منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

soon after IZHAR UL-HAQ (Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.


 

 سورة يونس الآيات من 001-005

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49191
العمر : 72

سورة يونس الآيات من 001-005 Empty
مُساهمةموضوع: سورة يونس الآيات من 001-005   سورة يونس الآيات من 001-005 Emptyالثلاثاء 17 سبتمبر 2019, 1:06 am

سورة يونس الآيات من 001-005 Untit389

http://ar.assabile.com/read-quran/surat-yunus-10

خـواطـر فضيلة الشيخ: محمد متولي الشعراوي (رحمه الله)
(نال شرف التنسيق لهذه السورة الكريمة: أحمد محمد لبن)

سورة يونس

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (١)

تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)


و (الۤر) ثلاثة حروف، وقد سبقتها سورة البقرة بـ (الۤمۤ) و (الۤمۤ) في أول سورة آل عمران، وفي أول سورة الأعراف (الۤمۤصۤ) وهنا (الۤر) في أول سورة يونس.


ونلاحظ أن (الۤمۤ) و (الۤمۤصۤ) و (الۤر) كلها أسماء حروف.


وكل شيء له اسم وله مسمى، أنا اسمي الشعراوي صحيح، والمسمَّى هو صورتي.


فإذا أُطلق الاسم جاءت صورة المسمَّى في الذهن.


فساعة نقول: "السماء" يأتي إلى الذهن "ما علاك".


وساعة تقول: "المسجد" يأتي إلى الذهن المكان المحيّز للصلاة.


إذن: فهناك فرق بين الاسم والمسمّى.


وكل إنسان أميّ، أو متعلم، له قدرة على الكلام، لكن لا ينطق بأسماء الحروف إلا من تعلَّم.


وفي الإنجليزية نطلب ممن يتعلمها أن يتهجّى أسماء الحروف.


إذن: فالكُلّ -كل متكلم- يعرف النطق بمسمَّيات الحروف ولكن الذي يعرف المسميات ويعرف الأسماء هو من جلس إلى معلِّم.


وعرف أنك حين تقول: "أكلت"، فهذه الكلمة مكونة من (همزة، وكاف، ولام، وتاء).


فإن كانت بعض سور القرآن قد بَدأت بـ (الۤمۤ) وهذه أسماء حروف، لا مسمَّيات حروف، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- أمّيّ لم يتعلم، فمن الذي علَّمه أسماء الحروف؟


هي، إذن، رمزية على أنه -بإقرار الجميع- أمي ولم يجلس إلى معلم، ولم يقل له أحد شيئاً، ثم نطق بعد ذلك بأسماء الحروف "ألف لام ميم" ولو نظرت إلى المنطوق بالأسماء تجدها أربعة عشر حرفاً تكررت، وهي نصف حروف الهجاء.


ومن العجيب أن توصيف حروف الهجاء جاء بعد أن نزل القرآن.


وقسمناها نحن إلى حروف مهجورة وحروف مهموسة وحروف رقيقة وحروف رخوة.


وقد حدث هذا التقسيم بعد أن نزل القرآن.


وبالاستقراء تجد الأربعة عشر حرفاً التي تأتي في فواتح السور تمثل كل أنواع الحروف.


من: رقيق، ومفخم، ومجهور، ومهموس، ومستعلٍ، وبدأ الله بها على أشكال مختلفة، فمرة يبدأ بحرف واحد: (صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ) (ص: 1).


ويقول سبحانه: (قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ) (ق: 1).


ويقول سبحانه: (نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) (القلم: 1).


إذن: فثلاث سور ابتدأت بحرف واحد.


وهناك سور ابتدأت بحرفين اثنين مثل: (طه).


(يسۤ).


(طسۤ)، (حـمۤ).


وهناك سور بدئت بثلاثة حروف: (الۤمۤ) مثلما بدأت سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة العنكبوت، وسورة الروم، وسورة السجدة.


وهناك سور قد بدئت بـ (الۤر).


وثلاث سور تتفق في الألف واللام.


وتختلف في "الميم والراء", و (الۤر) في أول سورة يونس و (الۤر) في أول سورة يوسف.


و (الۤر) في أول سورة إبراهيم، و (الۤر) في أول سورة الحجر.


وهناك سورة قد بدئت بأربعة حروف مثل: (الۤمۤصۤ) في أول سورة الأعراف، وكذلك سورة الرعد بدأت بـ (الۤمۤر).


وهناك سور قد بدأت بخمسة حروف مثل سورة مريم (كۤهيعۤصۤ).


وكذلك سورة الشورى بدأت بـ (حـمۤ * عۤسۤقۤ).


ومرة يطلق الحرف أو الحرفان في أول السورة ولا تعتبر آية وحدها؛ بل جزءاً من آية، وهناك سورتان تبدآن بأحرف وتعتبر آية مثل (طه)، و (يسۤ).


أما في سورة النمل فهي تبدأ بـ (طسۤ) ولا تعتبر آية وحدها.


إذن: فمرة تنطق الحروف وحدها كآية مكتملة، ومرة تكون الحروف بعضاً من آية، ومرة تأتي خمسة حروف مثل (كۤهيعۤصۤ)، وكل هذا يدلك على أن القرآن توقيفي.


ولم تأت آياته على نسق واحد؛ لننتبه إلى أن الحق سبحانه أنزل هذه الحروف هكذا، وكذلك نجد كلمة "اسم" في القرآن في (بسم ٱلله) وتكتب من غير ألف، وهي ألف وصل، أي: تنطقها حين تقرأها لكن الحرف يسقط عند الكتابة، ولكنها لا تسقط عندما نكتب الآية الأولى من سورة العلق: (ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ) (العلق: 1).


ومثال آخر لو استعرضت في القرآن الكريم كلمة "تبارك"، ستجد فيها ألفاً بعد الباء، وتأتي مرة من غير ألف، وكلمة "البنات" نجدها مرة بألف ومرة من غير ألف، كل ذلك؛ لنفهم أن المسألة ليس لها رتابة كتابة؛ لأنها لو كانت رتابة كتابة؛ لجاءت على نظام واحد.


وقد شاء الحق هذا الأمر؛ لتكون كتابة القرآن معجزة، كما كانت ألفاظه وتراكيبه معجزة.


وقد قال البعض: إن العرب المعاصرين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكونوا أهل إتقان للكتابة، ونقول: لو كانوا على غير دراية بالكتابة لما كتبوا "بسم" من غير ألف في موقعها، لقد علموا أن القرآن يجب أن يكتب كما نزل به جبريل عليه السلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتابة توقيفية، أي: كما أمر الحق سبحانه وعجيبة أخرى أن كل آيات القرآن مبنية على الوصل، فأنت لا تقرأ ختام السورة بالسكون، بل تلتفت لتجد الكلمة التي في ختام أي سورة مشكلة بغير السكون.


والمثال هو: (وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ) وجاء الحرف الأخير بالكسر لا بالسكون؛ لتقرأ موصولة بما بعدها، فتقرأ كالآتي: (وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ).


وهذه الحركة دلت على أن جميع آيات القرآن موصولة ببعضها، وإياك أن تجعل القرآن (عِضِينَ) فلا تأخذ بعضاً من آياته مفصولاً عن غيرها، بل القرآن كله موصول، فليس في القرآن من وقف واجب، بل الآيات كلها مبنية على الوصل، وإن كانت الكلمة الأخيرة تنتهي بالفتحة فأنت تقرأها منصوبة ومن بعدها (بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ) فنحن لا نسكِّن الحرف الأخير في أي سورة؛ لأنها موصولة بما بعدها.


وحتى في الحكم التجويدي إن وجد إقلاب ننطقه إقلاباً، وإن وجد إظهاء ننطقه إظهاراً؛ لأن آيات القرآن مبنية على الوصل.


ولقائل أن يقول: إذا كان القرآن قد بني على الوصل، فكان المفروض أن آيات القرآن التي بدئت بحروف المعجم تنبني على طريقة المعجم.


فلا نقول (ألف لام ميم) بل نقول "ألم".


ونقول لمثل هذا القائل: لا، إن حروف القرآن التي بدئت بها السور يجب أن ننطقها كما هي، فننطق "ألف" ثم نقف، ونقرأ "لام" ثم نقف، ونقرأ "ميم" ثم نقف؛ لأن هذه الحروف جاءت هكذا، وعلّمها جبريل عليه السلام لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- هكذا، حتى لا نقول رتابة كلام، بل إن لذلك حكمة عند الله سواء فهمتها أنت الآن أم لم تفهمها.


وقد نزل القرآن على أمة عربية وظل أناس على كفرهم، وكانوا يعاندون رسول الله، ويترصدون لأي هفوة؛ ليدخلوا منها للتشكيك في القرآن، ولكن أسمعتم رغم وجود الكافرين الصناديد أن واحداً قال: ما معنى (الۤمۤ)؟


لم يقل أحد من الكافرين ذلك، رغم حرصهم على أن يأتوا بمطاعن في القرآن، بل اعترفوا بمطلق بلاغة القرآن الكريم، مما يدل على أنهم فهموا شيئاً من (الۤمۤ) بملكتهم العربية، ولو لم يفهموا منها شيئاً؛ لطعنوا في القرآن.


لكنهم لم يفعلوا.


وأيضاً صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم أهل حرص على الفهم، هل سمعت أن أحداً سأل رسول الله عن معنى (الۤمۤ)؟


لم يحدث، مما يدل على أنهم انفعلوا لقائلها بسرِّ الله فيها، لا بفهم عقولهم لها؛ لأن الوارد من عند الله لا يوجد له معارض من النفس، وإن لم يقبله العقل فهو لا يرفضه مع استراحة النفس له.


وضربنا من قبل مثلاً، فقلنا: إن آل فرعون حين استحيوا نساء بني إسرائيل وذبحوا الذكور، فماذا فعلت أم موسى؟


لقد أوحى لها الله ما جاء خبره في القرآن: (وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ) (القصص: 7).


هاتِ أيَّ أُمٍّ وقُلْ لها: حين تخافين على وليدك فارميه في البحر، طبعاً لن تنفذ أي أم هذا الاقتراح.


كان من الممكن أن تحاول أم موسى إخفاء موسى بأي وسيلة.


أما أن تلقيه في البحر مظنّة أن تنجيه من الذبح، فهذا أمر غير متخيَّل، ولكن هذا أمر وارد من الرحمن بالإلهام والوحي، فلا يأتي الشيطان؛ ليعارضه أبداً؛ ولذلك طمأنها الحق سبحانه؛ لأن الآيات وردت: (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ) (القصص: 7).


وكأن هناك تمهيداً يعلِّمها الاستعداد للأمر قبل أن يقع، وحين جاء الأمر: (إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ * أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ) (طه: 38-39).والكلام هنا كلام عَجَلَة؛ لأن هذا وقت التنفيذ، وطمأنها سبحانه بأن أصدر أوامره للبحر أن يقذفه إلى الشاطئ: (فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ) (طه: 39).


وأصدر الحق أوامره إلى العدوِّ أن يأخذه؛ ليربيه: (فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ) (طه: 39).


إذن: وارد الرحمن لا يأتي له رد أبداً.


وكذلك يستقبل المؤمن (الۤمۤ) بسر الله فيها، لا بفهم عقله.


وأنا أنصح من يريد أن يقرأ القرآن تعبداً ألا يشغل نفسه بالمعنى، على خلاف من يقول: "اقرأ لتستنبط"؛ لأن من يريد أن يستنبط هو الذي يقف عند اللفظ، ويطلب معناه.


فإذا قرأت القرآن للتعبد؛ فلتقرأه بسر الله فيه؛ حتى لا تحدد القرآن بمعلوماتك؛ فتأخذه أخذاً ناقصاً بنقصك البشرى؛ لذلك في قراءة التعبد نأخذ اللفظ بسر الله في اللفظ؛ فليس كل قارئ للقرآن متخصصاً في اللغة؛ ليعرف أصل كل كلمة، والكثير منا أمي، يريد التعبد بالقرآن، إذن - فليأخذ القرآن بسر الله فيه.


والمثال من حياتنا -ولله المثل الأعلى- نجد الجيش يضع كلمة اسمها: "كلمة السر"، وهذه الكلمة قد لا يكون لها معنى، ولكن لا أحد يتحرك أو يخرج أو ينضم إلى المعسكر إلا إذا قالها.


ولتكن الكلمة "عدس" على سبيل المثال، ومن يعرفها يعرف أنها منجية من الموت، وساعة يعود مقاتل إلى كتيبته وينطق بكلمة "عدس"، هنا يعرف حارس بوابة المعسكر أنه منهم، أما من لا يعرفها فقد يُقتل.


ومن يقولها، إنما ينطقها بسر من لقنه إياها.


وقد فهم العربي القديم عن الحروف التوقيفية في أوائل بعض السور أشياء، وللغته فيها نظائر؛ لأنه مثلاً حين يقرأ الشعر.


ويلتفت إلى شاعر يقول:

ألا هُبِّي بِصحْنكِ فَاصبحِينا


ويقول:

ألا لايَجْهَلنْ أحدٌ عليْنا فَنجهَل فوْقَ جَهل الجَاهِلينَا


ما معنى ألا هنا، ولماذا جاءت؟


فالمعنى واضح بدونها، لكن العربي القديم قد نطق هذا البيت، وعرف أن الكلام وسيلة إفهام وفهم بين المتكلم والسامع.


والمتكلم هو مالك الزمام في أن يتكلم، أو لا يتكلم، والسامع مفاجأ بالكلام، فإذا ما ألقيت الكلام إلى السامع؛ قد يكون ذهنه مشغولاً، وإلى أن ينتبه لكلماتك، قد تفوته جزئية من جزئيات الكلام؛ فتنبه أنت إلى ما قلت؛ فيتنبه؛ ليستوعب كل ما قلت.


إذن: فما المانع أن يكون الحق سبحانه وتعالى يريد أن يهيئ الأذهان بـ (الۤمۤ)؛ حتى نسمع، ثم تأتي الآيات الحاملة للمنهج من بعد ذلك؟


وما المانع في أن نفهم أن النبي الأمي لا يعرف كيف ينطق بأسماء الحروف، فهو إن نطق فإنما يصدر ذلك بعد تعليم الله له؟


ولماذا لا نفهم منها أيضاً أن وسائل الفهم لا تنتهي إلى أن تقوم الساعة؟


وإلا لو انتهت عند البشر؛ لكان كلام الله قد حددت صفته بفهم البشر، وسبحانه قد شاء أن نغترف من معاني كلماته الكثير على مدى الأزمان، والقرآن كلام الله، وكلام الله صفته، وصفته لا تتناهى في الكمال، فإن عرفت كل مدلولاتها، تكون قد حددت الكمال بعلم، لكن القرآن لا نهاية له.


ولماذا لا نفهم أن القرآن الذي بيّن الحق سبحانه وتعالى أنه معجزة محمد -صلى الله عليه وسلم- هو من جنس ما نبغ فيه قومه؛ فتحداهم من جنس ما برعوا فيه.


ويقول لهم: هاتوا مثيلاً له، ولن تستطيعوا، ولو أنه جاء بالقرآن على غير لغتهم في الكلام لقالوا: لا نستطيع؛ لأن حروف هذه اللغة جديدة علينا.


