الماء يروي لك القصة
كتبه: توماس دافيدباركس
أستاذ الكيمياء
حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة الينوي - رئيس قسم الكيمياء بمعهد بحوث ستانفورد سابقاً - مدير البحوث بشركة كلوروكس الكيماوية - أخصائي في النظريات الكهربية والأشعة السينية.

المُشَارَكَة:
يروي لنا ويتاكر تشيمبرز في كتابه (الدليل) حادثة بسيطة لعلها كانت السبب في تحويل مجرى حياته، بل كثير من البشر.
لقد كان يتطلع إلى ابنته الصغيرة ثم التفت دون شعور إلى شكل أذنيها، وذكر بينه وبين نفسه أنه من المُحال أن تكون تلك التلافيف الدقيقة التي تشتمل عليها الأذن قد نشأت عن طريق المُصادفة.
إنها لا يمكن أن تكون قد نشأت إلا عن خبرة بالغة وتصميم وتدبير.
ولكنه أبعد هذه الفكرة عن عقله المارق عن الدين؛ فقد خشي أن يؤدي به هذا النوع من التفكر إلى النتيجة المنطقية، وهي أن التصميم يحتاج إلى مُصَمِّم أو مُبدع أو إله، أنه لم يكن مستعداً حتى ذلك الوقت لقبول هذه الفكرة.
ولقد عرفتُ كثيراً من أساتذتي المشتغلين بدراسة العلوم ومن زملائي الذين طافت بعقولهم مثل هذه الخواطر والأفكار حول مشاهداتهم في الكيمياء والطبيعة، ولو أنهم لم يُعَبِّرُوا عنها بتلك الصورة من اليأس العميق التي وجدها تشيمبرز في قرارة نفسه.
إنني أقرأ النظام والتصميم في كل ما يحيط بي من العالم غير العضوي ولا أستطيع أن أسَلّمْ بأن يكون كل ذلك قد تَمَّ بمحض المُصادفة العمياء التي جعلت ذرَّات هذا الكون تتألف بهذه الصورة العجيبة.
إن هذا التصميم يحتاج إلى مُبدع، ونحن نطلق على هذا المُبدع اسم الله.
وبالنسبة إلى الكيميائي يُعتبر الترتيب الدوري للعناصر من الأمور التي تثير عجبه ودهشته.
وأول ما يتعلّمه الطالب عند بدء التحاقه بالجامعة، هو أن العناصر يمكن ترتيبها ترتيباً دورياً مُعَيَّناً، ولهذا الترتيب طرق مختلفة، ولكننا نكتفي هنا بتقسيم (مانداليف)، وهو العالم الرُّوسي الذي ظهر في القرن الماضي.ولا تقتصر فائدة هذا التنظيم الدوري للعناصر على ما يقدمه من عَوْنٍ وتسهيل في دراسة العناصر المعروفة ومركباتها، ولكنه يدفع العلماء إلى البحث عن العناصر التي لم يتم استكشافها بعد، والتي ساعد هذا التنظيم على التنبؤ بها، وتركت أماكنها في الجدول الدوري للعناصر خالية تنتظر الكشف عنها.
ولا يزال الكيميائيون حتى اليوم، يستخدمون الجدول الدوري للعناصر ليساعدهم في دراسة التفاعلات الكيماوية والتنبؤ بخواص العناصر والمركبات، ولاشك أن نجاحهم في هذا السبيل يُعَدُّ دليلاً على ما يسود العالم غير العضوي من نظام بديع.
ولكن هذا النظام الذي نشاهده في العالم من حولنا ليس مظهراً من مظاهر القدرة على كل شيءٍ فحسب، بل إنه يتَّصف فوق ذلك بالحكمة والاتجاه نحو تحقيق صالح الإنسان، مما يَدُلُّ على أن اهتمام الخالق بنفع عباده (1) لا يقل عن اهتمامه بالسُّنَن والقوانين التي تنظم هذا الوجود.
انظر من حولك إلى الحكمة البالغة التي ينطوي عليها خروج بعض الظواهر عن العادة أو المألوف.
فالماء مثلاً، يتوقَّع الإنسان من وزنه الجزيئي (18) أن يكون غازياً تحت درجة الحرارة المعتادة والنمط المعتاد، فالنوشادر مثلاً ووزنها الجزيئي (17) تكون غازية عند درجة حرارة ناقص 73 وتحت الضغط الجوي المعتاد، وكبريتور الأيدروجين الذي يعتبر قريباً في خواصه من الماء بحكم وضعه في الجدول الدوري وله وزن جزيئي قدرة 34، يكون غازياً عند درجة حرارة ناقص 59.
