مقدمة بقلم: الدكتور أحمد زكي
مدير جامعة القاهرة سابقاً
في الاشتغال بمطالب العَيْشِ، والاغتمار في غَمْرَةِ الحياة، ينسى النَّاسُ أنْ يُفَكِّرُوا، فيتساءلون: ما الغاية من هذا الوجود؟

وما اشتغال بعيش، وما اغتمار حياة، وقد ينتبه الناس من غفلة، أو يستيقظون من نومة، إذا أصابهم مرض، أو أصابهم عجز، أو نابتهم نائبة.

وشَرُّ النَّوائِبِ عندهم المَوت، ينزل بقريب، أو ينزل بحبيب، ففي هذه الفترات السَّوداء، البارقة في سوادها يتوقف النَّاس يستخبرون: من أين جئنا، وإلى أين المصير؟

ولكنها فترات لا تطول، فحوافز العيش تعود فتحفز ويشتد حفزها، والحياة تعود تهتف بحاجاتها ويشتد هتافها، والإنسان منا يُلَبِّي جبراً لا اختياراً، ويتركَّز على يومه، وينسى أمسه الذي كان، وينسى يومه الذي سوف يكون، إلا من حيث ما يطعم، ويلبس، ويلد، ومن حيث ينعم أو يشقى بالحياة.

ولكن مع كل هذا، فمن تحت صخب النهار، ومن بين الأصوات الصَّارخة في معركة العيش، يُحِسُّ الإنسانُ مِنَّا صوتاً خافتاً يُحاولُ دائماً أن يصل إلى الأذان.

وهو يصل إليها عندما يتعب القائم فيحتاج إلى القُعود، وعندما يجهد الجاهد فيتصبَّب عرقاً فيأوى إلى ركن هادئ يُخفِّف عن وجهه عرقه الصبيب.

أو هو يصل إليه في هدأة من الليل، وهو قاعد في العراء، يرعى أشياء هذه الأرض، ويرعى على الأكثر أشياء هذه السَّماء.

وهو إذ يرعى السَّماء، يرعى أشياءها، يرعى نُجومُها، يزداد هذا الصوت الخافت في أذانه ثم يزداد، حتى يصير صُرَاخاً: هذه السماء ما هي؟

وهذه النجوم ما اعدادها، وما أبعادها؟

وما فتات من النور المُبعثر في هذه القبة البلقاء وبعثرة الرمال في الصحراء؟

وكيف تحور هذه القبة وكيف تدور؟

وما شروق لها وما غروب؟

وما نسق وأنساق تجري عليها، ومواعيد تضربها فلا تخلف أبداً؟

ويأخذ ينعم النظر رافعاً بصره، وهو إذ يملأ بالذي يراه عيناً، يملأ فيه فكراً، ويملأ به قلباً.

وعندئذ يرى تلك الصور وهي تجري في أزمَّةٍ يجمعها آخر الأمر زمامٌ واحدٌ، ويَرُدُّ تلك المعاني، وهي مختلفة كاختلاف ألوان الطيف من أحمر وأصفر وأزرق، ثم تجتمع كما يجتمع الطيف فيكون منه لون أبيض واحد، ويَرُدُّ كل هذه المعاني، ويرد كل هذه الصِّوَر، وكل هذه المباني، إلى يد صانع واحد، تُحَرِّكُهَا إرادة عاقلة مُنسقة هادية واحدة.

فتلك يَدُ الله.

وتلك إرادة الله.

على هذا جرى الأقدمون واهتدوا إلى كشف حقيقة الله.

وما أعسره كشفاً كان، عند قوم، لأنه كشف خالق تستَّر وراء مخلوقاته، وما أيسره كشفاً كان، عند أقوام، لانها مخلوقات عجيبة رائعة، ما أسرع ما رقت فنفذ إليها الفكر الإنساني العاقل، فشفَّت عَمَّا وراءها.

وكان الفِكْرُ أحَدُ أعاجيبها.

ثم جرى الزمن فجاء العِلْمُ.

اشرق على الناس العِلْمُ الحديث منذ ثلاثة قرون.

وهو بعد ما بلغ الضُّحَى.

وكشف الْعِلْمُ من عجيب ما صنعَ الصَّانع.

كشفه في النبات، وهو صنوفٌ لا عِدَادَ لها.

وكشفه في الحيوان، وهو أجناسٌ لا حصر لها.

