(7) مدينة بالرما:
إنَّ لهذه المدينةِ ذِكْرًا في التاريخ خُصُوصًا فيما يتعلّق بالفُتُوحَاتِ الإسلاميَّة؛ ولذلك رأيتُ أن أبدأ الكلام عنها بلمحةٍ تاريخيةٍ زيادةً في الفائدة.
•••
كانت هذه المدينة أقدم مستعمرةٍ للفينيقيين في صِقَليَّة، وأهم مراكز قواتهم الحربية، وقد سَمَّاهَا اليونان “باورموش”، والذي أكسبها هذه الأهمية جَوْدَةُ مَوقعها الطبيعي وحُسْنُ مرفأها، واستمرَّت في حَوْزَةِ الفينيقيين إلى سنة 480 قبل المسيح ثُمَّ استولى عليها القرطاجيون وبقيَتْ في حوزتهم إلى أن غلبهم عليها “بيزوش” ملك البيرة سنة 276ق.م ولكن استرجعها الفينيقيون ثانيةً، واستولى عليها الرُّومَانُ في الحرب البونيفية الأولى سنة 254ق.م وطردوا الفينيقيين منها فكانت مستعمرة رومانية مدة الإمبراطورية كلها، وبعد ذلك دخلت في حَوْزَةِ القوط ثُمَّ انتزعها منهم أحد القواد البيزنطيين.

وفي سنة 835 للميلاد فتحها المُسْلِمون وجعلوها قاعدة الجزيرة، قال ابن الأثير في تاريخه ما معناه: وسار المُسْلِمون إلى مدينة بالرما فحصروها وضَيَّقُوا على مَنْ بها فطلب صاحبها الأمان لنفسه ولأهله وعياله فأُجِيب إلى ذلك، وسار في البحر إلى بلاد الرُّوم ودخل المُسْلِمون البلد في رجب سنة 216ه، فلم يروا فيه إلَّا أقل من ثلاثة آلاف إنسان وكان فيه لما حصروه سبعون ألفًا ماتوا ولم يبقَ إلَّا هذا القدر النزْر منهم.

واستمرَّت بالرما هي الجزيرة في حَوْزَةِ المُسْلِمين إلى أن أخرجهم منها ملوك النورمنديين، وأنشأوا في القرن العاشر مملكة صقلية وأقام الشريف الإدريسي ببالرما وألَّف جغرافية واصطنع الكُرَّةَ الفضيَّة في بلاط الملك روجر الصقلي الثاني، أما بلاط الملوك النورمنديين فلبث في بالرما إلى أن ضُمَّت صقلية إلى مملكة نابلي، وحدث فيها زلازل شديدة أضَرَّتْ بها كثيرًا، وفي أثناء الثورة التي حدثت سنة 1848 أطلق عليها عساكر المملكة المدافع، وفي 13 مارس سنة 1860 دخل غاليباردي صقلية وفي 26 منه فتح بالرما بعد قتال عنيف في أسواقها، ثُمَّ حصل الاتفاق على الجلاء عنها فخرجت منها العساكر النابلية في 6 جونيو وجعلت مركزًا للحكومة المؤقتة، وفي سبتمبر سنة 1866 حدثت فيها ثورة وكان سببها إبطال الرهبنات، ولكن العساكر المليكة أخمدت نارها بعد ملاحم شديدة.

وهذه المدينة تَبْعُدُ عن نابلي بمقدار خمس عشرة ساعة وهي أكْبَرُ ميناءٍ في الشمال الغربي من جزيرة صقلية، وكان الوصول إليها نهارًا، فرأيتُ أن أنزل من الباخرة للتجوُّل فيها، فنزلتُ وأخذتُ أسيرُ في شوارعها الواسعة المنظمة.

وشَاهَدْتُ بها من العِمَارَاتِ والآثَارِ القديمةِ عَدَا آثارِ المَدَنِيَّةِ ما يأتي:
شاهدتُ فيها ساحةً كُبْرَى فُرِشَتْ بالبَلاطِ ومُحَاطَة بالأشجار وهذه السَّاحَةُ تُسَمَّى “أبرتوريا” فَرَاقَنِي منظرها الجميل البديع، ثُمَّ ساحة “مربنا” وهي لا تَقِلُّ عن تلك في الرَّونق وبهاء المنظر، وأعظمُ من تلك وهذه ساحة “فتوريا” من حيث الاتساع وإتقان التنظيم وهي في منتهى شارعٍ يُدعَى شارع “فتوريا إيمانيل” والذي زادها رونقًا وجعلها من الأهمية بمكان وجود القصر المُلوكي فيها، وهذا القصر مُعَدٌ لإقامة الإمبراطور حين مجيئه إلى بالرما.

وبها أيضًا حديقة كُبْرَى في وسطها، تَفَنَّنَ القومُ في أساليب تنميقها، حتى صارت تُعَدُّ من أعظم المنتزهات زُخْرُفًا وبَهَاءً، وبها حدائق أخرى بديعة الشكل تَسُرُّ النَّفْسَ وتَقَرُّ بها العَيْنُ.

وشاهدتُ بها من الآثار القديمة القصر المُلوكي الذي بناه النورمنديون وأجادوا صُنعه وهو مُحاط بالأشجار وعليه سيما الوقار على ما مَرَّ عليه من السِّنين والأعصار.

أمَّا الكنائس القديمة والأديرة فكثيرة؛ حيث يبلغ عدد الكنائس نحو 250 والأديرة 70، وأهَمُّ هذه الكنائس الكنيسة الكبرى وهي في أهم أحياء المدينة وحولها سياجٌ مما نسمِّيه اليوم “درابزين” وقد نُصِبت فوق هذا السِّياج تماثيلُ القديسين، ومن أشهر هذه الكنائس الكنيسة التي بناها “روجل” الأول ولا تَقِلُّ في جَوْدَةِ البناء والضخأمَّة عن الكنيسة الكبرى وبها نُقُوشٌ ذهبية غريبة في بابها تَدُلُّ على مهارة صانعيها وتفنُّنهم في أساليب الزخرفة في البناء، ثُمَّ كنيسة “لاسنتارزالي” التي بناها “كوريون” الثاني على نمط الفونتية، وقد زِيد في بنائها في القرن الخامس عشر للميلاد وقد وسَّعُوا بابها وبالغوا في زخرفته مُبَالغةً عُظمَى، ثُمَّ كنيسة القديس “سنت جيوفني” وهي كبيرةٌ وقد جدَّدَ بها الرومانيون قبابًا خمسًا عجيبة الوضع، جميلة الشَّكل، ويوجد كنائس أخرى على هذا المنوال من ضخأمَّة البناء وغرابة الصُّنع مثل كنيسة “مورتورانو”.

وكان لبالرما ميناء ذات أهمية في سالف العصر، ولكنها أُهمِلت وصارت خاصة بالمراكب الصغيرة والزوارق يبتدئ منها شارع “فتوريا إيمانيل”، وأُحدِثت بجانبها الميناء الجديدة وهي كائنة في شمالها على سفح جبل “بلجرونة” ويوجد في هذه المدينة رصدخانة كبرى تسمى “سنطاننفا”.

وبالجملة فإن بالرما مدينة آهلة عامرة بالمتاجر وكل أنواع المدنية، وهي من أشهر المدن في إيطاليا ثُمَّ أقلعتِ الباخرةُ قاصدةً مدينة “طراباني”.