(4) القيام من الإسكندرية:
غادرتُ الإسكندرية على باخرةٍ من بواخر الشَّركة الإيطالية، وقد أقلعت الباخرةُ في أصيل ذلك اليوم الذي سافرتُ فيه ولم تمضِ ساعة على سير الباخرة، حتى اعترى جميعَ الرُّكَّابِ دَوَارٌ من البحر فباتُوا ليلتهم في سُكُونٍ تام، وأغلبُهم لم يتناول شيئًا من الطعام إلَّا في ضُحَى الغَدِ.

وما كنتُ قبل ذلكَ أعلمُ أنَّ بلدةً تَسِيرُ بأهلها على وجْهِ الماءِ وذلك أن الباخرة على كِبَرِهَا وكثرة عدد الرُّكابِ فيها تُشبهُ بلدةً ذات أسواق، ومحال عمومية، وقهاوي يختلف إليها الناس عند الفراغ من أشغالهم؛ حيث يوجد في الباخرة مَحَلٌ مُتَّسَعٌ، فيه جميع أنواع البقالة، فهو حَانُوتٌ من جهةٍ، ومَحَلٌ عمومي من جهةٍ أخرى؛ لأنك تجدُ فيه طاولاتٍ وكراسي يجلس عليها المسافرون ويُمضون أوقاتهم في لعب النَّرْدِ والشَّطرنج والضومينو وما أشبه ذلك، ويشربون في هذا المحل قهوة أو شايًا أو مشروبات روحية.

وكُنْتُ كُلّمَا ضَجِرْتُ من الوحدة أتوجَّهُ إلى هذا المحل، وبتردُّدِي عليه عرفتُ أحَدَ السُّوريين وكانت وجهته الجزائر، لطلب الرِّزق في تلك البلد؛ حيث ضاقت في وجهه طرق الكسب في الشَّام مُعَلِّلًاً هذا بظلم الحُكَّامِ، وقسوة الأحكام.

ولكن عرفتُ أنَّهُ مِمَّنْ يذمون سياسة الدولة العلية تقليدًا؛ لأني سألته عن وجه ظلامته فلم يهتد إلى الصواب المُقنع، هذا فضلًاً عن جهله التام بحالة بلاده السياسية والاقتصادية فظهر لي أنه ليس من أهل الطبقة التي من شأنها أن تُحيط علمًا بمثل هذه الأوضاع، وكنتُ أحادِثُه في غير هذا الباب اضطرارًا إلى الأنيس والسَّمير، وفي اليوم الثالث بعد خُرُوجِي من الإسكندرية وَصَلَتْ الباخرةُ بنا إلى حُدُودِ إيطاليا وألقت المَرَاسِي في ميناء مسينا.