وقد شاء الحق أن يكون القرآن من نفس الحروف التي يتحدثون بها، وبالكلمات التي يعرفونها في لغتهم، وشاء سبحانه أن يجعل حروف وكلمات وآيات وأساليب القرآن غير قابلة للتقليد؛ لأن المتكلم مختلف، وبهذا جاءت عظمة القرآن لا من ناحية المادة الخام التي تبنى منها الكلمات وهي الحروف؛ بل بالمعاني والنسق الذي جاءت به الحروف، فالمادة الخام -وهي الحروف- واحدة.


وصار القرآن معجزة؛ لأن المتكلم هو الله.


وضربنا من قبل المثل لنقرب ذلك إلى الأذهان: هب أننا نريد أن نقيس مهارة من ينسجون الأقمشة، ونضع أمام كل منهم مجموعة من غزل الصوف وغزل القطن، وغزل الحرير، وهذه مواد خام يختلف كل منها عن الآخر، ونقول لهم: كل واحد منكم عليه أن ينسج قطعة من كل صنف لنعرف الأفضل في النسج.


وسنسمع من يقول: إن نتيجة نسج الصوف نسيج خشن، وناسج القطن سينسج قطعة تأخذ صفات القطن، وناسج الحرير سينسج لنا نسيجاً ناعماً، أما إن أعطينا كلاّ منهم نوعاً واحداً من الغزل؛ صوفاً أو قطناً أو حريراً، هنا سنعرف من الأقدر على النسج.


إذن: لو أن القرآن جاء بغير حروف العرب، وبغير كلمات العرب؛ لقالوا: لو كانت عندنا هذه الحروف وهذه الكلمات؛ لأتينا بأحسن منها.


لذلك شاء الحق أن يأتي القرآن من جنس الحروف والكلمات.


ولذلك تحوم العقول حول مقدمات آيات السور؛ لتعرف شيئاً من الإيناسات بعد أن تواصلت الثقافات، ولم تعد اللغة العربية متوافرة مثلما كان الحال أيام نزول القرآن، ومن كانوا يملكون هذه الملكة الصافية أيام الرسول -صلى الله عليه وسلم- سمعوا الحروف التي في أوائل بعض السور وقبلوها، والحق سبحانه يقول: (الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ) (يونس: 1).


و (تِلْكَ): إشارة، ولابد أن نفرق بين الإشارة والخطاب؛ لأن البعض يخلط بينهما، فالإشارة هي التي تشير إلى شيء مثل قولنا: هذا وذا، أو تلك، وهذا: إشارة لمذكر، والمثال هو قولنا: هذا القلم جميل، أما قولنا: تلك الدواة جميلة، فهذه إشارة لمؤنثة.


أما "الكاف": فهي حرف للخطاب، فالتاء: إشارة للآيات وهي مؤنثة، و"الكاف" في (تِلْكَ): للمخاطب، وهو محمد -صلى الله عليه وسلم-.


فالله يقول لرسوله: تلك الآيات يا محمد.


وعلى ضوء الفوارق بين الإشارة والخطاب تختلف أساليب القرآن، مثل قوله الحق: (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ) (القصص: 32).


و (فَذَانِكَ): إشارة لشيئين اثنين: للعصا.


و (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) (النمل: 12).


ويقول الحق أيضاً: (ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ) (يوسف: 37).


وهذا ما قاله سيدنا يوسف عليه السلام للسجينين اللذين كانا معه.


وتُظهر لنا العبارة أنه كان يخاطب اثنين، ولكنه يشير إلى التأويل بـ "ذا".


وحين دعت امرأة العزيز النسوة؛ ليشاهدن جمال سيدنا يوسف، وأعطت كل واحدة منهن سكيناً؛ وقالت: اخرج عليهن، ولأنه مفرد مذكر، وهن جماعة إناث، فالعبارة تأتي بخطاب لجماعة الإناث، وإشارة إلى المفرد المذكر فقالت: (فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) (يوسف: 32).


و "ذا" إشارة إلى سيدنا يوسف، و "كن" خطاب للنسوة.


والقرآن حين يخاطب جماعة يقول: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ) (فصلت: 23).


إذن فهناك فرق بين الإشارة والآيات، فالـ "ت" إشارة للآيات، والآيات مؤنثة، والمخاطب الأول بالتكليف هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.


والآيات -كما عرفنا من قبل- جمع آية، والآية هي الأمر العجيب، وكل منا يسمع من يقول: إنها آية في الحسن أو آية في الجمال، أو آية في الفن، أو آية في الروعة.


فالآية إذن هي الشيء العجيب، أو الشيء الذي بلغ من الحسن ومن الجمال درجة هائلة.


وتطلق الآيات إطلاقات متعددة: فهي إما أن تكون المعجزات التي أمدَّ الله بها رسله؛ ليثبت صدقهم.


(مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) (الأعراف: 132).


وإما أن تطلق الآيات على الأشياء العجيبة في الكون مثل قوله الحق: (وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ) (يس: 37).


وقوله سبحانه: (وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ) (الإسراء: 12).


وقوله الحق: (وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) (المؤمنون: 50).


إذن: فالآية إما أن تكون شيئاً في الكون، وإما أن تطلق على المعجزة التي جاء بها الرسل؛ لتثبت صدقهم في البلاغ عن الله، وقد يكون المقصود بها آيات القرآن.


إذن: فالآيات تطلق على ثلاثة أمور: الآيات الكونية للنظر والاعتبار، وآيات إعجازية لصدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- في البلاغ عن الله، وآيات قرآنية تحمل الأحكام والتحدي للمشركين أن يأتوا بمثلها.


وهنا في قوله الحق: (الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ) المراد بها: الآيات القرآنية، وما دام الله هو خالق الآيات الكونية الحسية، وخالق المعجزات؛ وهو منزِّل القرآن؛ فلا تعارض بين الآيات؛ لأن مصدرها واحد.


وقوله: (الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ) (يونس: 1).


وكلمة (ٱلْحَكِيمِ) معناها: الذي يضع الشيء في موضعه الدقيق بحكمة، فلا ينظر إلى ظاهر معطيات الشيء الآن ويغفل ما قد يأتي به من مضرّة.


ولله المثل الأعلى أقول: إنك قد تصل إلى الشيء، وتظن أنه يخلصك من متاعب أخرى، لكنه قد يؤدي إلى شيء أضر، وهذا هو السبب في اختلاف ألوان ووظائف العقاقير المختلفة، ولذلك نجد الطبيب الحاذق يكتب عدداً من الأدوية؛ ليستخلص المريض منها ما يشفيه، ويحاول بقدر الإمكان أن يُجنبه الآثار الجانبية لتلك الأدوية.


إذن: فهذه حكمة؛ لأن الطبيب لا يكتب الدواء الواحد الذي قد يأتي منه أثر ضار، بل يكتب معه دواء يخفّف من ضرره، وهذه حكمة منه لأنه يعمل احتياطات لما قد ينشأ من ضرر أو أثر جانبي.


وفي أوائل الخمسينات، حاول العلماء أن يقللوا من أثر تهديد الحشرات للزروع، واخترعوا مادة اسمها "د.د.ت" لمقاومة الحشرات، وافتخروا بهذا كل الفخر حتى علا كل صوت، وهذا لأن البشرية وصلت إلى مادة تقضي على الحشرات، ولكنهم اكتشفوا أن هذه المادة تضر الكائنات الحية الأخرى، والآن تُوقع العقوبة على من يستخدم تلك المادة؛ لأن ذلك عمل قد تم بغير حكمة.


قد نأخذ منه ظاهر النفع، لكن له جوانب متعددة من الضرر، فقد سمّم الحيوانات وسمّم الزروع.


إذن: فالحكمة تعني: أن تضع الشيء في موضعه؛ ليعطيك فائدة لا تحدث ضرراً فيما بعد.


وقد أنزل الله المنهج في الكتاب ليقود حياتنا إلى كل صلاح.


فإن طبقناه؛ فلسوف يأتي منه كل نفع، ولن يأتي لنا أي ضرر، وضربنا المثل في المعطيات التي أعطاها الحق لنا في الكون، فسبحانه خلق لنا الحيوانات؛ لنأخذ من لبنها، ونأخذ من أصوافها، ونأخذ من جلودها، ونأكل من لحومها.


وهو القائل: (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ) (النحل: 7).


أي: أنها ستعطينا درجة من الراحة، وإذا كان الإنسان قد اخترع أدوات أخرى تحمل عنا هذه المشقات، وتبلغنا غاياتنا بدون تعب؛ فهذه اختراعات تحقق مصلحة البشرية -وقد كانت البشرية تحمل أمتعتها فوق الحمار أو البغل- وقد صنع الإنسان هذه الاختراعات؛ فصارت عندنا السيارات الكبيرة التي تحمل أطناناً من المواد والمتاع، ولكن لم نلتفت إلى ما تحدثه من عوادم تسبب فساد الهواء، وتلوثه على عكس فضلات الحمار أو البغل، التي تفيد في خصوبة الأرض.


إذن: فصناعة السيارات إن لم تتخلص من عيوب عوادمها بأسلوب ما، فهي اختراع بلا حكمة، ويجب البحث عن وسائل لإزالة أضرار احتراق الوقود، وبذلك نستفيد من سرعة السيارات، وقدرتها على حمل البضائع، ونتخلص مما تسببه من ضرر.


وهكذا نعرف أن الحكمة هي: وضع الشيء في موضعه المفيد فائدة دائمة لا يأتي من بعدها ضرر.


ولقائل أن يقول: وما معنى قول الحق: (ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ) هل الكتاب بمفرده له حكمة؟


أم أن الحكيم هو من أنزل الكتاب؟


ونقول: إن معنى (ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ) أنه الكتاب الذي يمتلئ بالحكمة الصادرة من الله، أو الكتاب الذي أنزله الرب الحكيم.


وكلمة "حكيم" على وزن "فعيل"، ومثلها مثل "كريم" و "رحيم" وتأتي مرة بصيغة فاعل، ومرة بصيغة فعيل، وموضعها هو الذي يبين لنا ذلك.


ومعنى كلمة "ٱلْحَكِيمِ" يتضح لنا من سياقها: فإن نسبت الأمر إلى الحكم فهو كتاب صادر من الحق سبحانه، وإن أردت الوصف بمعنى فاعل فهو من حاكم؛ والحاكم هو الذي يحكم في قضايا؛ ليبين وجه الحق فيها، والقرآن يحكم في كل قضايا الإيمان.


وقمة العقيدة التي يحكم فيها القرآن هي لا إله إلا الله.


ومن يفعل عكس ذلك هو الظالم، وسبحانه القائل: (إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان: 13).


والقرآن يحسم هذه القضايا، وهو حاكم فاصل فيها.


فإن قلت: "محكم" تكون قد نسبته لله، وإن قلت: "حاكم" فهو الفاعل وهو يحكم في قمة العقيدة "لا إله إلا الله"، وهي شهادة ذات لذات، وشهادة مشهد من الملائكة، وشهادة أدلة من الخلق: (شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ) (آل عمران: 18).


وساعة يفصل القرآن في هذه القضية، فهو يحكم فيها حكماً عدلاً يبين وجه الحق في قمة العقائد.


وهو حاكم في الأفعال؛ فيبين الحلال من الحرام ويضع حدّاً فاصلاً في الأحكام بين الحلال والحرام.


وحاكم في الأخلاق.


إذن: "حاكم" تعني ما بين وجه الحق فيما تتعارض فيه الآراء والأفكار والمعسكرات المتضاربة.


و"حكيم": إما أن تكون بمعنى "فاعل" وإما أن تكون بمعنى (مفعول) ووقعت الحكمة من قائله عليه، فصار "محكماً"، وإن كانت كلمة الحكيم بمعنى فاعل تكون بمعنى "حاكم" وكلمة حاكم تدل على أن هناك فريقين: فريق يقول قضية، وفريق آخر يناقضه، فيأتي الحاكم؛ ليفصل بين الأمرين، وليعدل وينصف.


وقد جاء القرآن هكذا: حاكماً في أمر القمة التي اختلف الخلق فيها؛ فمنهم من أنكر وجود إله وهم الملاحدة.


ومنهم من قال: إن الإله هو غير الله، ومنهم من قال: الإله شريك لغيره، فجاء القرآن؛ ليفصل في هذه المسألة، وحكم فيها حكماً واضحاً، وبيَّن: يا من تقولون: لا إله؛ أنتم كذابون، ويا من تقولون: إن الإله غير الله؛ أنتم كذابون، ويا من تقولون: إن الإله له شركاء مع الله؛ أنتم كذابون، بل هو إله واحد، وهذا أول حكم في قضية القمة.


وما دام الحكم في قضية القمة قد صح؛ إذن: فالاستقبال للمنهج سيكون واحداً، فلا آلهة متعددة يضارب هذا ذاك، أو يناقضه، بل هو إله واحد، يصدر عنه حكم واحد يحقق الوحدة في التكاليف للناس جميعاً، ويُخرج جميع الناس من أهوائهم إلى مراده هو سبحانه، ويكون القرآن حاكماً أيضاً في الأفعال، فقد يختلف الناس في تقييمهم لفعل واحد.


فهذا يقول فعل حسن، وآخر يقول: فعل قبيح، ويحسم القرآن الأمر ويحدد الفعل الحسن؛ فيأمر به؛ ويحدد الفعل القبيح؛ فينهى عنه، ويبين القرآن لنا الحلال من الحرام.


إذن: فالقرآن حكم في العقائد وفي الأفعال وفي ذوات الأشياء حلاّ وحُرْمة، وهو يحكم أيضاً في قضية هامة تلي قضية الحكم في قمة العقيدة، وهي صدق البلاغ عن الله، فهذا الرسول الذي يحمل البلاغ عن الله لابد أن يكون صادقاً، وقد جاء القرآن بالحكم في هذه القضية بمعنى أنه قد جاء معجزاً، فإن لم تكونوا قد صدقتم بأن هذا رسول؛ فأتوا بمثل ما جاء به هذا الرسول.


فإن عجزتم؛ فالرسول بنفسه يخبركم أن القرآن ليس من عنده، بل من عند خالقه وخالقكم.


وسواء أكانت "حكيم" بمعنى "فاعل" أم بمعنى "مفعول" فقد دلتنا على أنها تعني وضع الأشياء في نصابها وضعاً يحقق النفع منها دائماً، ولا ينتج عنها ضارة أبداً.


ثم يقول الحق بعد ذلك: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ...).



سورة يونس الآيات من 001-005 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49191
العمر : 72

سورة يونس الآيات من 001-005 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة يونس الآيات من 001-005   سورة يونس الآيات من 001-005 Emptyالسبت 21 سبتمبر 2019, 9:50 pm

أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (٢)
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

ما هو العجيب -إذن- في أن الله أوحى إلى رجل منكم أن يبلغكم إنذار الله وبشارته؟

ما الذي تعجبتم منه؟

وما موضع العجب فيه؟

وجاء تحديد العجب فيه ما ذكرته الحيثية في آخر السورة السابقة من أنه: (رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ) (التوبة: 128).

أي: من البشر، ومن العرب، ومن قبائلكم، ومن أنفسكم ممن تعرفون كل خُلُقه، فما العجيب في أن يرسله الله رسولاً إليكم؟

إنكم قد ائتمنتموه على أموركم من قبل أن ينزل عليه الوحي من الله، فكأنكم احترمتم طبعه الكريم، وأنكم في كثير من الأشياء قبلتم منه ما يصل إليه من أحكام.

