فإن الحق أنطقها والباطل أخرسه
عن قحطبة بن حميد قال: إني لواقف على رأس المأمون يوماً وقد جلس للمظالم، فكان آخر مَنْ تقدَّم إليه -وقد هَمَّ بالقيام- امرأة عليها هيئة السفر، وعليها ثياب رَثَّةٌ.. فوقفت بين يديه فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
فنظر المأمون إلى يحيى بن أكثم..
فقال لها يحيى: وعليكِ السلام يا أمَةَ الله، تكلّمي بحاجتكِ.
فقالت:
يا خير منتصف يهدى له الرشد... ويا إماماً به قد أشرق البلد
تشكــو إليك عميـد القوم أرملة... عدى عليها فلم يترك لها سبد
وابتزَّ مني ضياعـي بعد منعتها... ظلماً وفرَّق مني الأهل والولد
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(1) - عدة الصابرين لأبن القيم.


فأطرق المأمون حيناً، ثم رفع رأسه إليها وهو يقول:
في دون ما قلت زال الصبر والجلد
عني وأقرح مني القلب والكبد
هذا أذان صلاة العصر فانصرفي
وأحضري الخصم في اليوم الذي أعد
فالمجلس السبت إن يقض الجلوس لنا
ننصفك منه وإلا المجلس الأحد
قال: فلما كان يوم الأحد جلس، فكان أول مَنْ تقدَّم إليه تلك المرأة، فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
فقال: وعليكِ السلام..
ثم قال: أين الخصم؟
فقالت: الواقف على رأسك يا أمير المؤمنين -وأومأت إلى العباس ابنه-..
فقال: يا أحمد بن أبي خالد، خذ بيده فأجلسه معها مجلس الخصوم.
فجعل كلامها يعلو كلام العباس.
فقال لها أحمد بن أبي خالد: يا أمَةَ الله، إنكِ بين يدي أمير المؤمنين، وإنكِ تُكلمين الأمير، فاخفضي من صوتكِ.
فقال المأمون: دعها يا أحمد، فإن الحق أنطقها والباطل أخرسه.
ثم قضى لها بِرَدِّ ضيعتها إليها، وظلم العباس بظلمه لها، وأمر بالكتاب لها إلى العامل الذي ببلدها أن يوغر لها ضيعتها ويُحسن معاونتها، وأمر لها بنفقة (1).