(6) مدينة نابلي:
هذه المدينة هي الرَّابعة في إيطاليا بعد روما وبرنديزي وفينسيا البندقية من حيث التجارة والمعارف، كما أنها من أهم الموانئ لها في البحر الأبيض المتوسط، وهي تبعد عن مسينا بمقدار 20 ساعةٍ تقريبًا، وكُنْتُ قبل أن ترسُو الباخرة في الميناء نظرت على بُعْد أشبه شيء بمنارة المسجد فسُرِرْتُ وقلتُ: لعل بهذه المدينة مسلمين لهم مسجدٌ وهذه منارته، ولكن حينما نزلتُ إلى البَرِّ علمتُ أنها فنار البحر على شكل منارة المسجد لتهتدي به البواخر ليلًا إلى الميناء.

ولعلمي بأن الإقامة في نابلي تستغرق عشر ساعات اغتنمت الفرصة للتجوُّل في شوارعها لأشاهد آثار المدنية الغربية فيها، فكُنْتُ حيثُمَّا مشيتُ أجدُ الأنظار شاخصة إليَّ؛ لأن الزِّيَّ الشرقي المصري في نظر هؤلاء غريب.
•••
وبينما أنا مَارٌ في بعض الشوارع وإذا بصوتِ منادٍ يقول: يا محمد، وكَرَّرَ ذلك مِرَارًا، فالتفتُّ فإذا بأحَدِ الطليانيين يُشِيرُ عَلَيَّ بالوقوف فوقفتُ وأتى فحيَّاني بتحيَّة المُسْلِمينَ وصافحني قائلًا: إنَّكَ شَرْقِيٌ، ويظهر لي أنَّكَ من أهل العلم، فقلتُ: نعم، فقال لي: إني أستاذ في المدرسة الشَّرقية وأحِبُّ أن تزور المدرسة لترى كيف نُعَلِّمُ لُغتكُمُ العربيَّة في مدارسنا، فشكرتُه على شعوره وطلبتُ منه مرافقتي إلى السَّفينة لألبس ملابس غير التي عليَّ؛ حيث كنتُ بملابس السَّفر، فلبَّى طلبي وكنتُ أحَادِثهُ في الطريق فإذا هو يتكلّمُ بالعربية الفُصحى بغير لَحْنٍ وقد أعطاني “كارتًا” باسمه “توليو بزوشي” كما قدَّمت له “كارتًا” أيضًا.

ولَمَّا وصلنا إلى المدرسة قدَّمَنِي للرئيس والأساتذة فقابلوني بالحفاوة وبالغوا في الاحتفاء بي وكان حضرة المسيو “توليو بزوشي” خاليًا من حِصَّة الدِّرَاسَة في هذا الوقت، فطلب مني اختبار التلامذة في اللغة العربية، وتاريخ العرب، وهم خليطٌ من الطليان والفرنسويين وغيرهم، فاختبرتهم في فصولهم كلها، فدُهِشْت لنجابتهم، وذكائهم، وسُرعة أجوبتهم، الأمر الذي جعلني أتمنَّى لو يكون اهتمام مدارسنا المصرية بلغتنا العربية كاهتمام الإيطاليين بها.

وكان التلميذُ إذا تكلّم بالعربية لا يلحنُ قط؛ لأنَّه تلقَّى اللغة بحسب القواعد النحويَّة، فكان يُجِيدُ النُّطق إذا تكلّم بجوابٍ عن سؤالٍ، أو قرأ في كتاب.

وغاية الأمر أن الخط العربي هناك مثل خط أهل تونس والجزائر والمغرب الأقصى.

ولم يقتصر القومُ على تعليم اللغة العربية فقط، بل إنهم يدرِّسون لهم تفسير القرآن بطريقة عجيبة؛ حيث يحفظ التلميذ السُّوَرَ الصغيرة وبعض الآيات مع فهم المعاني ومعرفة كم من الآيات في السُّورَة مكية، وكم فيها مدنية.

فلينظر المصري العربي إلى هذه العناية العظمى بأمر اللغة العربية والقرآن الشريف من قوم ليسوا من العرب، ولا مِمَّنْ يدينون بالدِّين الإسلامي الحنيف وليُقارن بينها وبين ما تُلاقيه لغتنا في نظارة المعارف من عدم الاهتمام بها، وليتخذ له بذلك عِبْرَةً.