ودليل هذا أنكم حين اختلفتم في بناء الكعبة، وقالت كل قبيلة: نحن أولى بأن نضع بأيدينا أقدس شيء في الكعبة، وهو الحجر، حين ذلك اختلفت القبائل؛ فما كان إلا أن حَكَّموا أول داخل؛ فشاء الله أن يكون أول داخل هو محمد بن عبد الله، فكيف يحل محمد بن عبد الله هذه المشكلة، ولم يكن قد نزل عليه وحي بعد؟

إنها الفطرة التي جعلته أهلاً لاستقبال وحي الله فيما بعد، فماذا صنع؛ لينهي هذا الخلاف؟

جاء برداء، ووضع الحجر على الرداء، ثم قال لكل قبيلة: أمسكوا بطرف من الرداء، واحملوا الحجر إلى مكانه.

وتلك هي الفطرة السليمة.

ورأينا أيضاً سيدنا أبا بكر عندما قالوا له وهو راجع من الرحلة التي كان يقوم بها: لقد ادعى صاحبك النبوة، قال: "إن كان قد قالها فقد صدق".

من أي أحداث جاء حكم أبي بكر.

أهو سمع من رسول الله كلاماً معجزاً؟

أسمع منه قرآناً؟

لا، بل صدّقه بمجرد أن أعلن أنه رسول.

فقد جربه في كل شيء ووجده صادقاً، وجربه في كل شيء ووجد أنه أمين، فما كان محمد لِيصْدُقَ فيما بين البشر، ليكذب على الله.

وكذلك خديجة بنت خويلد حينما قال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يأتيني كذا وأخاف أن يكون كذا، فبينت له أن المقدمات التي في حياته لا توحي بأن الله يخذله ويفضحه ويسلط عليه الجن: "إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ وتنصف المظلوم، ولن يخزيك الله أبداً" وبذلك كانت السيدة خديجة أول فقيه مستنبط في الإسلام.

وقوله سبحانه: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) يعني: التعجب من أن يصدر منهم العجب، والقرآن يتعجب كيف يصدر منهم هذا العجب؟

وما دام يتعجب كيف يصدر منهم هذا العجب؟

فمن المنطقي ألا يكونوا قد تعجبوا؛ لأنك حين تتعجب من شيء فإما أن تتعجب منه؛ لأنه بلغ من الحسن مبلغاً فوق مستوى ما تعرف من البشر، مثلما ترى صنعة جميلة وتقول: ما أحسن هذه الصنعة، وتتساءل: ما الذي جعل هذه الصنعة جميلة إلى هذا الحد غير المتصور؟

وأنت تقول ذلك؛ لأن الصنعة قد بلغت من الجمال مبلغاً لا تصدق به أن أحداً من الموجودين في إمكانه أن يصنعها.

والمثال على ذلك: نجد من يقول: ما أحسن السماء؛ وهو يتعجب من الشيء الذي يفوق تصوره.

وقد يتعجب من شيء قبيح، ما كان يجب أن يرد على الخاطر، ولذلك يقول القرآن: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ) (البقرة: 28).

أي: قولوا لنا: كيف قبلتم لأنفسكم الكفر؟

لأن الكفر مسألة عجيبة تتنافى مع الفطرة.

وهنا يقول الحق: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ) (يونس: 2).

وهنا نتساءل: كيف تتعجبون وقد جئناكم برسول من أنفسكم، (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 128).

أليس هذا هو المطلوب في الرائد، فكيف تعجبون؟

إن عجبكم يدل على أن بصيرتكم غير قادرة على الحكم على الأشياء، وما كان يصح أن يُستقبل الرسول بالعجب، ونحن نتعجب من عجبكم هذا.

وحين تتعجب من العجب؛ فأنت تبطل التعجب.

(أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ) (يونس: 2).

أي: أن إيحاءنا لرجل منكم كان عجيباً عندكم، وما كان يصح أن يكون أمراً عجيباً؛ لأنه أمر منطقي وطبيعي.

ثم ما هو الوحي؟

لقد سبق أن أوضحنا أن الوحي هو الإعلام بخفاء.

وهناك إعلام واضح مثل قولك لابنك: يا بني اسمع كذا، وافعل كذا.

هذا إعلام واضح.

وهناك إعلام بخفاء، كأن يدخل عندك ضيف؛ ثم يسهو خادمك -مثلاً- عن تحيته، فتشير للخادم إشارة؛ تعني بها أن يُسرع بتقديم التحية للضيف؛ من مرطبات، أو حلوى، وهكذا تكون قد أعلمت خادمك بخفاء.

والحق سبحانه وتعالى يوحي إلى الجماد، فسبحانه يقول: (إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ ٱلأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ ٱلإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا) (الزلزلة: 1-5).

أي: أنه سبحانه وتعالى قد أعلمها إعلاماً خفيّاً؛ وهي قد فهمت بطريقة لا نعرفها.

وسبحانه يوحي للحيوانات، فهو القائل: (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ) (النحل: 68).

وأنت لا يمكنك أن تقول: أنا سمعت الله وهو يوحي للنحل؛ لأن الوحي إعلام بخفاء، وهو سبحانه أعلم بالطريقة التي تم بها هذا الوحي، والنحل قد فهم عنه سبحانه، ولا شأن لك بذلك، فلا تسأل عن كيفية هذا الوحي.

(وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) (النحل: 68).

أي: أنها فهمت عن الله بما أودع فيها من الغرائز.

وسبحانه يوحي للملائكة وهو القائل: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ) (الأنفال: 12).

ويوحي الحق سبحانه إلى غير الرسل؛ كما أوحى إلى أم موسى: (وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ) (القصص: 7).

وأوحى سبحانه إلى الرسل جميعاً.

إذن: فسبحانه يوحي للجماد، ويوحي للحيوان، ويوحي للملائكة ويوحي للصالحين من غير الأنبياء، ويوحي للأنبياء وللرسل.

والوحي -كإعلام بخفاء- يقتضي مُعْلِماً، وهو الحق سبحانه وتعالى، ومُعْلَماً؛ وهو إما: الأرض، وإما النحل، وإما الملائكة، وإما إلى بعض الصالحين من غير الأنبياء، وإما إلى الرسل والأنبياء.

وقد يأتي الوحي من غير الله، فسبحانه يقول: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً) (الأنعام: 112).

إذن: فالشياطين يُعلمون بعضهم البعض إعلاماً خفياً.

ويقول الحق: (إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ) (النساء: 163).

والموحى إليه هو محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهو وحي خاص بالرسول، فلا تقل: أنا لم أسمع ماذا أوحي إلى محمد، ولا أعرف كيف نزل الوحي، فقد جاء جبريل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبلغه أن يعلن ما أوحي إليه، ولو كنت أنت قادراً على سماع الوحي من جبريل، فما ضرورة إرسال الرسول إذن؟

إن الطاقة والقدرة العالية المرسلة إلى الموحى إليه تحتاج إلى قوة تحمل، وضربنا المثل من قبل بأن الإنسان حين ينقل طاقة من مصدر عال قوي إلى مصدر ضعيف فهو لا يُسرب الطاقة من القويّ إلى الضعيف دفعةً واحدة، وإلا لما تحمَّل الضعيف تلك الطاقة القادمة إليه من القوي، ولذلك نحن نأتي بمحوِّل يتحمل طاقة القوي، ثم ينقل للضعيف ما يناسب قدرته، ومثال ذلك هو شراؤنا لمحول كهربي حين ننقل الكهرباء من مصدر طاقة عالي الجهد إلى مصدر آخر ضعيف قليل الجهد؛ مثل المصباح الصغير الذي تضيئه في المنزل ليلاً لينير بالقدر المناسب كيلا نرتطم بالأشياء، وهو ما نسميه بالعامية "ونّاسة".

إذن: فمهمة المحول أن يستقبل من مصدر الطاقة القوي؛ ليضيء لمصدر الطاقة الضعيف.

فإذا كان الله سبحانه وتعالى هو الذي يوحي للرسول، والرسول من البشر لا يمكنه التلقي المباشر عن الله؛ لذلك لابد من واسطة تبلغ في الارتقاء بما يمسح لها بالتلقي عن الله، وتستطيع أن تلتقي بالبشر؛ وهذه خاصية المَلَك.

ورغم هذا أصاب الجهد والتعب سيدنا رسول -صلى الله عليه وسلم- في أول تلقيه للوحي، وكان -صلى الله عليه وسلم- يعرق حتى يتفصد العرق من جبينه، وإذا انصرف عنه الوحي قال: "زمّلوني.. زملوني" ويرتعد.

وكان الصحابة يقولون: كان إذا نزل الوحي على رسول الله، وهو قاعد؛ وقد تكون ركبته على فخذ أحد الصحابة، فيجد الصحابي ثقلاً على رجله من شدة وطأة ركبة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإذا نزل الوحي، والرسول يركب مطيه فهي تئط منه.

إذن: كان الوحي يُتعب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبعد أن يُسرَّى عنه التعب؛ تبقى له حلاوة ما أوحي إليه؛ فيتشوّق ثانية للوحي.

وقد شاء الحق أن يشوّق النبي -صلى الله عليه وسلم-، للوحي ففتر الوحي لمدة من الزمن.

وحين اشتاق النبي للوحي؛ كان ذلك يعني أنه قد شحن نفسه بطاقة متقبلة لاستقبال هذا الوحي؛ بما فيه من تعب.

ولله المثل الأعلى دائماً، قسْ أنت الجهد المبذول في رحلة إلى من تحب، أثناء المطر، والأرض موحلة ومليئة بالشوك، ورغم ذلك أنت تقطع الرحلة دون أن تلتفت لما فيها من إرهاق وتعب.

وشاء سبحانه أن يُرغِّب رسوله شوقاً إلى الوحي، رغم ما فيه من جهد؛ لأنه التقاء مَلَك ببشر، وهذا اللقاء يكون على صورتين: إما أن ينقلب الملَك إلى مرتبة بشرية؛ وهذه الصورة ليس فيها إجهاد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن عملية التحويل جاءت في الأعلى بينما يظل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما هو، مثلاً دخل جبريل على رسول الله، وكان معه بعض من الصحابة، وسأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما الإيمان؟

وما الإسلام؟

وما الإحسان؟

ثم اختفى السائل، فسأل الصحابة رسول الله عن هذا السائل؛ فقال: "هذا جبريل جاءكم يُعلِّمكم أمور دينكم".

هذه هي الصورة الأولى في الوحي، والتحول فيها كان من جهة الإرسال فلا مشقة فيها على النبي -صلى الله عليه وسلم-.

أما الصورة الثانية، فقد كان فيها مشقة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الملك يظل على طبيعته، والتحول إنما يحدث لمحمد -صلى الله عليه وسلم-، وكان التحول يقتضي عملية كيمياوية تصيبه بالجهد؛ فيقول بعد أن يُسرى عنه: "زمّلوني".

وشاء الحق أن يتلطف برسوله، ففتر الوحي فترة من الزمن.

وقال الكافرون من العرب: إن رب محمد قد قلاه وهذا غباء منهم؛ لأنهم اعترفوا أن لمحمد ربّا.

وما داموا قد اعترفوا، فعدم إيمانهم صلف وغباء، وأرادوا بذلك أن ينسبوا النقص لمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: إن الله قد قلى محمداً.

وقد شاء الحق أن ينقطع الوحي عن محمد -صلى الله عليه وسلم- هذه المدة؛ ليكشفهم أمام أنفسهم وأمام غيرهم، لتنكشف نواياهم، وتثبت قلّة بصيرتهم، وافتقادهم للمنطق السليم، فهم حين اعترفوا أن لمحمد ربَّا، كان عليهم أن يحتكموا إلى عقولهم؛ ليعرفوا أنهم قد أقروا بالألوهية، لكنهم أرادوا بهذا الاعتراف أن ينسبوا النقص لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

ولو قاضيناهم إلى عقولهم، وإلى الكون الذي عاشوا فيه، وإلى الظواهر المادية المحسوسة لهم، لعرفوا أن الأحداث لابد لها من زمان ومكان؛ لأن كل حديث يتطلب زماناً ومكاناً، وإذا لم يوجد حدث؛ لا يوجد زمان أو مكان.

ولذلك أقول دائماً لمن يسأل: أين كان الله؟

أقول له: أنت جئت بالأينية من الزمان، والمكانية من المكان، وهذا لا يتأتى إلا بوجود حدث.

وما دام الله غير حدث، فلا زمان يحدده، ولا مكان يُحيّزه؛ لأن الزمان كان به، والمكان كان به.

والأحداث هي عند البشر، فهم من يستقرون في المكان، ويتوالى عليهم الزمان.

والزمان الذي يحدث فيه أي حدث اسمه "ظرف زمان"، والمكان الذي يحدث فيه الحدث اسمه "ظرف مكان"؛ وظرف المكان ظرف قارّ ثابت، بينما ظرف الزمان غير قارٍّ، بل هو حال، وبعد قليل يصبح الحال زمناً ماضياً؛ ويأتي المستقبل ليكون حاضراً، ثم يصبح ماضياً.

وهكذا نعلم أن زمناً يحدث فيه التناوب بين المستقبل والحال والماضي، والليل والنهار هما أوضح صور ظرف الزمان وفيهما اختلاف، فالليل يأتي والنهار خلفه؛ لأن النهار جعله الله ضياء؛ للحركة والكدح والعمل، وجعل سبحانه الليل ظلاماً؛ للسكون والراحة، فإن لم ترتحْ بالليل؛ لا تقوى على العمل في الصباح، وهكذا يكون الليل مكملاً للنهار لا مناقضاً له.

وكذلك شاء الحق أن يكون الوحي بهذا الشكل، فحين جاء الوحي لأول مرة أجهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم فتر الوحي ليستريح -صلى الله عليه وسلم-؛ وتتجدد قدرته على استقبال الوحي من بعد ذلك.

وحين قال الكافرون: إن ربَّ محمد قد قلاه، ردّ عليهم الحق سبحانه وتعالى: (وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ) (الضحى: 1-3) والضحى ضحوة النهار وهي -كما قلنا- للعمل والحركة، فإذا جاء الليل فهو يبدو وكأنه ضد النهار، لكنه غير ذلك، بل هو مكمل له ويساعده.

إذن: ففتور الوحي لمدة من الزمن كان لمساعدة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتجديد الحيوية.

وقد أقسم الحق سبحانه بالضحى والليل، وهو قسم بالظاهرة الكونية المشاهدة والتي يعترف بها كل إنسان، مؤمنهم، وكافرهم! أقسم الحق بالضحى أنه ما قلى رسوله، بل شاء بفتور الوحي أن يعطيه طاقة تزيد من حركته، وتزيد من جهده ليشتاق -صلى الله عليه وسلم- لأمر الوحي.

وبذلك أعانه الحق على مهمته، وفي هذا أبلغ ردٍّ على من قالوا: إن رب محمد قد قلاه، وإثبات أن الحق قد شاء لفترة فتور الوحي أن تكون كالليل سكوناً، ليهدأ -صلى الله عليه وسلم- بعد الضحى المجهد الذي استقبل به الوحي.

وبعد أن تتجدد حيويته -صلى الله عليه وسلم- يأتي الوحي من جديد؛ لذلك قال الحق: (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ) (الضحى: 4-5).

وبعد هذه السورة يقول الحق سبحانه في سورة الشرح: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (الشرح: 1-4).

وهكذا بيَّن لنا الحق أن مسألة فتور الوحي وعودته هي عملية متكاملة، لكن الأغبياء فقط هم من يظنون أنها متناقضة ويقولون: (ظلمة - وضوء)، و(ليلٌ - ونهارٌ) والحق أنها متكاملة.

