيني والطلبة فيه قليلون لا يزيدون عن خمسمائة طالب، والمدرسون فيه ستة عشر عالمًا وهم مع قلتهم متفرقون في زوايا المسجد غير منتظمي الهيئة من جهة المطالعة أو الحضور في الدروس، وإن شئت قل هم في التمثيل كطلبة الأزهر أيام خلوِّه من هذا النظام الجديد الذي لم نَعُدَّه، نحن المصريين، وافيًا بالمرام.

وقد يَأسَفُ المَرْءُ كثيرًا عندما يرى مثل هذا الجامع الذي يُعَدُّ المدرسة الإسلامية الثانية في قارة أفريقية قد وصل إلى هذه الحالة من عدم النظام الدراسي مع قلة الطلبة، والذي عرفتُه أن العلماء هناك يعارضون في كُلِّ إصلاح يُراد إدخاله في جامع الزيتونة كتدريس العلوم العمرانية مع أنهم غير محقين في كُلِّ معارضة تبدو منهم؛ لأن إدخال مثل العلوم الرياضية لا يؤثِّر شيئًا على العلوم الدِّينية، بل هذه العلوم هي بمنزلة علوم الوسائل كالبلاغة، والنحو، والصرف، وحكمها الوجوب الكفائي.

ولو تصفَّحنا التاريخ لرأينا أن الأزهر كان يُدرَّس فيه علوم الطب، والهيئة، والفلسفة، والحساب، والهندسة، والجبر، والجغرافيا، ولم يكن التعليم فيه قاصرًا على العلوم الدِّينية.

ولرأينا أيضًا أنه في زمن المأمون ذلك الزمن الذي اهتمَّ فيه المُسْلِمون بالعلوم أيُّمَا اهتمام، كانت مدينة بغداد حافلة بالعلماء، والأدباء، والشعراء، والفلاسفة وغيرهم مِمَّنْ تخرَّجوا من المدرسة التي أنفق عليها أحد الوزراء مائة ألف دينار وحبس لها أعيانًا يربو رِيعُها على الخمسة عشر ألف دينار، وكان التلامذة فيها ستة آلاف تلميذ، فهذا الرُّقِي الذي كان في زمن المأمون لم يكن قاصرًا على العلوم الدِّينية، بل كان المدرسون في هذه المدرسة من غير المُسْلِمين كابن بختيشوع، وكانوا لا يأنفون من تلقِّي العلوم على غير المُسْلِمين، وفي هذا العصر اجتهد المأمون في ترجمة كثيرٍ من العلوم اليونانية إلى العربية؛ وبذلك تقدَّمَّتْ الأمَّة الإسلامية تقدُّمًا لم يزل التاريخ حافظًا لِذِكْرِهِ إلى الآن.

على أن سمو الباي لا يبخل بالنفقات على هذا المعهد الدِّيني ولو زادت على ما هو محبوس عليه من الأوقاف الكثيرة، متى رضي العلماء بدخول الإصلاح فيه.

ولا نرى دليلًا على وجوب الإصلاح سوى الحالة الحاضرة التي أصبح المُسْلِمون فيها في احتياج شديد إلى تعلُّم العلوم العصرية التي هي السبب الوحيد في تقدُّم الأمم الراقية في المدنية ذات الاختراعات العجيبة مما لم يحلم به أهل الزمن السابق.

وإني في هذا المقام أتقدَّمُ إلى حضرات العلماء في جامع الزيتونة بالرجاء بصفتي مسلمًا أحِبُّ النفع لإخواني المُسْلِمين أن لا يعارضوا في الإصلاح الذي يُراد إدخاله في هذه المدرسة.

وما كنت لأقول ذلك لولا ما رأيته من تأسُّف كثيرين من أهل تونس على التأخير الهائل الموجود في نظام هذا الجامع.

وهذه مدرسة علكرا بالهند أكبرُ دليل على صِدْقِ هذه الدعوى، فإن هذه الكلية تُدرَّس فيها جميع العلوم، وقد بذل الأغنياء كُلَّ جهدهم في إنشائها وتنظيم التعليم فيها كما فعل صاحب السمو أمير الأفغان في الكلية التي أنشأها في عاصمة بلاده، وقد ندَّدَ في خطبته حين وفد إلى الهند وزار كلية علكرا على الذين يقولون إن تعليم العلوم العصرية يؤثر على العلوم الدِّينية.

وعسى أن يبلغ الرجاء مسامع أهل تونس وعلمائهم ويقع لديهم موقع القبول.
•••
وتوجد بتونس مدرسة أخرى يُقال لها المدرسة الخلدونية التي كان للسيد محمد البشير صفر رئيس جمعية الأوقاف؛ اليد الطولى في تأسيسها وحالة التعليم فيها غير كافية لأنْ يتخرج منها الناشئة الذين يؤدُّون للبلاد الخدمة المطلوبة من ابن الوطن لوطنه.

ويدرس بهذه المدرسة مثل العلوم الرياضية ومبادئ اللغة الفرنسوية وتلامذتها هم من بعض طلبة جامع الزيتونة، ومن ضمن المدرسين فيها حضرة الفاضل البارع السيد محمد البشير صفر الذي يدرِّس فيها علم التاريخ وتقويم البلدان وهذان الدرسان لا يأخذ نقودًا في مقابلة تدريسهما، وهذه خدمة منه لبني وطنه يُشكَر عليها زيادة عن الترقي المادي والأدبي الذي ينتج من أفكاره لهذه المدرسة.

أمَّا الكتاتيب فهي مع قلتها لا تُجْدي نفعًا؛ إذ هي ككتاتيب الأرياف في مصر قبل هذه النهضة التي نهضها المصريون لإصلاح شأن الكتاتيب.
•••
والأهالي كلما عرضوا على الحكومة رغبتهم في إنشاء مدارس دينية تأبى إلَّا أن يتعهد الأهالي بدخول اللغة الفرنسوية ضمن العلوم التي تُدرس في هذه المدارس، وإذا عارضها الأهالي بأن هذه مدارس دينية محضة فلا تُعِير اعتراضهم جانب الالتفات.

وبالجملة فإن حالة التعليم في تونس في تأخُّر هائل، وربما بعد عشر سنوات ننتظر منهم تقدُّمًا باهرًا.

والذي ينظر إلى حالة الأزهر في مصر وإلى جامع الزيتونة في تونس يأسف كُلَّ الأسف؛ إذ هما المدرستان الدِّينيَّتان في قارة أفريقية وليس التعليم فيهما على الطريقة التي بها يستفيد المُسْلِمون منها الفائدة المطلوبة، ولا يَسَعُ مَنْ يقفُ على حالة التعليم في تونس إلَّا أن يشكر نظارة المعارف المصرية قليلًا لما تُبْديه من الاهتمام، وإن كانت الشكوى عأمَّة من المصريين بخصوص عدم الاهتمام بشأن اللغة العربية في المدارس الأميرية، ويا حبذا لو اقتدى التونسيُّون بالمصريين في إنشاء الكتاتيب والمدارس على نفقاتهم، فإنهم بذلك يصلون إلى درجة في السعادة غير هذه الدرجة الآن.