وكشفه في الإنسان، أسمى حيوان.

وكشفه عن أنساق واحدة في كل هذه الصنوف والأجناس جميعاً.

وكشفه عن قوى هي كلها تعمل واحدة، على اختلافٍ في درجاتٍ، ولكن على اتحادٍ في غايةٍ.

وهدى المنطق، وهدت الفطرة، إلى أن صاحب هذه الأنساق لابُدَّ وَاحِدٌ، ومُجْرِى هذه القِوَى لتعمل على هذه الأساليب الواحدة لَابُدَّ وَاحِدٌ.

ونَسَّقَ الْعِلْمُ ما بين الأرض الجامدة وما عليها من أحياء.

ونَسَّقَ ما بين الأرض، جامدها والحي، وبين هذه الشمس وذاك القمر، وأثبت أن المعدن واحدٌ والأصل واحدٌ، وأثبت أن الذي صَمَّمَ عَيْنَ الإنسان، بعدستها ومائها، وما وراء الماء من شبكة تلقى عليها الصور، هو لابد الذي صَمَّمَ هذه الشمس وأخرج منها تلك الأشعة ووجهتها إلى الأرض.

فهذه العين تكون عبثاً لولا هذا الضياء.

وجاء الْعِلْمُ، وجاء الْعُلَمَاءُ بألف ألف دليل على وحدة الأرض، وما عليها، ووحدة السَّماء.

ومن هذه الوحدة دَرَجَ النَّاسُ والْعُلَمَاءُ إلى وحدة رَبِّ هذه الأرض وَرَبِّ السَّماء.

ومع هذا بقيت في الْعُلَمَاءِ بقية تقولُ بالخلق والتخلّق طبعاً، وتُنْكِرُ وجُودَ الله.

ومن هذه البقية العالم الإنجليزي، جوليان هكسلي (JULIAN HUXLEY)، فكتب في ذلك كتاباً أسماه: (الإنسانُ يقومُ وحدهُ MAN SIAND ALONE)، وهو في ذلك يسير على دربٍ سارَ عليه جَدُّهُ من قديم، فَجَدُّهُ توماس هكسلي THOMAS HUXLEY (1825 - 1895)، صاحب دارون، وناصره في القرن الماضي.

وظهر هذا الكتاب لهذا العالم فانبري له عالمٌ آخر، فيكتب كتابه هذا، الذي بين أيدينا، وأسماهُ: (إن الإنسانَ لا يقُومُ وحدهُ MAN DOES NET STAND ALONE)، أراد بذلك أن يقول أنه يقوم في هذه الدُّنيا ومعه الله.

والكتابُ يُعَدِّدُ، في إيجاز جميل، هذه الأنساق التي تجمع بين الخلائق جميعاً، وبين الحي والحي، وبين الحي والجامد، وعبر حدود الأرض، واتجه إلى السَّماء، يربط ما بينها وبين الحياة على هذه الأرض.

وهو يُدَلِّلُ من صفات هذا الشيء وهذا الشيء، على أن صانعُها لابد واحد، فهما كالمفتاح وقفله اتساقاً، لا يمكن أن يكون ابتدعهُما ودبَّرهُمَا إلا عقلٌ مُبتدعٌ مُدَبِرٌ وَاحِدٌ.

فالكتابُ عَوْنٌ على الإيمان، الذي عِمَادُهُ الفِكْرُ والفطنة، كبير.

ووقع على الكتاب صديقي، الأستاذ الجليل، محمود صالح الفلكي في ناحيةٍ من نواحي الأرض، وهو في غُرْبَةٍ مُوحِشَةٍ يهرع فيها الغريب إلا الأنس بالله، فوجد في هذا الكتاب، فيما وجد، أنْسَهُ، وزاد من أنْسِهِ بهِ إيمانٌ في قلبهِ مَكِينٌ.

وزاد من فهمه لحقائق الْعِلْم مِزَاجٌ عِلْمِيٌ جَرَى في دَمِهِ قديم، وَرِثَهُ عَنْ جَدِّهِ العالم المصري الفلكي العظيم، وصديقي الفلكي إلى جانب أنه ذو إيمان، ذو قلم وذو بيان.

واجتمع الاثنان فخرج منهما هذا الكِتَابُ هُدًى للنَّاسِ ورحمة.
أحمد زكي.