ومثل هذا الأمر تجده أيضاً فيمن يحاولون خَلْق عداوة بين الرجل والمرأة، ولم يتفهَّموا أن الذكر متمّم للأنثى، وأن الأنثى متمّمة للذكر.

وهنا يقول الحق: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ) (يونس: 2).

والإنذار -كما نعلم- هو الإخبار بشيء يمكن أن تتلافاه.

أما البشارة فهي الإخبار بخير يحثُّك من يبشرك على أن تقتنيه.

وأنت تنذر من يهمل في دراسته بأنه قد يرسب، وأنت حين تنذره إنما تطالبه بأن يجتهد، وفي المقابل فأنت تبشر المجتهد بالنجاح وبالمستقبل الطيب.

إذن: فالإنذار يعني أن تحث الإنسان على ألا يقبل أو يُقْدِمَ على ما يضره.

والتبشير يعني أن تحث الإنسان على أن يجتهد؛ لينال ما يحبه.

والأمور في الأحداث كلها تدور بين سَلْب وإيجاب.

ولسائل أن يقول: ولماذا جاء سبحانه بالإنذار قبل البشارة؟

فنقول: إن كلمة "الإنذار" كلمة عامة لكل الناس، حتى يتجنبوا ما يقودهم إلى النار، لكن البشارة تكون لمن آمن فقط.

أو أن الإنذار والبشارة للمؤمنين، ولكن شاء الحق أن يجعل المؤمنين في صف البشارة دائماً، وأن يكون الإنذار لوناً من ضرورة التخلية من العيوب، قبل التحلية بالكمال.

فأنت تدفع عن نفسك الأمر الذي يأتي بالضُرّ أولاً، ثم تتجه إلى ما يجلب النفع من بعد ذلك؛ لأن دَرْء المفسدة مُقدّم على جلب المصلحة.

ونجد الحق سبحانه يحدد الإنذار بأنه للناس، والناس: هم الجنس المنحدر من آدم إلى أن تقوم الساعة.

وقد وقف بعض المستشرقين عند كلمة "الناس"، وأرادوا أن يدخلونا من خلالها إلى متاهات التشكيك في القرآن، وقالوا: إن القرآن فيه تكرار لا لزوم له.

وأهم سورة أخذها هؤلاء المستشرقون هي سورة "الناس" حيث يقول الحق: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ * مَلِكِ ٱلنَّاسِ * إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ * مِن شَرِّ ٱلْوَسْوَاسِ ٱلْخَنَّاسِ * ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ * مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ) (الناس: 1-6).

وهذا الجمع من المستشرقين فهموا أن المعنى لكلمة "الناس" في كل آية من آيات هذه السورة هو معنى واحد.

ولأنهم لم يتمتعوا بملكة اللغة؛ لم يلتفتوا إلى أن معنى كلمة "الناس" في كل موقع هو معنى مختلف وضروري؛ لأن الحق سبحانه أراد بكل كلمة في القرآن أن تكون جاذبة لمعناها، وأن يكون كل معنى جاذباً للكلمة المناسبة له.

والمثال أيضاً في كلمة "الناس"؛ هو قول الحق سبحانه: (أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ) (النساء: 54).

فهل كل الناس تتلقى الحسد؟

لو كان الأمر كذلك فمن الحاسد؟

إذن: فقوله الحق: (أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ) (النساء: 54).

إنما يعني أن هناك أناساً حاسدين، وآخرين محسودين.

ولا تكون كلمة "الناس" عامة شاملة لكل الأفراد إلا في حالة الحكم العام.

والمثال هو قوله الحق: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) (آل عمران: 96).

وهذا القول الحق يحل لنا إشكالاً عاماً، فالبيت الحرام موضوع لكل الناس، من لَدُن آدم، وآدم هو أبو الناس.

ولابد -إذن- أن يكون البيت موضوعاً قبل أن يكون آدم، وأن الذي وضعه هو من غير الناس، فالذي وضعه هو بأمر من الحق سبحانه، فلا يقولن أحد: إن إبراهيم -عليه السلام- هو الذي وضع البيت الحرام؛ لأن مهمة إبراهيم -عليه السلام- كانت هي رفع القواعد من البيت؛ لأننا لو قلنا: إن إبراهيم -عليه السلام- هو الذي بنى البيت؛ فكيف ينسجم هذا مع قوله الحق: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) (البقرة: 127).

وهو قول نفهم منه أن إسماعيل كان شريكاً لوالده في الرفع والبناء، ولابد أن يكون قد امتلك درجة من القوة تجعله قادراً على مساعدة الأب في العمل.

وهذا القول أيضاً نفهم منه أن عملية رفع القواعد من البيت لم تتم وقت أن كان إسماعيل رضيعاً؛ لأن الحق سبحانه قال على لسان إبراهيم عليه السلام: (رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ) (إبراهيم: 37).

وهذا يعني أن البيت كان موجوداً قبل ذلك.

وقولنا هذا يرد على بعض العلماء الذين قالوا: إن إبراهيم -عليه السلام- هو أول من بنى الكعبة فنقول لهم: وماذا عن الخلق البشري من قبل إبراهيم إلى لَدُنْ آدم، أليسوا ناساً؛ فلماذا لم يكن لهؤلاء الناس من قبل إبراهيم بيتٌ محرّمٌ؟

وهكذا شاء الحق سبحانه أن يكون البيت الحرام لكل الناس من لدن آدم، وأنه موضوع من قِبَلِ الله.

وكلمة الناس -إذن- عامة حين يتعلق الأمر بحكم عام، وتكون خاصة في مواقع أخرى، مثل قوله: (أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ) (النساء: 54).

وأما سورة "الناس" التي قال بعض المستشرقين: إن فيها تكراراً.

فالأمر ليس كذلك، بل هيأ لهم ذلك عجزهم عن امتلاك ملكة فهم اللغة.

وحين نتناول كلمة "الناس" بالاستقراء الدقيق في هذه السورة، نجد الحق سبحانه يقول: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ) (الناس: 1).

وهذا إعلان للربوبية لكل الخلق، فهو الرب الذي أوجد وأعطى الصفات لكل مخلوق.

ولا تحسب أنك تستطيع أن تشرد منه؛ فهو سبحانه يقول: (مَلِكِ ٱلنَّاسِ) (الناس: 2).

أي: أنه يملك كل الخلق، وجعل لهم الاختيار في أشياء؛ ومنع عنهم الاختيار في أشياء، ولم يقل سبحانه: "مليك النَّاس"؛ لأن هذا القول يعني أنهم مجبورون على الإيمان، ولا يسعهم غير هذا، ولكن الله جعلهم مختارين في الأمور التي هي مَنَاط للتكليف، وغير مختارين في أمور هي ليست محلاّ لهذا.

وأقول لأي واحد ممن تمرّدوا على الإيمان؛ فكفروا بالله؛ أقول: أنت متمرّد على الله، وتكفر به، وتنكر الألوهية، فلماذا لا تكون منطقيّاً مع نفسك، وتتمرّد على كل الأحداث التي تصيبك، فإن أصابك مرض؛ قل له: لا، لن أمرض.

فلا أحد يستطيع أن يدفع عن نفسه قدراً شاءه الله؛ لأن الأحداث ستنال من كل إنسان ما قدره الله له.

إذن: فكل إنسان هو مملوك لله.

وهكذا نجد الفرق بين أن يقول سبحانه: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ) (الناس: 1).

وان يقول: (مَلِكِ ٱلنَّاسِ) (الناس: 2).

و "الناس" في الآية الأولى هم المربوبون، والناس في الآية الثانية هم "المملوكون لله" فلا أحد يخرج عن قدرة الله في الأمور القهرية.

وتأتي "الناس" في الآية الثالثة: (إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ) (الناس: 3).

لتؤكد أن الحق هو الإله المعبود بحق، وهو الذي يقيك مما ستأتي به الآية الرابعة: (مِن شَرِّ ٱلْوَسْوَاسِ ٱلْخَنَّاسِ) (الناس: 4).

والآية الخامسة: (ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ) (الناس: 5).

والوسواس الخناس: هو الذي يزين لك أفعال الشر في أذنك، وهو خَنّاس؛ لأنه يخنس ساعة يسمع قولك: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" وهو يوسوس في صدور الناس المُوَسْوَسِ إليهم.

وهكذا نجد أن كلمة "الناس" قد جاءت؛ لتعبر عن المربوبين، والمملوكين، والمألوهين، والموسوس إليهم، وأن من يوسوِس قد يكون من الجن، وقد يكون من الناس.

إذن: فليس هناك تكرار بل جاءت الكلمة الواحدة بمعنى يناسب كل موضع جاءت فيه.

والمثال في حياتنا -ولله المثل الأعلى- قد أكون معلِّماً متميزاً واختارتني الكلية التي أقوم بالتدريس فيها لأكون رائداً للطلاب، ورئيساً لجمعيتهم الصحفية، ومشرفاً عليهم في الرحلات، ومراجعاً لتصحيح أوراق إجاباتهم، وهكذا تكون كلمة "الطلاب" لها معنى مختلف في كل موقع.

والحق يقول في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: (أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ) (يونس: 2).

والحديث موجه لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وهو الرسول الخاتم.

إذن: فالمراد بإنذار الناس هنا؛ هم جميع الناس.

وما المقصود بقوله: (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ) (يونس: 2).

إن القدم كما نعرفه: هو آلة السعي إلى الحركة، كما أن اليد آلة الإعطاء؛ فتقول: فلان له يد عندي، أو تقول: أنا لا أنسى أياديك عليّ حين يقدم لك صديق هدية ما، وهو قد سار على قدميه؛ ليحضر لك الهدية، ولكنه يناولك لها بيديه.

إذن: فكل جارحة لها ظاهر في الحركة؛ وفي الأعمال.

فالقدم تسعى إلى الأشياء، واليد تتحرك في العطاء، والأذن في السمع، والعين في الرؤية.

وهكذا يكون معنى (قَدَمَ صِدْقٍ) هو سابقة فضل؛ لأنهم حين استمعوا إلى منهج الله، وأدَّوْا مطلوبات هذا المنهج كما يحب الله؛ فعليك يا محمد ان تبشرهم بالجنة.

ذلك أن لهم سابق قدم، سعي إلى الخير، وهو قدم صدق.

لكن هل هناك ما يمكن أن نسميه "قدم كذب"؟

نعم، وهو ما يخلعه الأفاقون على تواريخ الناس، فيصفونهم بما لم يكن فيهم، وهكذا نفرق بين قدم الصدق وقدم الكذب.

قدم الصدق -إذن- هو سابقة في الفضل أهّلتهم لأن يكونوا موضع البشارة، فهم قد صدقوا المنهج، وأعطوا من واعد حق.

والصدق -كما نعلم- هو الخصلة التي لا يمكن لمؤمن أن يتنحى عنها؛ لأنه لو تنّحى عنها، فهذا يعني التنحّي عن الإيمان.

وحينما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أيكون المؤمن جباناً؟

فقال: نعم، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟

فقال: نعم، فقيل له: أيكون المؤمن كذاباً؟

فقال: لا.

إذن: فالصدق هو جماع الخير.

وعلى الصدق تدور الحركة النافعة في الكون.

وحين يصدق التاجر في ثمن الأشياء؛ ويصدق العامل في إخلاصه للعمل؛ ويصدق الصحفي في نقل الخبر، ويصدق كل فرد في المجتمع، هنا يتكامل المجتمع وينسجم؛ لأن الفساد في الكون إنما ينشأ من الكذب، والكذب هو الذي يخل بحركة الحياة.

لذلك أتى الله بكلمة الصدق في القرآن في أكثر من موضع، فهو القائل: (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) (يونس: 93).

فحين قالوا: (لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ) (البقرة: 61).

أنزلهم الله بمكان يحقق لهم ما طلبوا من طعام، فلم يخدعهم سبحانه، ويأتي الحق مرة ثانية بكلمة الصدق فيقول: (وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ) (الشعراء: 84).

أي: اجعل لي ذكْراً حسناً فيمن يأتون من بعدي، فلا يقال في تاريخي كلام كذب، وألا يخلع عليَّ الناس ما ليس فيّ.

وقد قال الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن الإنسان: (وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ) (الأحقاف: 15).

ثم يقول الحق سبحانه: (أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِيۤ أَصْحَابِ ٱلْجَنَّةِ وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ) (الأحقاف: 16).

ولماذا يصف الحق الوعد هنا بأنه وعد صدق؟

لأن هناك من يعد الوعد الكاذب، حين يعد أحدهم بما لا يملك، أو أن تعد بما لا تقدر عليه، أو أن تعد بما لا تمهلك الحياة لإنفاذه.

ولذلك قال الحق لنا: (وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ) (الكهف: 23-24).

إذن: لابد لك أن تسبق أي وعد بمشيئة الله؛ لأنك حين تَعد؛ قد لا تملك إنفاذ ما وعدت به، فقد تعد إنساناً بأن تلقاه في الغد في مكانٍ ما لتتحدثا في أمرٍ ما.

ونقول: أضمنت أن تستمر حياتك إلى الغد؟

هذا هو أول عنصر قد يُفقد؛ ثم أضمنت أن تستمر حياته؟

هذا هو العنصر الثاني الذي قد يُفقد، ثم أضمنت ألا يتغير السبب الذي من أجله تلقاه؟

ثم أضمنت إن اجتمعت كل هذه العناصر ألا تُغير أنت رأيك في هذه المسألة؟

إذن: لا تجازف بأن تعد بشيء ليس عندك عنصر من عناصر الوفاء له، وأسند كل عمل إلى من يملك كل العناصر، وقل: (إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ) (الكهف: 24).

إذن: فوعد الصدق معناه أن يكون الوعد ممن هو قادر على أن يحققه قطعاً؛ ولا تخرج الأشياء مهما كانت عن قدرته، ولم يترك الأشياء؛ لأنه باقٍ.

ولن يتغير رأيه؛ لأنه ليس حدثاً يتغير.

بل بيده كل شيء وهو على كل شيء قدير.

وسبحانه وتعالى يقول: (إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) (القمر: 54-55).

هكذا وعد الحق عباده المتقين بأنهم سوف يقعدون في حضرته مقعد صدق وهو المليك المقتدر.

وسبحانه يقول: (أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) (الإسراء: 80).

أي: أدخلني في هذه البلدة مدخل صدق للغاية التي لا أستحي من أن أقولها، لا أن أدخل بغرض أمام الناس وأنا أخفي غرضاً آخر، وكذلك أخرجني منها مخرج صدق.

إذن: فكلمة الصدق دائرة (قَدَمَ صِدْقٍ) و (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) و (مَقْعَدِ صِدْقٍ) و (مُدْخَلَ صِدْقٍ) و (مُخْرَجَ صِدْقٍ) وكل هذا يُحببنا في الصدق؛ لأن كل أمور الحياة؛ وفضائلها؛ وخيراتها، وما ينتظر الناس من سعادة؛ كل ذلك قائم على كلمة الصدق.

وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه: (وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ) (يونس: 2).

أي: أن لهم سابقة فَضْلٍ عند ربهم يجازيهم بها؛ لأنهم عملوا بمقتضى منهجه، أما موقف الكافرين فهو مختلف؛ لذلك يقول فيه الحق سبحانه: (قَالَ ٱلْكَافِرُونَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ) (يونس: 2).

