(2) ما هي الإسكندرية وما حوادثها؟
الإسكندرية هي أكبر مُدُنِ القطر المصري بعد القاهرة، وثغرُها الأكبرُ في منتهى شمالها على البحر الأبيض المتوسط، اختطَّها إسكندر الأكبر المقدوني حين استيلائه على مصر، وانتزاعها من يد الفرس، وجعلها مقرًّا للمُلك وذلك في سنة 954 قبل الهجرة الموافقة سنة 332 قبل الميلاد، وكان فيها من الآثار مسلّتان عظيمتان نُقلَت إحداهما إلى نيويورك بالولايات المتحدة في قارَّة أمريكا، والثانية إلى لندن عاصمة إنكلترا، وقد قِيل إنها كانت بها منارة من أغرب ما صنعته يَدُ الإنسان؛ حيث رُكِّبَتْ مِرْآةٌ فيها كانت تُصَوَّبُ نحو مراكب العدو إذا قصد الإسكندرية فتحرقها عن آخرها.

وفي عهد استيلاء مُلوكِ البطالسة على مصر كانت الإسكندرية مَحَطَّ رجال طلاب العُلوم من سائر الأمم؛ حيث أُنْشِئَتْ بها مدرسة عظيمة لتلقِّي فنون الطبِّ والفلسفة والرياضة وغير ذلك من العُلوم، وقد تخَرَّج منها كثير من فُحُول العُلماء، والفلاسفة، والحُكماء، وقد أُنْشِئَتْ بها دار لكتبٍ حوتْ نفائس المؤلفات في تلك العصور.

ولا ندري من أيِّ طريق استدلَّ المؤرخون الذين ينسبون حرق هذه المكتبة إلى سيدنا عمرو بن العاص بأمر أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب، فإنه مَحْضُ افتراءٍ واختلاق منهم، وليست هذه بأول أكذوبة افتراها المُؤرخون على الإسلام والمُسْلِمين، والصَّحيحُ أنَّ هذه المكتبة أُحْرِقَتْ في عهد جُول أحَدِ أباطرة الرُّومَان.
•••
وفي ذلك العهد تُرجِمَتْ أوَّلُ نُسخة من التَّوراة من اللغة العبرانية إلى اليونانية بواسطة سبعين حَبْرًا مِنْ أحبار اليهود.

وقد طرأ على الإسكندرية كما طرأ على غيرها من المُدُنِ الشهيرة أطوار كثيرة وأحوال شتى.

ولكنها لم تزل أكبر ثغْرٍ في أفريقيا على البحر الأبيض المتوسط وهي آخذة في التقدُّم مدينةً وحضارة.

مكثتُ في الإسكندرية سبعة أيام وأنا أتجوَّلُ في شوارعها مُشاهدًا ما صنعتْه يدُ المَدَنِيَّة الجديدة فيها، فكنتُ أتخيَّل أنِّي في بلدٍ أوروبيَّة؛ لأنَّ مركزها الجُغرافي التجاري جعل عدد الأجانب فيها من كُلِّ جنس يكادُ يُعادل عدد سكانها الوطنيين، فحيث مَرَرْتَ تجد حوانيتهم ومساكنهم ومحال تجارتهم.

ولَمَّا كانت هذه المدينة من القطر المصري بمنزلة الباب من المنزل كانت عُرْضَة لأول قنبلة من قنابل الأسطول الإنكليزي الذي أتى في عهد الثورة العُرَابِيَّة، لقمع الثُّوَّار بقيادة الأميرال ولسلي وسيمور، فَضُرِبَتْ في يوم 11 يوليو سنة 1882، وبينما كانت قنابل الأسطول الإنكليزي تخربها في الخارج كانت الثوار يحرقونها في الداخل، وحصلت في هذا الحين مذبحة هائلة بين الوطنيين والأجانب نُهبَت فيها أموالهم وأُريقَت دماؤهم.

وبعد هزيمة العُرابيين ودخول الجيش الإنكليزي عاصمة القطر المصري، صدر أمر الخديوي بتشكيل مجالس قضائية لمحاكمة مَنْ يثبت عليهم الجناية في الثورة ومَنْ لهم يَدٌ في المذابح التي وقعت في الإسكندرية، وطنطا، والمحلة الكبرى، ودمنهور، فحُكِمَ بأحكام مُتنوعة على رجال كثيرة، ومِمَّنْ حُكِمَ عليه بالإعدام سليمان داود نجل داود باشا وكان ضابطًا في الجيش؛ لأنه هو السَّبب في إحراق الإسكندرية.
•••
وأهل الإسكندرية يمتازون بأخلاق حميدة دون سائر أهل البلاد المصرية الكبرى، فهم أهل نجدة وشهأمَّة، يأبُون الضيم ويُسَارعُونَ إلى الخيرات، وحُبُّ الوطن أمْرٌ غريزيٌ في نفوسهم مع كثرة اختلاطهم بالأجانب ومُعاشرتهم لهم ومُعاملتهم إيَّاهُمْ.