-----------------------------------------
(1)  (وإن تعدوا نعمة الله، لا تحصوها إن الله لغفور رحيم) سورة النحل، آية: 18.
-----------------------------------------
ولذلك فإن وجود الماء على الحالة السائلة في درجة الحرارة المعتادة يجعل الإنسان يقف ويفكر.
وللماء فوق ذلك كثير من الخواص الأخرى ذات الأهمية البالغة والتي إذا نظر الإنسان إليها في مجموعها وجدها تَدُلُّ على التصميم والتدبير، فالماء يغطي نحو ثلاثة أرباع سطح الارض، وهو بذلك يؤثر تأثيراً بالغاً على الجو السَّائد ودرجة الحرارة.
ولو تجرَّد الماء من بعض خواصه لظهرت على سطح الأرض تغيُّرات في درجة الحرارة تؤدِّي إلى حدوث الكوارث.
وللماء درجة ذوبإن مرتفعة، وهو يبقى سائلاً فترة طويلة من الزمن، وله حرارة تصعيد بالغة الارتفاع.
وهو بذلك يساعد على بقاء درجة الحرارة فوق سطح الأرض عند معدَّل ثابت ويصونها من التقلّبات العنيفة، ولولا كل ذلك لتضاءلت صلاحية الارض للحياة إلى حد كبير، ولقلّت متعة النشاط الإنساني على سطح الأرض بدرجة عظيمة.
وللماء خواص أخرى فريدة في نوعها، وتَدُلُّ كلها على أن مُبدع هذا الكون قد رسمه وصمَّمه بما يحقّق صالح مخلوقاته.
فالماء هو المادة الوحيدة المعروفة التي تقل كثافتها عندما تتجمَّد.
ولهذه الخاصية أهميتها الكبيرة بالنسبة للحياة، اذ بسببها يطفو الجليد على سطح الماء عندما يشتد البرد، بدلاً من أن يغوص إلى قاع المحيطات والبحيرات والأنهار ويكون تدريجياً كتلة صلبة لا سبيل إلى اخراجها وإذابتها.
ويكون الجليد الذي يطفو على سطح البحر طبقة عازلة تحفظ الماء الذي تحتها في درجة حرارة فوق درجة التجمُّد، وبذلك تبقى الأسماك وغيرها من الحيوانات المائية حيَّة.
وعندما يأتي الربيع يذوب الجليد بسرعة.
ويمكننا أن نشير إلى كثير من خواص الماء الطريفة الأخرى:
فله مثلاً توتر سطحي مرتفع يساعد على نمو النبات بما ينقله إليه من المواد الغذائية التي بالتربة، والماء أكثر السوائل المعروفة إذابة لغيره من الأجسام، وهو بذلك يلعب دوراً كبيراً في العمليات الحيوية داخل أجسامنا بوصفه مُركّباً أساسياً من مُركّبَات الدَّم، وللماء ضغط بخار مرتفع على مدى واسع من درجات الحرارة، ومع ذلك فإنه يبقى سائلاً على طول هذا المدى المُتسع اللازم للحياة.
وقد درس كثير من العلماء هذه الخواص العجيبة للماء، ووضعوا النظريات لتعليل ظواهره المختلفة.
وبرغم ما نبذله من جهود لمعرفة كيف تحدث هذه الظواهر، علينا أن نتساءل أيضاً لماذا تحدث هذه الظواهر؟
وليس الماء هو المادة العجيبة الوحيدة.
فهنالك ما لا يُحصى من المواد ذات الخواص المُذهلة التي لا تستطيع عقولنا أو إدراكنا المتواضع، إلا أن تقف مشدوهة أمامها.
وأجد شخصياً أن تفسير هذه الظواهر والعجائب بنسبتها إلى قدرة إلهٍ حكيم خبير وتصميم خالق عُلوي، يُعَدُّ تفسيراً مُرْضِياً للنفوس ومُقنِعاً للعُقول.
إنني أرى في كل ظاهرة من هذه الظواهر أكثر من مُجرَّد الخلق والتدبير المُجرَّد عن العاطفة، إنني ألمسُ فوق ذلك كله محبَّة الخالق لخلقه واهتمامه بأمورهم.