ولماذا جاء سبحانه بخبر الكافرين هنا رغم أن الموقف هو إنذار وبشارة؟

ونقول: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين أبلغ المنهج عن الله، استقبله أهل الإيمان بالتصديق، أما الكافرون فقد اختلف موقفهم، فَاتَّهمَ بعضهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه ساحر.

وجاء قول الحق على هذه الصورة المبينة بالآية؛ لأن القرآن يحذف أشياء أحياناً، لأن لباقة السامع ستنتهي إليها، فلا يريد أن يكرر القول.

وانظر إلى قصة بلقيس، حيث نجد الهدهد يقول لسيدنا سليمان: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ) (النمل: 22).

هذا هو الهدهد وهو المخلوق الأقل من سليمان عليه السلام يقول له: لقد عرفت ما لم تعرفه أنت، وكأن هذا القول قد جاء؛ ليعلمنا حسن الأدب مع من هو دوننا، فهو يهب لمن دوننا ما يُعَلِّمُه لنا، ألم يُعلِّمنا الغراب كيف نواري سوأة الميت؟

(فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ) (المائدة: 31).

ويقول قابيل: (يَاوَيْلَتَىٰ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ) (المائدة: 31).

وهكذا يتعلم الإنسان ممن هو دونه، وممن سخره الله له.

وانظر كيف أبرز لنا الله أن الأدنى إن رأى خبراً، لابد أن يبلغه للأعلى، فتتحقق سيولة المعلومات، التي يتخذ الأعلى على ضوئها القرار المناسب؛ فالهدهد يقول لسيدنا سليمان: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) (النمل: 22).

ويتخذ سليمان قراراً ينفذه الهدهد: (ٱذْهَب بِّكِتَابِي هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَٱنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ) (النمل: 28).

وتتتابع الحكاية من بعد ذلك فيقول الحق: (قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ) (النمل: 29).

فكأن الهدهد أخذ الكتاب وألقاه إلى بلقيس فلما قرأته؛ جمعت قومها؛ لتخبرهم.

وهكذا حذف القرآن بعضاً من التفاصيل التي إن رُويت تكون تكراراً؛ ولكن جاءت المسألة بهذه الصورة؛ ليدلنا الحق على أن أوامر التلقي كانت سريعة بحيث لا يوجد فاصل بين الأمر وتنفيذ الأمر، فالتحم الأمران معاً.

إذن: فقوله الحق: (قَالَ ٱلْكَافِرُونَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ) (يونس: 2).

جاء منسجماً مع ما يُفهم من النص، فهم لم يقولوا ذلك الاتهام إلا بعد أن بلغهم -صلى الله عليه وسلم- أن الله قال له: بَشِّر وأنذر، فلما بشَّر وأنذر، جاء قولهم بأن الرسول ساحر، وهكذا نفهم كيف تكوَّن موقفهم هذا من سياق الآية؛ لأنهم لم يقولوا ذلك إلا بعد بلاغ الإنذار، أو بلاغ البشارة.

وهكذا نجد أن القرآن قد لا يذكر الأشياء التي إذا سمع السامع الأسلوب أخذها من نفسه دون أن يتطلبها كلام منطوق، ومثل هذا الأمر جاء في لقطة أخرى في قصة سبأ، فبعد أن ائتمر الهدهد بأمر سليمان وذهب بالكتاب فألقاه إلى ملكة سبأ، وقرأته، وجمعت القوم؛ لتأخذ رأيهم فيما تفعله مع سليمان، فكان من أمرها معهم ما ذكره القرآن ثم علم سيدنا سليمان بأمر مقدمها مع قومها، فنجد سيدنا سليمان عليه السلام يسأل من حوله: (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (النمل: 38).

إذن: فهو قد عَلِم أنهم مُقبلون عليه بالإسلام، فأراد أن ينقل العرش من مملكتها إلى مملكته؛ قبل أن يجيئوا، وما داموا قادمين في الطريق، فعلى من يذهب ليفك العرش وينقله، لابد أن تكون له طاقة تفوق قدرة الإنسان العادي، ولذلك لم يتكلم الإنس العادي، لكن الذي تكلم جني غير عادي، ذكي، فمن الجن من يتميز بالذكاء، ومنهم غير ذلك.

وجاء قول الحق سبحانه: (قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن ٱلْجِنِّ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) (النمل: 39).

ومقام سليمان مع قومه قد يستمر ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات.

وسيدنا سليمان يريد التعجيل بنقل عرش بلقيس، لذلك تجده يستمع إلى من عنده علم من الكتاب: (قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ ٱلْكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) (النمل: 40).

ألم يكن مثل هذا القول يحتاج إلى إذن من سيدنا سليمان، وأن يقول سليمان اذهب فيذهب ويحل العرش ويعود به؟

نعم، الأمر يحتاج كل ذلك، ولكن القرآن جاء بالقصة في تصوير متتابع للسرعة، وجاء القرآن بخبر العرش، وقد جاء إلى حيث يجلس سليمان عليه السلام: (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ) (النمل: 40).

وهكذا حذف التفاصيل التي يسهل معرفتها، والتي وقعت بين قول مَنْ عنده علم من الكتاب، وبين تنفيذ نقل عرش بلقيس.

وكذلك حذف القرآن قدراً من الأحداث في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، فعندما بلَّغهم رسول الله الإنذار، هنا قال الكافرون: (إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ) (يونس: 2).

وقد قال الكافرون هذا الاتهام أكثر من مرة، فمرة يقولون عن القرآن: إنه سحر، ومرة يقولون عن محمد: إنه ساحر.

ولنسأل: ما معنى كلمة ساحر؟

إن الساحر هو الذي يصنع أشياء، ويوهمك أنها حقيقة؛ وهي ليست بحقيقة.

ولذلك يجب أن نفرق بين السحر وبين معجزة موسى، حتى لا يقال: إن معجزة موسى عليه السلام وهي العصا كانت من جنس ما برع فيه سحرة فرعون، صحيح أنها من جنس ما برع فيه قوم فرعون، ولكنها ليست سحراً؛ لأن الحق شاء أن يُغير من حقيقة العصا فجعلها أفعى، أما سحر قوم فرعون فهو لا يغير حقيقة الأشياء، بل يوهم مَنْ يراها بأنها تغيرت.

والسحر يقتضي ساحراً، ويقتضي مسحوراً، ويقتضي عملية السحر ذاتها.

أما عن الساحر فهو الذات التي تقوم بعملية السحر.

ويقول الحق عن السحرة: (سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ) (الأعراف: 116).

أي: سحروا الأعين التي ترى الأمر المسحور على غير حقيقته، رغم بقاء الشيء المسحور على حقيقته.

إذن: فهم قد أوهموا المسحورين بغير واقع، لكن المعجزة -معجزة موسى- ليست كذلك؛ لأنها لا تُغير من الرائي، بل تغير من حقيقة المرئي فعلاً.

وقد دَلَّنَا القرآن على حقيقة هذه المسألة بالتجربة العملية حين اختار الله موسى وقال له: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ) (طه: 17-18).

وحين أمر الحق سبحانه موسى بإلقاء العصا، رآها موسى عليه السلام حيّةً تسعى: (قَالَ أَلْقِهَا يٰمُوسَىٰ * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ) (طه: 19-20).

فعندما رأى موسى عصاه، قد تحوَّلتْ إلى حية تسعى على الأرض، فرَّ هارباً خائفاً، ولكن الله أراد أن يثبّت قلبه ويؤمنه إعداداً له للموقف الذي سيقفه فيما بعد أمام سحرة فرعون فقال له رب العزة: (خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا ٱلأُولَىٰ) (طه: 21).

إذن: فلم يكن هناك سحر في عيني موسى، ولكن كان هناك تغيُّر فعليّ في حقيقة العصا.

فلما خاف طمأنه الحق سبحانه وأمره بأن يلتقط العصا؛ لأنها ستعود -بإذن الله- إلى سيرتها الأولى.

والدليل على أن التغير قد حدث في حقيقة العصا، أن السحرة الذين جمعهم فرعون من كل مكان، ووقفوا في منافسة مع سيدنا موسى، وقالوا له: (إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ) (طه: 65).

وقبل موسى عليه السلام التحدي، وتجد القرآن يصور المسألة فيقول: (قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ) (طه: 66).

وقوله: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) يعني: أن الحبال والعصي لم تتغير حقيقتها ولم تسعَ.

وما إن رمى موسى عصاه حتى تحولت إلى حية فعْليّة تلقف ما صنعوا، وهذا ما جعل السحرة يسجدون ويعلنون الإيمان؛ لأنهم رأوا حقيقة واضحة، وهي أن العصا قد تحولت بالفعل إلى حية.

إذن: فالساحر يرى الشيء على حقيقته، والمسحور هو الذي تتغير رؤيته إلى الشيء، فيُخيَّل إليه أنه شيء آخر؛ ولذلك لم يقل أحد: إن موسى تعلّم السحر، وإن من علّمه غلبهم، لا، بل عرفوا أنها مسألة أكبر من طاقة البشر؛ لأن حقيقة العصا نفسها قد تغيرت، فقالوا: (آمَنَّا بِرَبِّ هَٰرُونَ وَمُوسَىٰ) (طه: 70).

ولم يقولوا: آمنا بموسى.

إذن: فالتخييل إنما يحدث في عيني المسحور.

أقول ذلك حتى نفهم غباء كفار قريش حين اتهموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه ساحر، يسحر الناس، فيخرج الولد على أبيه، وأهله.

ويجعل العبيد يتمردون على سادتهم.

ولو كان رسول الله ساحراً، فلماذا لم يُسحَر من قالوا هذا الاتهام.

وبقاء من يقول بمثل هذا الاتهام دليل على أن مسألة الإيمان بالمنهج وبالرسول لا علاقة لها بالسحر.



سورة يونس الآيات من 001-005 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49191
العمر : 72

سورة يونس الآيات من 001-005 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة يونس الآيات من 001-005   سورة يونس الآيات من 001-005 Emptyالسبت 21 سبتمبر 2019, 10:32 pm

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٣)
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

ومن بعد ذلك يرد الحق على حكاية العجب من أن الله أوحى لرسوله، وكذلك مسألة اتهام الرسول بالسحر، فيلفتهم إلى قضية فوق هذه القضية، وأنهم كان عليهم أن يروا العجب في غير مسألة الوحي إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

أي: كان عليكم أن تروا هذه المسألة العجيبة، وهي خلق السماوات والأرض وتتأملوا صنعها، وكيف حدثت؟

وإذا كان الله هو الذي خلق السماوات والأرض، وجعلك أيها الإنسان تطرأ على عالم، وعلى كون معدّ لك إعداداً دقيقاً، فكان يجب أن تلتفت إلى هذه المسألة قبل أي شيء آخر.

وضربنا من قبل المثل، وقلنا: هَبْ أن إنساناً ركب طائرة، ثم نفد وقودها وسقطت في الصحراء، وكُتبت له النجاة وتلفَّت حوله فلم يجد ماء أو طعاماً أو أي دليل من أدلة الحياة، ثم غلبه النوم، فلما استيقظ من نومه، وجد مائدة عليها من أطايب الطعام، وأطايب الشراب، أما كان يسأل نفسه قبل أن يأكل ويشرب: من الذي صنع وأحضر كل هذا الطعام، وكل هذا الشراب؟

وهذا الكون قد أعدَّ لك أيها الإنسان، أما كان يصح أن تفكر فيمن أعدَّ لك هذا الكون، وخلق لك كل ما ليس في متناول قدرتك، وسخّر كل ذلك لك؟

وقد أبلغك الحق: أنا خلقت السماء، وخلقت الأرض، والشمس، والنجوم، وحين وصلك هذا البلاغ، فإما أن يكون صدقاً، فلتنفذ ما أمر به الخالق.

وإن لم يكن هذا الكلام صدقاً، فمن الذي خلق إذن؟

إن كان هناك إله غيره قد خلق الكون، وسمع مثل هذا البلاغ، ولم يتحرك لبيان صدق المسألة، لما كان هذا الآخر يستحق أن يكون إلهاً.

وما دام لم يظهر معارض له سبحانه، فهو الخالق؛ لأن الدعوى إذا ما صدرت من واحد، ولم يظهر لها معارض، فصاحبها هو من أصدرها إلى أن يوجد له معارض.

وقد ضربنا مثلاً، فقلنا: هَبْ أن جماعة من أصدقائك جاءوا لزيارتك، ثم خرجوا من عندك، ووجدت أنت حافظة نقود، ولم تعرف لمن هي، ثم بعثت بخادمك؛ ليسأل من كانوا في زيارتك، وقال كل واحد منهم: إن حافظة نقوده لم تضع منه، إلا واحداً قال: نعم، هي حافظة نقودي.

وهكذا تثبت ملكية هذا القائل لحافظة النقود، إلى أن يثبت العكس.

والحال هنا هكذا، فحين أبلغنا الحق أنه خلق السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم وجعل في الأرض رزق البشر، ولم يعارضه أحد، إذن: يجب أن نصدق أنه الخالق.

وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد خلق لكم كل هذا الكون مُسخَّراً أفلا تتركون له حرية أن يختار رسولاً منكم إليكم؟

فما وجه الاعتراض إذن؟

يكشف الحق منطقهم حين قالوا: (لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (الزخرف: 31).       

إذن: هم قد اعترفوا أن القرآن لا غبار عليه، لكنهم ساخطون ويعيشون في ضيق؛ لأن هذا القرآن قد جاء على يد يتيم أبي طالب.

ويكشفهم الحق أيضاً فيأتي بما جاء على ألسنتهم: (ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ) (الأنفال: 32).       

ولم يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا.

فالعداوة هي لرسول الله، وهي عداوة حاقدة غير منطقية؛ لأن كل واحد منكم كان إذا ملك شيئاً نفيساً عزيزاً عليه، فهو لا يجد أميناً عليه إلا محمداً.

إذن: فلماذا لا تغشون أنفسكم في مسألة استئمان محمد على الأشياء النفيسة، ولو كنتم غير مؤمنين بصدقه.

فلماذا استأمنتموه على نفائسكم؟

أليس هو محمد بن عبد الله الذي هاجر وترك عليَّ بن أبي طالب؛ ليرد الأمانات لأصحابها؟

إذن: فلا محمد دون مستوى الرسالة والأمانة، ولا القرآن دون المستوى، بشهادتكم أنتم؛ بشهادتي القول والفعل.

وهنا يقول الحق: (إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) (يونس: 3).       

وفي موقع آخر بالقرآن يقول سبحانه: (لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) (غافر: 57).       

وما دام هذا الخلق العجيب قد صدر منه، فالتصرفات التي دون ذلك لابد أن تكون مقبولة منه سبحانه وتعالى، وأن تكون لحكمة ما.

وتعالوا نتحاكم إلى أنفسكم، أنتم تقولون: (لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (الزخرف: 31).       

إذن: لا شك عندكم في أن القرآن لا طَعْنَ فيه، بل تطعنون في مسألة أنه جاء على يد محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتمنيتم لو أن القرآن قد جاء على يد واحد آخر تقبلونه.

وأنتم في هذه المسألة غير منطقيين؛ لأنكم تريدون أن تتدخلوا في قسمة الله ورحمته في أن يُنزِل الوحي على من تشاءون، لا من يشاء هو سبحانه وأنتم بذلك تريدون أن تتحكموا في الرحمة العليا من الله في أن يختار رسولا.