وبعد الانتهاء من اختبار التلامذة وَدَّعْتُ بما قُوبلْتُ به من الإكرام الذي دَلَّ على حُسْنِ تربية القوم، ومِمَّا لاحظتُهُ في نابلي أن الأحكام فيها على جانب من الشِّدَّةِ والصَّرَأمَّة؛ لأنِّي شاهدتُ البوليس يَسُوقُ اثنين مُكبَّلِين بالحديد ولم يرتكبا إلا جريمة المُخالفة.

وقد امتازت مُقاطعة نابلي عن باقي مُقاطعات إيطاليا بأن أهلها يميلون إلى الرَّاحة والكَسَلِ والخُمُول ولذلك كَثُرَتْ فيها اللصوصيَّة والسَّلب والنَّهب وقطع الطريق على السَّابلة.
•••
ويظهر أن مياه الشُّرب فيها في زمن الصَّيف تَضُرُّ بصحتهم؛ لأنهم يشربون الماء ممزوجًا بعصير الليمون.

وكان بِوُدِّي أنْ أمْكُثَ بضعة أيام في نابلي لأشاهد ما فيها من الآثار، وأطلع على أخلاق وعوائد القوم أكثر مِمَّا عرفته في هذه المُدَّةِ الوجيزة.
•••
وقد شاهدتُ البُركانَ المعروف ببركان: “ويزوف” وهو يتثاءب دُخَّانًا، وقد قيل لي إنَّ هذه حالته دائمًا ودُخَّانُهُ أشبهُ بِدُخَّانِ وابور الطحين.

ومن العجيب أنه فوق قِمَّةِ الجبل المُشرف على المدينة وهي في السَّفح قريبة منه ولا يبعدون عنه خوفًا من الخطر القتَّال، مع أن حوادث هذا البُركان كانت تقضي على أهل نابلي بأن يبتعدوا بمساكنهم على مسافة بعيدة، حتى يسلموا من مرمى مقذوفاته التي أزهقت كثيرًا من الأرواح، ودمَّرت آلافًا من المساكن في المُدَّةِ القريبة.
•••
أعَادَ إلى ذاكرتي وجُودِي في نابلي حادثتين تاريخيتين رأيتُ أن أذكرهما على سبيل الاستطراد؛ أولاهما تتعلّق بساكن الجنان إسماعيل باشا الخديوي الأسبق، وثانيتهما تتعلّق بالمرحوم أحمد باشا المنشاوي، وإني لا أقول شيئًا عن الأولى؛ لأن أمرها معلوم، وأما الثانية فهي أن المرحوم أحمد باشا المنشاوي لمَّا كان في دار السَّعادة عقب الثورة العرابيَّة، ووشى به الواشون بأنه هاجر من مصر إلى الشام فدار السعادة لأجل دَسِّ الدَّسائس وإغراء أمراء العرب وغيرهم على مُبَايَعَةِ إسماعيل باشا بالخلافة، وكَثُرَ مُراقبُوه، والجواسيس لم تفارقه أينما وُجِدَ.

مَلَّ الإقامة في الأستانة وأراد أن يُهاجر إلى أوروبا فَحَسَّنَ إليه السفير الفرنسوي أن يذهب إلى تونس، وأكَّدَ له أنه إذا ذهب إليها وأقام بها يجد من راحة البال والإكرام ما لا يجده في غيرها من بلاد أوروبا، فقبل المنشاوي باشا وعقد العزيمة على المُهاجَرَةِ إلى تونس، ولكنه رأى أن يَعْرُجَ في طريقه على نابلي؛ حيث بها إقامة المرحوم إسماعيل باشا لمقابلته وعرض ما أشار به السَّفير عليه.

فلَمَّا أراد السَّفر من دار السَّعادة أعطاه السَّفيرُ خطاب توصية إلى مُعْتَمَدِ فرنسا في تونس، كما أخبره بأنه بعث بخطاب آخر إلى المُعْتَمَدِ للاحتفال به عند وصوله.

غادر المنشاوي باشا دار السَّعادة وعرج على نابلي وقابل إسماعيل باشا وعرض عليه ما أشار به السَّفير فنصح له بالابتعاد عن كُلِّ الأمور السياسية التي تضرُّ بصالح الوطن ووَصَّاهُ بوصايا أخرى نافعة.

