نظرة إلى ما وراء القوانين الطبيعية
كتبه: أدوين فاست
عالم الطبيعة
حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة أوكلاهوما - وعضو هيئة التدريس بقسم الطبيعة فيها سابقاً - يشتغل الآن بالطاقة الذرية.

المُشَارَكَة:
إن الاجابة عن السؤال الذي يقدمه هذا الكتاب، لا يتطلّب من وجهة نظري مُعالجة مُعقّدة أو مُطوَّلة.

فمن الممكن أن تكون الاجابة مُوجزة، ومع ذلك -من وجهة نظري على الأقل- تكون وافية.

فنحن عندما نبحث عن تفسير لإحدى الظواهر في دائرة العلوم الطبيعية، نأخذ في الغالب بأبسط النظريات التي تستطيع أن تُفَسِّرَ هذه الظاهرة تفسيراً يتفق مع المشاهدات التجريبية.

وقد نعتمد على مجموعة من الفروض لأنها تدعم نظرية معينة وتبدو جميعها واضحة أو معقولة، فإذا كانت هذه الفروض سليمة فإن النظرية تكون مُحكمَة ويرفع البناء، أمَّا إذا كانت هزيلة أو خاطئة فإن النظرية تنهار من أساسها ويتقوَّض صرحها.

ونظرية الاحتمالات من النظريات الرَّصينة من الوجهة الرِّياضيَّة، وهي تستخدم استخداماً واسعاً في علم الفيزياء.

فإذا قذفنا بقطعة من قطع النقد، دون أن نحاول التأثير عليها بأية طريقة من الطرق، ثم كرَّرنا ذلك عدداً كبيراً من المرَّات، فإن عدد المرَّات التي يظهر فيها كل وجه من وجهيها يكون متساوياً.

وعندما نُلقي (زهر النَّرد) عدداً كبيراً من المرَّات، فإن احتمالات ظهور كل وجه من أوجهه السِّتة تكون متساوية.

ومن الممكن استخدام بعض الحيل لكي نجعل عدد المرَّات التي يظهر فيها وجه معين من أوجه قطعة النَّقد أو الزَّهر أكثر مما يحدث عندما تتحرَّر العملية من تأثير هذه الحيل أو المؤثرات الخارجية.

ومن الواضح أن الفرق بين الحالتين هو أن إلقاء العُملة أو الزَّهر في الحالة الاولى كان يعتمد على محض المُصادفة، أمَّا في الحالة الثانية فإنه يتم تحت تأثير مؤثر خاص.

ومن الممكن أن ننتقل من هذه الأسئلة البسيطة الهيِّنة إلى أمثلة أكثر تعقيداً.

خُذْ مثلاً عشرة أو مائة أو مليوناً من الوحدات التي تعمل جميعاً في وقت واحد لكي تؤدي عملاً مُعَيَّنَاً أو تسلك سلوكاً خاصَّاً تبعاً لقوانين المُصادفة والاحتمالات.

فإذا حدث أي انحراف عن النتيجة التي نتوقعها، فإنه يجعلنا نبحث عن سبب لهذا الانحراف أو عن مؤثر أو موجه.

وإذا استطعنا أن نصف هذا المُؤثر أو نُحدده، فإننا نكون بذلك قد وصلنا إلى أحد القوانين الطبيعية التي تفسر لنا لماذا تسلك الأشياء سلوكاً معيناً.

ونحن عندما نتدبر مثلاً سلوك النيوترونات أو الالكترونات أو البروتونات في مجال كهربائي أو مغناطيسي، نجد أن كلاً منها يسلك سلوكاً نستطيع أن نصفه بدقة أو نتنبأ به على أساس القوانين الطبيعية، فخواصها تجعلها تسلك سلوكاً معيناً يسهل معرفته والتنبؤ به.

وكذلك الحال عندما ينبعث شعاع ضوئي من قوس كهربائي من الصوديوم ويمر خلال فتحة ضيقة إلى منشور ثلاثي، فإننا دائماً نشاهد خطين متقاربين لونهما برتقالي أصفر وتفصلهما مسافة ضيِّقة.

والمهم هنا هو أن جميع هذه القوانين الطبيعية التي نصفها ونستخدمها ليس إلا مجرد وصف لما يحدث أو لما يُشاهد، فهي بذلك ليست تدبيراً أو إلزاماً، فليس الوصف في ذاته سبباً لحدوث ظاهرة من الظواهر، أو توضيحاً لأسباب حدوثها.