ليبلغكم عنه.

وتتناسون أنكم في هذه الدنيا لا تقسمون الأرزاق؛ لذلك يقول الحق: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) (الزخرف: 32).       

فإذا كنتم تريدون أن تقسموا رحمة الله، فاعلموا هذا القول من الله: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا) (الزخرف: 32).       

وهذا الأمر السهل؛ تقسيم المعيشة في الحياة الدنيا تصرف فيه الحق سبحانه، فكيف لكم -إذن- أن تطمعوا في تقسيم الأمر العلوي وهو رحمة الله العليا في أن يرسل رسولاً.

والحق سبحانه يقول في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: (إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ).

وساعة تسمع كلمة "رب" ينصرف الذهن إلى الخلق وإلى التربية، ولذلك نحن نستعمل هذه الكلمة ونقول: "فلان رب هذه الأسرة" أي: أنه المتولي تربيتها، وكلمة "الرب" بمعناها المطلق تنصرف إلى الله، فهو الخالق الذي خلق من عَدَم وأمدَّ من عُدْمٍ، وهو بهذا الوصف ربّ لكل خلقه: المؤمن والكافر، والطائع والعاصي.

وما دام الله سبحانه ربّاً لكل الخلق، فهو الرازق لكل خلقه، فهو الذي استدعى خلقه إلى هذه الدنيا، وهو الذي يعطي كل مخلوق الرزق الذي كتبه الله له، وهو سبحانه يأمر نواميس الكون وأسبابه أن تعطى له أو لا تعطى، فإن زرع الأرض وأحسن زراعتها؛ أعطى سبحانه الأمر للأرض أن تعطي هذا المخلوق الرزق.

وكل مخلوق يأخذ بالأسباب، يوفر له الحق النجاح في الأسباب.

وأقول دائماً لمن يرون تقدم الكفار في أمور الدنيا، ويتساءلون: لماذا يتقدم الكفار في أمور الدنيا ونتأخر نحن؟

أقول لهم: لقد أخذوا من عطاء الربوبية في الأسباب، وأنتم لم تأخذوا من عطاء الربوبية.

وعليكم أيها المسلمون أن تأخذوا بالأسباب، وهي عطاء الربوبية؛ حتى لا يسبقكم الكافرون إليها، ولا تجلسوا في موقع المتفرج، بل المفروض فيكم أن تسبقوا الكفار إلى عطاء الربوبية.

أما عطاء الألوهية، وهو أن يُقِرَّ الإنسان بأن الله هو المعبود بحق، وهو المطاع في "افعل" و "لا تفعل"، فهذا العطاء لا يناله إلا مَنْ آمن به.

إذن: فالله رب الجميع، ولكنه إله مَنْ آمن به.

إذن: هناك فارق بين عطاء الإله، وهو المنهج المتمثل في "افعل" و"لا تفعل"، وعطاء الربوبية المتمثل في الأمور المادية وهي شركة بين كل الناس: المؤمن والكافر، والطائع والعاصي.

وحين يُحسن الكافرُ الأخذ بالأسباب؛ فهو يأخذ نتائجها.

والحق سبحانه هو القائل: (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) (الشورى: 20).       

إذن: فواجب على المؤمنين أن يستقبلوا عطاء الربوبية بحسن الأخذ بالأسباب؛ ليأخذوا النتيجة، ولا يتقدم أهل الكفر عليهم؛ لأن الكافر حين يسبقك في الأخذ بالأسباب، ربما استغل هذه المسألة في أن يفرض عليك ما يخالف دينك.

وهنا يقول سبحانه: (إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ) (يونس: 3).       

أي: أن الذي ربَّى، هو الذي كلَّف، ويجب أن تستمعواإلى منهجه.

ثم يقول سبحانه: (ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) (يونس: 3).       

وكلمة (سِتَّةِ أَيَّامٍ) هذه وردت في كل آيات القرآن التي تحدثت عن زمن مدة الخلق للأرض والسماوات، لكن هناك آية جاءت بتفصيل ويظهر من أسلوبها أن الخلق قد استغرق ثمانية أيام، وهي في سورة فصلت: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ) (فصلت: 9-10).       

وهذه ستة أيام.

ثم يقول سبحانه: (ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ) (فصلت: 11-12).       

وهكذا يكون المجموع ثمانية أيام، وهذا هو الفهم السطحي؛ لأن آيات الإجمال جاءت كلها بخبر الخلق في ستة أيام.

وتعلم أن كل مُجمل يفسره مُفصَّله إلا العدد؛ فإن مفصَّله محمول على مجمله، فالأرض خلقها الله في يومين، وجعل فيها رواسي، وبارك فيها، وكل مخلوق ثان هو تَتمَّة للأول، فاليومان الأولان إنما يدخلان في الأربعة الأيام، وأخذت بقية الخلق اليومين الأخيرين، فصار المجموع ستة أيام.

إذن: فالزمن تتمة الزمن، ولذلك تجد أن اليوم على كوكب الزهرة أطول من عامها؛ لأن عامها بتوقيت الأرض هو مائتان وخمسة وعشرون يوماً، أما طول اليوم فيها فهو بتوقيت الأرض مائتان وأربعة وأربعون يوماً.

إذن: فاليوم على كوكب الزهرة أطول من العام فيها.

والسر في ذلك أن كوكب الزهرة يخضع لدورة تختلف في سرعتها عن سرعة الدورة التي تخضع لها الأرض، فدورة كوكب الزهرة حول نفسه بطيئة، ودورته حول الشمس سريعة.

إذن: فكل كائن له نظام.

وما هو اليوم إذن؟

اليوم في اعتبارنا هو دورة الأرض حول نفسها دورة يتحقق فيها الليل والنهار.

ولكننا نجد القرآن الكريم يطلق كلمة اليوم ويفصلها عن الليل، فيقول سبحانه: (سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً) (سبأ: 18).       

وهنا جعل الحق اليوم للضوء والكدح، والليل للظُّلمة والراحة.

والحساب الفلكي يسمى الليل والنهار يوماً.

ويبين القرآن لنا أن هناك يوماً للدنيا، ويوماً للآخرة، ويوم الدنيا هو ما نحسبه نحن من شروق إلى شروق آخر، وكذلك هناك يوم عند الله هو بحساب الدنيا يقدر بألف سنة مما يحسبه البشر: (وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ) (الحج: 47).       

ويقول الحق في موضع آخر: (تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (المعارج: 4).       

إذن: فالأزمنة متعددة، ومنوعة، وتختلف من قياس إلى آخر، ومن كوكب إلى آخر.

وما أظهره الله لنا في القرآن من الأزمنة إنما يدل على اختلافها، لا على التعارض والتناقض.

ثم يقول الحق سبحانه في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: (ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ) ووقف العلماء عند كلمة "اسْتَوَى" طويلاً، واستعرضوا القرآن كله؛ ليحصروها في كتاب الله؛ فوجدوها قد جاءت في اثنتي عشرة سورة: البقرة والأعراف ويونس والرعد وطه والفرقان والقصص والسجدة وفصلت والفتح والنجم والحديد.

وأول سورة جاء فيها ذكر استواء الله على العرش هي "الأعراف" يقول الحق: (ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ) (الأعراف: 54).       

وما دام الله سبحانه هو الذي خلق فلا تعترض أن يكون الأمر له، وأن يبعث سبحانه من شاء؛ ليكون رسولا.

لذلك فلا عجب أن أرسل لكم رجلاً منكم؛ لأنه لو كان هناك غيره سبحانه هو الذي خلق، ثم جاء ليفتئت فيأمر فيما خلق، لكان للخلق شأن آخر، لكن الله هو الذي خلق، وهو سبحانه الذي أرسل الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

والآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول فيها الحق: (إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ)، أي: استتب له الأمر.

ثم تأتي آية سورة الرعد: (ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (الرعد: 2).       

أما الصفات التي توجد في البشر، ووصف الله نفسه بها، هذه الصفات لا تؤخذ على مقتضى ما هي في البشر، فكل إنسان هو ممكن الوجود.

ولكن الحق سبحانه وتعالى هو واجب الوجود؛ لذلك تؤخذ تلك الصفات في إطار (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: 11).       

ومثال هذا: أن الحق سبحانه وتعالى له عِلْم بأنك تقرأ الآن في التفسير، وفي أي مكان تقرأه، والذين من حولك يعلمون ذلك، ولكنْ أعلْمُ الله يساوي علمَك وعلمَ مَنْ حولك؟

لا، فعلمه سبحانه وتعالى هو عِلْم أزليّ، عِلْم قبل أن توجد أنت أو يوجد غيرك؛ لذلك فأنت إذا عَلمت شيئاً، وعَلمَ الله شيئاً، فعِلْم الله يناسبه، وعلْم البشر يناسبك.

وأيُّ صفة من صفات الله مطلقة، وأيُّ صفة من صفاتك نسبية؛ لأن الحق سبحانه هو واجب الوجود الأزلي، وأنت في هذه الحياة مجرد حدثٍ محدود العمر بين قوى الميلاد والموت.

فالله غني، وقد تكون أنت غنيّاً، لكن غناك لا يمكن أن يتساوى مع غنى الله.

وأنت موجود والله موجود، ولكن وجودك لا يمكن أن يُقَاس بوجود الله.

فذاتُ الله ليست كذواتنا، وكذلك صفات الله ليست كصفاتنا، وفعْله ليس كفعْلنا، واستواؤه سبحانه ليس كاستوائنا، بل في إطار (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) لأن الذي يُفْسِد الفهم أن يقال: "استوى" بمعنى: قعد.

أو فلنأخذ الاستواء كتمثيل للسيطرة، وسبحانه مسيطر على كل شيء، والاستواء: يعني التمكن.

وسبحانه القائل: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَٱسْتَوَىٰ) (القصص: 14).       

إذن: فاستوى: تعني بلوغ تكوين الكمال في الذات.

والإنسان منا وهو صغير -قبل البلوغ- إنما تنقصه بعض من درجات النضج في الجهاز العصبي، وكذلك في الجهاز التناسلي، فإذا ما بلغ اكتمل النضج، ويقال: (اَسْتَوَى) أي: صار قادراً على إنجاب مثله، وتمت له رجولته.

ويقال عن الثمرة: إنها استوت (فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ) (الفتح: 29).       

أي: نضجت نُضْجاً يبلغها أن تعطي من ثمرتها مثل ذاتها، وبذلك تضمن بقاء نوعها.

وحين بلغ الطوفان تمامه استوت مركب سيدنا نوح ومعه المؤمنون من قومه، وقال الحق: (وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ) (هود: 44).       

أي: استقرت على الجبل واستتب الأمر.

إذن: فكل استواء لله يجب أن يؤخذ على أنه استواء يليق بذاته، وصفاته، التي قد يوجد في البشر مثلها، لكنها صفات مطلقة في إطار: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: 11).       

وفِعْل الله لا يمكن أن يتساوى مع فعل البشر؛ ولذلك قلنا في حديث الإسراء: إن الكفار المعاصرين للإسراء حينما كذَّبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في أنه قد أسري به، قالوا: أتدَّعي أنك أتيتَ بيت المقدس في ليلة، ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً؟

وهذا القول المستنكر يؤكد أنهم قد فهموا أن الإسراء قد حدث حقيقة.

ورغم ذلك تجد بعض المعاصرين -الذين يدعون المعاصرة والفهم- يتساءلون: ولماذا لا تقولون: إن الإسراء قد تَمَّ بالروح؟

ونقول لهم: إن كفار قريش أنفسهم الذين عاصروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يقولوا ذلك، وفهموا أن الإسراء قد تمَّ بالجسد؛ لذلك قالوا: "أنضرب إليها أكباد الإبل شهراً، وتدَّعي أنك أتيتها في ليلة؟“

بل، ولم يقولوا له: إنه رأى بيت المقدس في رؤيا أو حُلْم؛ لأنه لا أحد يُكذِّب رؤيا أو حُلْماً، وهكذا كان تكذيبهم دليلاً على التصديق للإسراء إلى أن تقوم الساعة.

ونقول لمن يدَّعي أن الإسراء إنما تَمَّ بالروح: افهم جيّداً أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أسري بي".

إذن: فعْل الإسراء منسوب لله، فلا تأخذ الإسراء بالقانون البشري، ولكن بالقانون الإلهي.

والزمن في مسألة الإسراء منسوب لله، لا لمحمد -صلى الله عليه وسلم-.

والقرآن يقول: (سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً) (الإسراء: 1).       

وما دام الحق قد قال: (سُبْحَانَ) أي: أن الله مُنَزَّهٌ عَمَّا في بال البشر من المسافات والقوة وغيرها.

ولقد ضربنا مثلاً لهذا -ولله المثل الأعلى- برجل يصعد بابنه الرضيع قمة جبل "إفرست"، فلا يقال: وهل يصعد الرضيع قمة الجبل؟

فالصعود منسوب هنا للرجل، ولقدرة الرجل وقوته، لا إلى الطفل.

وهكذا -ولله المثل الأعلى- فالزمن والقدرة على الإسراء منسوبان لله سبحانه، لا إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-.

ونحن في مجالنا البشرى تختلف قدراتنا في قطع المسافات وأزمانها، فمن يركب عربة يجرُّها حصان فقد يصل من القاهرة إلى الإسكندرية في أيام، ومَنْ يركب سيارة فقد يصلها في ساعتين.

ومَنْ يركب طائرة فقد يصلها في نصف ساعة.

إذن: فكلما زادت القوة تجد الزمن يقل، فما بالنا بقوة القويِّ؛ أيكون معها زمن؟

طبعاً لا.

وقال الحق سبحانه لسيدنا نوح: (فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ٱلْفُلْكِ) (المؤمنون: 28).       

أي: بعد أن ركب معك يا نوح مَنْ آمن من قومك، واطمأننت على نجاتهم، ستسير السفينة بإذن ربها.

إذن: فقول الحق عن ذاته: (ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ) (يونس: 3).       

يعني: أن الأمور قد استتبت وتمت.

وهكذا نفهم أن كل شيء يتعلق بالحق سبحانه وتعالى نأخذه في إطار: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: 11).       

وأن كل صفة من صفاته يأتي تمثيلها ليقرب المعنى فقط ولا يعطى حقيقة المعنى؛ لأنه سبحانه ليس كمثله شيء.

وهكذا فسبحانه له استواء يليق بذاته، لا كاستواء البشر.

والشاعر أبو تمام حين جاء ليمدح الخليفة المعتصم، نظر إلى الصفات التي اشتهر بها بعض القوم، "فحاتم" على سبيل المثال كان قمة الكرم.

و"عنترة" هو قمة الشجاعة، "والأحنف بن قيس" قمة الحكمة.

فقال الشاعر أبو تمام عن الخليفة:
إقْدَامُ عَمْروٍ في سَمَاحةِ حاتمٍ في حِلْمِ أحْنَفَ في ذكاء إيَاسِ

وهكذا صار الخليفة مَجْمع فضائل؛ لأنه أخذ إقدام عمرو، وكرم حاتم، وحلم الأحنف، وذكاء إياس.

ولكن حاسد الشاعر قال: إن الأمير فوق كل من وَصَفْتَ، فهؤلاء جميعاً بالنسبة للخليفة صغار.