ويُقَالُ إن المنشاوي أطلع إسماعيل باشا على خطاب السَّفير فقرأه مُترجمًا بالعربية، وقد وصف السَّفير المنشاوي باشا بالشَّيخ فاستغرب ذلك، وسأل الخديوي عن هذا الوصف فقال له: إن لفظ الشَّيخ عند الأوروبيين يَدُلُّ على التبجيل والتعظيم.

وبينما المنشاوي جَالِسٌ في أحَدِ المحال العُمُوميَّة إذا برجل طلياني كان تاجرًا في الإسكندرية قبل الثورة مَرَّ به وعرفه فسلَّم عليه وجلسا معًا يتحادثان، وقد سأل الرجل المنشاوي باشا عن محلِّ إقامته فوصفه له وطلب منه أن يوالي زيارته ما دام مقيمًا في نابلي، ولما افترقا توجَّه هذا الرجل إلى الجمعيات الخيرية، وقال لرؤسائها: كيف يوجد بين ظهرانينا ذلك الرجل الذي حمى المسيحيين يوم مذبحة طنطا وتلطَّخت ثيابه بدماء القتلى منهم الذين كان يحملهم من الشوارع وهم جثث هامدة، وآوى الألوف منهم في منزله بالقرشية، وسفَّرهم إلى بلادهم على نفقته، ولم تعلموا بوجوده هنا ولم تحتفلوا به وتُجْرُوا له المُظاهرات الوديَّة؟!

فاجتمع أعضاء هذه الجمعيَّات وقَرَّرُوا فيما بينهم إجراء مظاهرة الإجلال والتعظيم للمنشاوي باشا.

ففي اليوم الثاني استيقظ المنشاوي من منامه فوجد المِئات من أعضاء هذه الجمعيَّات أمام منزله، فنزل ورَحَّبَ بهم فدعوه إلى مأدبة أدَّبُوهَا لأجله واعتذروا له عن عدم معرفتهم بوجوده في نابلي فلبَّى الدَّعوةَ.

وفي ثاني يوم أتى إليه رؤساء وأعضاء هذه الجمعيَّات وكثيرٌ غيرهم من أكابر القوم هناك ومعهم الموسيقى، وعملوا له موكبًا حافلًا كان يومه مشهودًا؛ حيث غَصَّتْ الشوارع بالمُتفرِّجين، والموكبُ يسير والمنشاوي في مقدمة الجميع وحوله الرؤساء، والأعضاء وأمامهم الموسيقى حتى وصلوا إلى محل الاحتفال وهناك تُلِيَت الخطب الرَّنَانَة في مدح المنشاوي، وتعداد مآثره على المسيحيين والأوروبيين منهم خصوصًا وفي وصف المذبحة التي حدثت في طنطا، وكان المنشاوي باشا واقفًا على منبر وبين كُلِّ خطبة وأخرى يُقلَّد نيشانًا فاخرًا وهو يذرف الدُّموع من تأثير الحالة ويقول: إن هذا الاحتفال هو لأجل عمل عملته في مصر عَدَّتْهُ حكومة بلادي من ذنوبي، ثُمَّ تناولوا الطعام بعد الخُطَبِ وأقام المنشاوي مُعظَّمًا مُحترمًا حتى سافر إلى تونس ولا داعي لذكر ما قوبل به سعادته في تونس؛ لأن الوقت غير مناسب.

هذا، والمُلَخَّصُ مِمَّا تقدَّم أن نابلي بلغت في الحضارة والمدنية مبلغًا عظيمًا وإن لم يوجد فيها سوى “فيلانا سيونا له”، هذا المُنتزهُ الجميلُ لكَفَى؛ لأن هواهُ جيدٌ للغاية خُصُوصًا أنَّ موقعهُ بجانب البحر.

وأهم شوارع هذه المدينة شارع “توليدو” أو شارع رومية وطوله بلغ ميلًا ونصفًا، ويمتد من البحر إلى الشوارع العالية، وتتفرَّع منه شوارع كثيرة أهمها الشارع المُمْتَدُّ إلى ميدان “كافور”، ثُمَّ إذا أردتُ أن أصِفَ نابلي وما اشتملت عليه من المناظر الجميلة لاحتجنا إلى زمن طويل ولكن في هذا القدر كفاية، ثُمَّ قامت الباخرةُ من نابلي قاصدة بالرما.