وعندما تحاول العلوم أن تفسر لنا منشأ الكون، نجدها تُبَيِّنُ لنا، في ضوء ما لدينا من المعلومات عن الطبيعة النووية، كيف تتفاعل الجزئيات الأساسية لكي تكون لنا جميع العناصر المعروفة، فجميع العناصر التي يتألّف منها هذا الكون تبدأ ببروتونات لها خواص معينة وقوة جاذبة تجعلها تنضم بعضها إلى بعض.

أمَّا كيف نشأت هذه البروتونات ذاتها، ولماذا كان لها هذه الصفات بالذات، فإن ذلك ما لم تستطع أن تقدم له العلوم شرحاً أو بياناً.

ومهما بالغنا في تحليل الأشياء، ورَدِّهَا إلى أصولها الأولى، فلابد أن نصل في نهاية المطاف إلى ضرورة وجود قوانين طبيعية تخضع لها ذرَّات هذا الكون.

ويُعَدُّ ذلك في ذاته دليلاً على وجود إلَهٍ قادرٍ مُدَبِّرٍ، هو الذي قدَّرَ لكل ظاهرة من ظواهر هذا الكون أن تسير في طريقها المرسوم.

وقد خلق اللهُ الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات وجعل لها خواصها المعينة.

فرسم لها بذلك سلوكها وأقدارها.

وعندما تحاول عقولنا المحدودة أن ترتد إلى الوراء وتبحث عن ساعة الصفر في تاريخ هذا الكون، نجدها تسلم ضمناً بأن لهذا الكون بداية ولحظة معينة نشأت فيها الذَّرَّات الدقيقة التي تتألف منها مادة هذا الكون، ولابد أن تكون خواص هذه الجزئيات التي تحدد سلوكها، قد ظهرت معها في نفس الوقت.

ومن المنطق السليم أن يكون السبب الأول الذي أوجد هذه الجزئيات هو الذي أودع فيها صفاتها التي تُحَدِّدُ سُلوكها.

ولابد أن نسلّم بأن قدرة الخالق وتدبيره وإحكامه تفوق قدرة وتدبير الإنسان بل البشر جميعاً ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.

وإن أذكى العلماء لا يستطيعون إلا أن يعترفوا بأن الإنسان لا يزال حتى اليوم في مهد معرفته بأسرار هذا الكون وظواهره.

فإذا انتقلنا إلى العالم العضوي، فإننا نلاحظ أن سلوكه يزداد تعقيداً، وعلى ذلك فإن احتمال تفسير هذا السلوك على أساس المصادفة المحض يتضاءل إلى حَدٍّ لا نهائي، فالمواد الأساسية التي تدخل في بناء المواد العضوية هي الأيدروجين والأوكسجين والكربون مع كميات قليلة من النيتروجين والعناصر الأخرى.

ولابد أن تجتمع ملايين من هذه الذَّرَّات حتى تتكوَّن أبسط الكائنات الحيَّة.

فإذا نظرنا إلى الأنواع الأخرى التي هي أكبرُ حجماً وأشَدُّ تعقيداً، فإن احتمال تآلف ذرَّاتها على أساس المُصادفة المحض يقل إلى درجة لا يتصورها العقل.

وإذا نظرنا إلى الكائنات الحيَّة الرَّاقية، فإننا نرى أن من بينها ما لديه من الذكاء ما يجعله قادراً على التخطيط والابتكار والقيام بأعمال تقرُب من حَدِّ الإعجاز وتحاول أن تتغلب على القوانين الطبيعية.

فإذا تصوَّرنا أن كل ذلك يتم بمحض المُصادفة التي تجعل الجزئيات تجتمع بصورة معينة لكي تكون ذرَّات يتألّف بعضها مع بعض لكي تكون أجساماً تقوم بدورها بالتكاثر وأداء سائر وظائف الحياة ويكون لها عقل وتفكير، دون أن يكون وراء كل ذلك إلهٌ مُدَبِّرٌ هو الذي خلق فصوَّرَ فأبدع، فإن ذلك ما لا يقبله عقل أو يتصوره فِكْرٌ.

وحتى إذا فعلنا ذلك فإننا نكون قد أخذنا بفرض مستحيل من الوجهة العملية، وطرحنا وراء ظهورنا فرضاً منطقياً بسيطاً ألا وهو وجود الله الذي أنشأ هذا الكون وبدأه بقدرته.

فالله هو المُبْدِئُ المُعِيدُ.

كلمات بسيطة ولكنها بساطة تَتَّسِمُ بالجلال.

إنه جلال الحق وقدسيته.