وقال أحد الشعراء:
وشبهه المدَّاح في البأس والنَّدى بمَنْ لو رَآهُ كان أصغَر خادِمِ
ففي جَيْشِه خَمسُــون ألْفــاً كَعنْــترٍ وَفي خَزَائِنه ألفُ ألفِ حاتمِ

وحين سمع الشاعر الأول ذلك، وكانت قصيدته الأولى "سينية"، أي: أن آخر حرف في كل أبياتها هو حرف السين.

فجاء بأبيات أخرى من نفس بحر القصيدة الأولى: وقال:
لا تُنْكِروا ضَرْبي له مَنْ دُونهُ مَثلاً شَروداً في النَّدَى والباسِ
فالله قَــدْ ضَــرَبَ الأقَــلَّ لنــورهِ مثلاً مـن المِشْكَاةِ والنِّبراسِ

إذن: فهناك فَرْق بين تمثيل الشيء، وبين حقيقة الشيء، فحين قال الحق: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ) (النور: 35).

فهذا مثل توضيحي للبشر.

وشاء الحق ذلك ليعطينا مجرد صورة؛ لأنه يتكلم عن أشياء لا وجود لها عندك.

ولذلك نجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول عن الجنة: "فيها ما لا عَينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعتْ، ولا خَطَر على قلبِ بَشَر".

وأنت حين ترى؛ فللرؤية حدود.

وحين تسمع فأنت تسمع مرائي غيرك، وما لا يخطر على البال هو القمة، فقد ارتقى الرسول في وصفه للجنة من حدود ما تراه العين إلى آفاق ما تسمعه الأذن، ثم ارتقى من حدود السمع إلى ما لا يخطر على البال؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- علم أن اللغة هي ألفاظ تعبر عن معان، والمعاني توجد أولاً ثم نأتي لها بالألفاظ؛ ولذلك فالأمثال لمجرد التوضيح باللغة.

وهكذا نكون قد استوفينا فهم قوله الحق: (ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ) بما يليق بذات الله، فلا نأخذ الاستواء على المعنى الذي يدل على مكان محيّز؛ لأنه سبحانه مُنَزَّه عن أن يكون متحيزاً في مكان؛ فذاته سبحانه ليست كالذوات، وفعله ليس كالأفعال، وصفاته ليست كالصفات.

ثم يقول بعد ذلك: (يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ) أي: أنه يرتب الوجود ترتيباً يجعل كل شيء موضوعاً في مكانه بحكمة.

والحق سبحانه وتعالى له صفة علم، وصفة إرادة، وصفة قدرة، وصفة العلم هي التي تضع كل شيء في مكانه بحكمة.

وصفة الإرادة هي التي تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه.

وصفة القدرة تبرز المراد لله.

إذن: فهناك علم، وهناك إرادة، وهناك قدرة تبرز المراد على وفق العلم.

ومن المنطقي أن يدبر الله كل أمر؛ لأنه سبحانه هو الذي خلق السماوات وخلق الأرض.

واستوت له الأمور بحيث لم يعد هناك خلق جديد إلا ما يبرزه بـ "كن".

وهو سبحانه بعد أن خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان وسخَّر له السماوات والأرض؛ لذلك لابد أن يدبر سبحانه للإنسان أمور مادياته، وأمور قيمه.

أما أمور الماديات فقد ظهرت في خلق السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والماء والهواء.

وما في الأرض من عناصر تنبت للإنسان ما يحتاج إليه في قوام حياته، وهو سبحانه الذي خلق كل ذلك قبل أن يخلق الإنسان، ثم جاء بالإنسان ليكون الخليفة والسيد.

إذن: فالإنسان هو الذي طرأ على هذه الأمور المادية، وكان لابد أن يُنزِلَ الحق سبحانه قيماً يحيا بها الإنسان كخليفة في هذه الأمور المادية.

وهكذا خلق الله القيم المعنوية، فلا تقولوا: لماذا أرسل رسولاً لا يُحسب في نظر بعض الناس من عظماء أقوامهم، ولا تقولوا لماذا أرسل محمداً بالتحديد؛ لأن هذا الإرسال هو من ضمن تدبير الأمور، و (ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (الأنعام: 124).       

إذن: فقوله: (يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ) جاء ليؤكد نَفْي التعجب من أن يكون الوحي لمحمد -صلى الله عليه وسلم-: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ) (يونس: 2).       

وعلتها أن الله هو ربكم وهو الذي خلق، ولا يجادل أحدٌ الله فيما خلق، وفيمن خلق.

وإذا كان هو سبحانه الذي خلق الإنسان والكون، فلابد أن ينظم حركة الوجود بين الإنسان والكون؛ لذلك اختار الرسول المناسب؛ ليحمل منهج القيم للإنسان في "افعل كذا" و"لا تفعل كذا".

ثم ترك الحق للإنسان أموراً لا يقول له فيها: افعلها أو لا تفعلها، فهي من المباحات.

وإذا استقرأت الأفعال والأحداث، ستجد أن الذي قال الله فيه "افعل" قليل، والذي قال الله فيه "لا تفعل" قليل.

وبذلك تجد المباحات أكثر من "افعل" وأكثر من "لا تفعل".

وما دام سبحانه هو الذي شاء ذلك، وترك لك أيها الإنسانُ الكثير من الأمور المباحة، فاترك القيم لله؛ لأن الكون المادي المخلوق لله في غاية الدقة وفي غاية النظام، ولم تمتنع الشمس أن تشرق أو تعطي ضوءها وحرارتها للناس، وما امتنع القمر أن يعطي نوره، وما امتنع السحاب أن يسقط مطراً مدراراً، وما امتنعت الأرض أن تتفاعل مع أي غَرْس تغرسه فتعطيك الغذاء، وكل شيء داخل في نطاق القدرة في النواميس العليا؛ مُحكم؛ ولا خلل فيه.

وإذا نظرتم إلى غير ذلك وجدتم الخلل قد حدث؛ لأن الشيء الذي لا تدخل فيه قدرة الإنسان وإرادته هو على أتم ما يكون من النظام، ولا يفسد إلا الشيء الذي للإنسان فيه عمل واختيار، ولا يعني ذلك أن كل أعمال الإنسان تعاني من الخلل، لكن الأعمال التي تعاني من الخلل هي الأعمال التي يُقبل عليها الإنسان دون منهج الله.

ولو اخترنا البدائل على ضوء منهج الله، لاستقامت القيم كلها، كما استقامت لنا نواميس الكون العليا.

فإذا رأيتم فساداً فلوموا أنفسكم؛ لأن الأمر الذي لا تتناولونه بأيديكم ولا دخل لكم فيه، يعمل غاية في الدقة، فإن أردتم أن تعمل أموركم الاختيارية بغاية الدقة؛ فخذوا منهج الله في الأفعال، ولا تفسدوها أنتم بأن تختاروا البدائل على غير مرادات الله.

ولذلك أقول دائماً: إنك إذا ما رأيت عورةً في الوجود، يتعب منها المجتمع، فاعلم أن حدّاً من حدود الله قد عُطِّل.

وإن وجدت أمة متخلفة، فاعلم أنها عطلت حدود الله، وإن وجدت أمة تعاني من أمراض اجتماعية جسيمة، فاعلم أنها لا تطبق منهج الله.

ويخطئ مَنْ يقصر فَهْمَ عبادة الله على أنها الانقطاع في المسجد، أو الصوم، أو إخراج الزكاة في ميعادها، أو الذهاب إلى الحج، فكل هذه هي رؤوس الإسلام تشحن العبد ليعمل وَفْق منهج الله، فالصلاة هي إعلان الولاء لله خمس مرات في اليوم، ومدة الصيام شهر كل عام، والزكاة إنما هي من فائض المال، والحج هو تَرْكٌ للمال والأهل والولد.

كل ذلك من أجل شحن الطاقة، فإذا ما شحنت الطاقة، فوجِّه الطاقة إلى عمل آخر.

ولنأخذ الصلاة مثلاً: فأنت تحتاج إلى طاقة تُقيمك وتُقعدك وتستبقي حياتك؛ وقوة حركتك تحتاج كل ذلك لتصلي! إذن: فأنت تحتاج إلى طعام، ولن تُطْعم ما لم يَكُنْ لك عمل يتيح لك شراء الطعام، وحتى يبيع لك التاجر الخضر واللحم، والفاكهة والخبز، هو يحتاج إلى مَنْ ينتج ذلك، ومَنْ ينتج الأطعمة يحتاج إلى مَنْ يدرس طبيعة الأرض والبذور ومعرفة الأوقات، وكل هذه الأمور تحتاج إلى أجهزة منظمة لإنتاج الطعام.

فمن يزرع يحتاج إلى محاريث تحرث، وهذا يستلزم وجود الحديد وآخرين ليصهروه ويستخرجوا منه ما يصلح لصناعة المحاريث.



سورة يونس الآيات من 001-005 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49191
العمر : 72

سورة يونس الآيات من 001-005 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة يونس الآيات من 001-005   سورة يونس الآيات من 001-005 Emptyالسبت 21 سبتمبر 2019, 10:34 pm

تابع تفسر الآية (3)

إذن: فقيامك إلى الصلاة يحتاج إلى كل هذه الأعمال.

وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

وهكذا تجد أن كل الأعمال التي تُسهِّل لك العبادة هي أعمال واجبة.

والمثال: أنك حين تصلي تحتاج إلى سَتْر عورتك؛ لذلك تشتري القماش ليُفصِّل لك الخائط ما ترتديه من ملابس، وكل هذه الأعمال التي تنتج القماش وتصنع الثياب هي أعمال واجبة، بدءاً من زراعة القطن أو الكتان أو التيل وغيرها إلى المغازل ومصانع النسيج، وغير ذلك.

وهكذا تجد أن كل الأعمال التي يتم الواجب بها هي أعمال واجبة، فَسَتْر العورة أمر شرعي، وهكذا يتسع مفهوم العبادة ليكون معناها: كل حركة تؤدي إلى إبقاء الصالح على صلاحه وزيادة الصالح إلى ما هو أصلح.

والمثال الذي أضربه دائماً: هو حاجة الإنسان إلى الماء للشرب، والغُسْل من الجنابة وطهو الطعام وغير ذلك، وكان الإنسان قديماً يشرب من الآبار، ثم تطور التفكير إلى إقامة شبكات لتوزيع المياه بعد تنقيتها، كل هذه أعمال تُزِيد الأمر الصالح صلاحاً؛ لأنك أخذت الماء من المطر الذي ملأ النهر، وأعليْتَ الماء في خزانات لتنقيته، ثم اكتشفت قوانين الاستطراق ومضخات المياه؛ ليصل الماء الطاهر إلى كل من يحتاجه.

وهكذا تزيد الصالح صلاحاً بالتفكير واستخدام العلم بما يفيد الإنسان، إذن: فهذا عمل عبادي ما دامت النية فيه لله.

وانظر إلى يوم السوق في أي قرية، تجد من يدخله ومعه الماشية والأنعام التي يرغب في بيعها، وتجد مَنْ يدخل بالفواكه والأطعمة، ومَنْ يدخل ومعه الثياب أو أدوات المنزل، وتجد من يدخل ليس معه شيء، وبعد انتهاء السوق تجد كل إنسان قد خرج بما يحتاج، لا بما دخل لبيعه.

وهكذا ألقى الله الخواطر في قلب وتفكير إنسان ما ليبيع ما لا يحتاجه، وآخر ليشتري ما يحتاجه من إنتاج غيره.

وأنت إذا نظرت إلى قرية ما، ستجد واحداً من أعيانها يرغب في بيع أرضه وقصره، ويرغب في الرحيل إلى بلدة أخرى، وهكذا ترى الميزان الاقتصادي الإلهي، الذي يوزع العباد في الأماكن التي تليق بكل واحد منهم، فإذا ما زاد واحد عن الحاجة في مكان، فهو يرحل إلى مكان آخر يحتاجه.

وهذا هو التدبير الإلهي على أحسن ما يكون.

وقد تجد -مثلاً- الطفل يكتب بيده اليسرى، على عكس أقرانه، وقد تضربه على ذلك، فيعجز عن الكتابة باليمنى وباليسرى، وحين يقول لك الطبيب: لقد شاء الله أن يجعل ابنك موهوباً في الخط الجميل، وهو يكتب بيده اليسرى، فأنت تتعجب، وتكتشف بالفعل أن خط الطفل باليد اليسرى جميل.

وأقول دائماً لمن يشكون أن بعضاً من أولادهم يكتبون باليد اليسرى أو يأكلون باليد اليسرى، أقول لهم: إن هذه مسألة تتعلق بالجهاز العصبي للإنسان، فهناك من خلقه الله ليَعْملَ باليد اليمنى، وهناك من خلقه الله ليعمل باليد اليسرى، وهناك من خلقه الله ليعمل بيديه الاثنتين، مثل سيدنا عمر -رضي الله عنه- وكان "أضبط" أي: يعمل بيديه الاثنتين.

وعلينا أن نحترم أقدار الله فيما خلق ومَنْ خلق.

فسبحانه يخلق ما يريد، لا وَفْق قوالب، بل يخلق ما يشاء، ومع كل خَلْق مراد معين.

وكما أحسن الحق تدبير ما ليس لكم دَخْلٌ فيه، فاعلموا أنه قد أنزل المنهج لِيُحسِّن مما لكم فيه دَخْلٌ، ويجعل أموركم منتظمة، وكل ذلك يدخل ضِمْنَ تدبير الأمر.

وأنت إذا نظرت إلى معنى كلمة "أمر" تجد أنها كل شيء ينشأ، ولماذا عدل سبحانه عن قول: "شيء" إلى قول: "أمر"؛ لأن كل شيء لا يوجد في الوجود إلا بـ "كن" وهي أمر.

وسبحانه القائل: (إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) (يس: 82).       

وسبحانه يدبر الأمر في السنن المادية التي لا تتناولها يد الإنسان، فإن أراد الإنسان أن يضبط أمور حياته، فليأخذ بالمنهج الذي أنزله الله بـ "افعل" و"لا تفعل"، وأما المباحات فهي كثيرة، والإنسان حرٌّ فيها.

وإذا ما سأل سائل: ولماذا اتَّبِع المنهج؟

أقول: إن الحق شاء أن يخلق الإنسان على هيئتين: هيئة إرغامية قهرية، وهيئة اختيارية، فأنت أيها الإنسان مقهور في أشياء، ومُختار في أشياء أخرى؛ أنت مقهور في التنفس، وتتنفس آلياً دون تدخُّل منك، تتنفس مستيقظاً أو نائماً، ولو كان التنفس باختيارك، لاحتجْتَ إلى مَنْ يدير حركة تنفسك وأنت نائم؟

إذن: فمن رحمته سبحانه أن جعلك مقهوراً في مثل هذه المسألة وكذلك نبضات قلبك، أنت مقهور فيها، وكذلك أنت مقهور في الحركة الدودية للأمعاء، وللحركة الانبساطية والانقباضية في المعدة، وإفراز العصارات الهضمية، كل ذلك أنت مقهور فيه، وأنت مُختار في أشياء أخرى، كأن تشتري من البائع الفلاني، أو بائعٍ غيره، وأنت مُخَيِّر في أن تختار أصناف الطعام التي تهواها.

والمباحات في الوجود كثيرة، وما أكثر ميادين الحرية في الحياة، وما حدده لك الحق سبحانه وتعالى بـ "افعل" و "لا تفعل"، لا يخرج عن أمور محصورة تصونك وتصون مجتمعك، وكذلك الكون الذي تحيا فيه.

وإنْ مارسْتَ أيها الإنسان حريتك في الأمور المباحة على أي لون شئت، فذلك لا يفسد الكون.

وقد شاء الحق سبحانه -أيضاً- أن تكون مقهوراً في بعض الأمور حتى لا يفسد الكون، فإن أكلت ما شئت من المأكولات غير المحرمة؛ فأنت حرٌّ، وإن سلك كل إنسان كما يهوى في الأمور المباحة؛ فلا مانع لذلك.

وكل البشر يختلفون.

وأراد سبحانه أن يحمي الإنسان والكون؛ لأنه علم أزلاً أن أهواء البشر تتضارب، وهو القائل: (وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ) (المؤمنون: 71).       

ولهذا نرى أن تدبير الله فيما لا دخل لنا فيه، تدبير مُحْكَم، وما يسير بدون تَدَخُّل من البشر إنما يتبع نظاماً مستقيماً، وشاء الحق أن يجعل نواميس الكون تعمل بدقة يندهش لها المؤمنون بالله والكافرون به، فسبحانه يحكم في مُلْكه بدقة متناهية؛ حتى إن بعض العلماء ممن لا يؤمنون بمنهج الله قد حددوا مواعيد الكسوف الكلي أو الجزئي للشمس أو القمر بدقة متناهية وذلك باستقرائهم لمعطيات الكون.

وما دُمْتم أنتم تتميزون على الكافرين بالإيمان بالله، فخذوا منهج الله في حياتكم؛ لتستقيم أموركم بمثل استقامة الكون.

ولذلك قال سبحانه: (يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ) (يونس: 3).       

ويضيف: (مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ) وجاء الحق بمسألة الشفاعة بعد مسألة تدبير الأمر؛ لأن هؤلاء الكافرين الذين تعجبوا من إرسال الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، كانوا يعبدون ما لا يضرهم ولا ينفعهم، ويقولون: إن تلك الأصنام تشفع لهم عند الله، مصداقاً لقوله الحق: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ) (يونس: 18).       

ولذلك يُفصِّل الحق سبحانه مسألة الشفاعة.

فالإنسان لا يحتاج إلى شفاعة عند مَنْ يملك الأمر إلا إذا ارتكب جُرْماً أو حدث منه تقصير في أمر ما.

والآية أوضحت أنهم يعبدون ما لا يضرهم إن لم يعبدوه، وما لا ينفعهم إن عبدوه.

وأقروا أن مثل هذه الأصنام إنما تشفع لهم، والشفاعة من الشفع، والشفع ضد الوتر.

والوتر هو ما لا يقبل القسمة على اثنين، فيكون الوتر رقماً فرديّاً.

والعبد من هؤلاء له موقف من الإله الذي يعبده، وهو غير قادر على مواجهته؛ لأنه مقصر، فبدلاً من أن يقابله فرداً يأتي بآخر معه؛ ليشفع له، وهكذا يكون معنى الشفع هو تعضيد الفرد بواحد آخر؛ فينتقل من كونه وتراً إلى كونه شفعاً.

وكان الكفار على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولون عن تلك الأصنام: إنهم شفعاء لهم عند الله، فيقول الحق سبحانه في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: (مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ) (يونس: 3).       

لأن الشفاعة تقتضي شافعاً ومشفوعاً عنده، ومشفوعاً له، ومشفوعاً فيه، هذه هي الأربعة العناصر في الشفاعة.

والذي يستشفع هو المقصِّر، وهؤلاء الكفار قالوا عن الأصنام: إنها شفعاء لهم عند الله، وهذا إقرار منهم بالتقصير، وأقروا بأن المشفوع عنده هو الله، وأما المشفوع فيه؛ فهو تخفيف العذاب أو إنهاء العذاب.

إذن: فالمشفوع فيه أمر مشترك، والمشفوع عنده أمر مشترك، أما الأمر في الشافع، والأمر في المشفوع له، فهما مختلفان.

وأنت -على سبيل المثال-، لا تأتي بإنسان يسير في الطريق وترسله ليشفع لك (مثلاً) عند المحافظ أو عند الوزير؛ إن كانت لك حاجة عند أي منهما، بل تأتي بإنسان تعلم رضا المحافظ عنه أو رضا الوزير عنه، وله منزلة ومكانة، وهذه المنزلة والمكانة تسمحان له بالإذن في أن يكلِّم المحافظ أو الوزير في أمور الناس.

وإذا كان هذا هو الحال في الشفاعة من البشر لدى البشر، فما بالنا بالشفاعة للإنسان لدى الله؟

لذلك بيَّن الحق هنا أن الشفيع لابد أن يكون بإذن منه سبحانه (مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ) (يونس: 3).       

وفي سورة البقرة يقول سبحانه: (مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) (البقرة: 255).       

وفي آية أخرى يقول سبحانه: (يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (طه: 109).       

إذن: فالشفيع لابد له من إذن ورضاً من الله.

أما المشفوع له فقد قال الحق: (وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ) (الأنبياء: 28).       

هكذا بيَّن لنا الحق عناصر الشفاعة: الشافع، والمشفوع له، والمشفوع عنده وهو الله سبحانه، والمشفوع فيه هو الذنوب وهي معروفة.

ولقائل أن يتساءل: ما دام الحق سبحانه قد رضي عن عبد، فلماذا يحتاج العبد إلى الشفاعة؟

وأقول: لننتبه إلى أن الإنسان يتعرض لأعمال كثيرة، وله نقاط ضعف في حياته؛ قد تكون كثيرة، وقد تكون قليلة، فإذا جاء في نقطة الضعف وأذنب ذنباً، فعليه أن يزيد من فعل النقاط القوية التي تُكتب له بها الحسنات؛ لأن المعيار هو: (إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ) (هود: 114).       

فالعبد حين يزيد من الحسنات فالحق سبحانه قد يمحو السيئات، وليعلم كل إنسان أنه إن اختلس من الله حكماً فهو لن يستطيع أن يهرب من العقاب، وعليه أن يزيد من الحسنات، ويرجو المغفرة من الله؛ وقبول التكفير بالحسنات عن السيئات، ولن يُفلت أحد من ملكوت الله.

وهَبْ أن إنساناً فيه نقطة ضعف، وأذنب ذنباً، وعنده نقطة قوة يطيع فيها الله بسهولة ويُسْر، هذا الإنسان له أن يعلم أن الله يحبه لأجل نقطة قوته هذه، وقد يرحمه الله سبحانه فيما أذنب من الذنوب، ويجعل المأذون له في الشفاعة يشفع له عنده سبحانه فلماذا أراد الحق ذلك؟

شاء الحق ذلك حتى لا يُحرَمُ العالم من الحسنات التي يجيدها ذلك الإنسان.

ويحكي لنا الحديث النبوي الشريف عن الرجل الذي لقي كلباً يلهث من العطش، ولم يجد الرجل إناء يملأه ماء من البئر ليسقي الكلب، فنزل البئر وملأ خفه، وعاد إلى الكلب ليسقيه.

وبطبيعة الحال لم يكن هذا الرجل لينافق الكلب، بل منتهى الرحمة بهذا الحيوان، كذات خلقها الله؛ لذلك غفر الحق سبحانه لهذا الرجل.

وهكذا نفهم أن الحق يغفر ويمحو السيئات.

وقد جعل الحق سبحانه الشفاعة لرسول الله تكريماً له -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك في المأذون له في الشفاعة، حتى يعلم المسلم أن الرسول قد يشفع له، وأن المؤمن قد يشفع لأخيه، وأن الأب قد يشفع لابنه، وحين يعلم المسلم ذلك، فهو يحسن إلى كل هؤلاء؛ لعله يحصل على الشفاعة منهم، ويحسن اتباع سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويحسن معاملة المؤمنين، ويحسن الابن معاملة والديه، وهكذا يعيش المجتمع في كرامة الشفاعة بعمل الخير وإخلاص النية.

وإذا رأيت إنساناً محسناً في دينه، فلابد لك أن تحترمه؛ لأن إحسانه في دينه قد ينفعك أنت؛ ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة يقول: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة: 5).       

وكان الحق سبحانه قادراً أن ينزلها "إياك أعبد وإياك أستعين" ولكنه شاء أن تنزل على صورتها تلك؛ حتى يأذن سبحانه بقبول الصفقة من كل قائليها، فيتقبل من عباده أعمالهم بما يغفر لبعضهم الأشياء المعيبة.

ولذلك أقول: إن رأيت إنساناً مستغرقاً في العبادة فلا تسخر منه ولا تهزأ به؛ لأن حرصه على الطاعة وانشغاله بالعبادة قد تنفعك أنت.

وساعة تتلقى أمراً من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتجده شاقّاً، فعليك أن تتذكر أنه المرجع الذي قد يشفع لك في الأمور التي لم تقدر عليها.

ولابد أن يرضى الحق عن المشفوع له؛ لأنه قد أجاد فعل حسنات.

وإن كانت له سيئات، وقد رأى رجل سيدنا عمر في رؤيا، فسأل الرائي سيدنا عمر بن الخطاب: ماذا فعل الله بك يا ابن الخطاب؟

فقال سيدنا عمر: غفر الله لي.

فسأل الرائي: بماذا؟

أجاب سيدنا عمر: لأني رأيت غلاماً يعبث بعصفور فاشتريته حتى لا أفجعه في عصفور يملكه، وأخذت العصفور وأطلقته.

واعترض أحد السامعين للرؤيا متسائلاً: ألم يفعل ابن الخطاب أعمالاً تؤهله لمغفرة الله إلا مسألة العصفور هذه؟

فقال له قائل: أحسن الفهم يا رجل؛ فمسألة إطلاق العصفور إنما تخص غفر الخطايا، وأما أعمال عمر بن الخطاب الجليلة فهي لرفع الدرجات.

وفي القرآن آيتان جاءتا بنص متقارب، فالحق يقول: (وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) (البقرة: 48).       

والآية الثانية تقول: (وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ) (البقرة: 123).       

ومن حاولوا المقارنة بين الآيتين بغرض الطعن في القرآن، هم من الغرباء عن اللغة ولا يملكون ملكة البيان التي يمكن أن يستقبلوا الأساليب بها، ولو امتلكوا هذه الملكة لعلموا أن الصدر في الآيتين محتمل لوجهين، فهناك نفس جازية هي التي تتشفع ونفس مجزيٌّ عنها هي التي يُتشفع لها.

والضمير الذي يأتي في قوله الحق: (وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا) و (وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا) و (وَلاَ تَنفَعُهَا)، هذا الضمير يصح أن يرجع إلى النفس الشافعة، ويصح أن يرجع إلى النفس المشفوع لها.

والإنسان منا إذا ما كان عليه شيء لإنسان آخر، وغير قادر على أن يستبرئ ذمته منه، فهو يلجأ إلى صديق لهذا الآخر، له مكانة عنده ليستشفع له.

وفور أن يذهب صاحب المكانة إلى هذا الآخر فهو يقول له: هل تقبل شفاعتي لفلان؟

فإن قال صاحب الأمر: لن أقبل الشفاعة، فالمستشفع عنده يقول له: إذن: سأدفع العدل، أي: ما يساوي قيمة ما كنت سأتشفع له فيه.

وهكذا نجد أنفسنا أمام نفسين: شافعة، ومشفوع لها.

والضمير يعود على أي من النفسين.

وهكذا نجد أن صدر كل آية من الآيتين اللتين يقال عنهما: إنهما متشابهتان، صدر كل منهما منسجم مع عجزها.

وينهي الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بعد أن أوجزت الآية فكرة عن خلق الله تعالى للكون، وأنه يشفع لمن شاء ويختار من يقدم له الشفاعة، فيقول: (ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ) (يونس: 3).       

فسبحانه خلق الكون، واستتبَّت بيده مقاليد الأمور، وخلق الإنسان ليعمر هذا الكون، ونعلم أنه سبحانه قد شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو، وحين يشهد الحق لنفسه، فسبحانه على ثقة تامة بأن أوامره في كونه نافذة.

وقوله سبحانه: (ذٰلِكُمُ) أي: إشارة إلى ما تقدم من خلق السماوات والأرض، والاستواء على العرش، وتدبير الأمر كله، ولا أحد يشفع عنده إلا بإذنه، هذا هو الله ربكم، وما دام هو ربكم فاعبدوه؛ لأنه هو الذي خلق من عدم، وأمد من عُدْم، وله كل صفات الكمال المطلق.

وهذه العبادة لا تعود عليه سبحانه بأي فائدة، فسبحانه منزَّه عن فائدة تعود عليه؛ لأنكم إن عبدتموه فلن تزيدوا في ملكه شيئاً، وإن لم تعبدوه فلن تنقصوا من ملكه شيئاً.

والعبادة يعود نفعها عليكم؛ لأنكم ستأخذون بها منهجاً يخرج كل الخلق عن أهوائهم، ويصير هوى الموجِّه واحداً، فلا تصطدم إرادة بإرادة، بل تتساند الإرادات؛ فيتكامل العالم.

إذن: فالعبادة توحِّد أهواء الخلق إلى مراد واحد، لا يأنف الإنسان منا أن يخضع له؛ لأن هذا ليس خضوعاً من بشر لبشر، بل خضوعاً من مخلوق لخالق، وبذلك تستقيم أموركم الاختيارية، كما استقامت أموركم غير الاختيارية.

وهكذا لا تنحصر العبادة في أركان الإسلام الخمسة فقط، بل تكون هذه الأركان الخمسة هي الدعائم التي تقوم عليها عمارة الإسلام، وكل الإسلام هو كل أمر لله وكل نهي له سبحانه؛ ولذلك حين نتابع تسلسل الأمور، سنجد أن أركان الإسلام الواجبة تعتمد على حركة الحياة كلها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

ويقول الحق في آخر الآية: (أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ) والذهن أو المخ -كما نسميه- فيه ملكات متعددة مثل: ملكة التخيُّل، وملكة الحفْظ والاختزان، وكثير من الملكات الأخرى منها مَلكَةُ التذكُّر.

ومعنى التذكُّر أن شيئاً سبق لك إلْفٌ به، فطرأ عليك ما أنساك، وحين تنسى أمراً يخصُّ أحد أقرانك، فهو يقول لك: تذكر يا أخي الأمر الفلاني، وهو لا يأتي لك بأمرٍ مجهول لم تعرفه أولاً، بل يأتي لك بأمر كان معلوماً لك، ولكنك نسيته.

والإنسان حين ينظر إلى الكون نظرة غير متحيزة لابد أن يؤمن بأن لهذا الكون إلهاً، وهذا الأمر لا نأخذه من الفلاسفة، بل من رجل الشارع، وراعى الشاة؛ فقد جاء في الأثر أن راعياً كان يسير في الصحراء فرأى بَعْراً في الطريق، فقال: إذا كان البعر يدل على البعير، والسير يدل على المسير، أفلا يدل كل هذا الكون على وجود اللطيف الخبير؟      

والمثال من حياتنا اليومية: أن غسَّالة الملابس الكهربية -وهي لا تدل على شيء ضروري في الحياة، بدليل أن السابقين علينا كانوا يغسلون ملابسهم بدونها، فهي تمثل ترفاً، لا ضرورة- نجد الناس يعرفون من الذي ابتكرها، ومن أوصلها بالكهرباء ومَنْ صنع لها توقيتات دورات الغسيل، ومثلها مثل المصباح الكهربي الذي يفسد بعد عدد معيّن من الساعات، ونجد التلاميذ يدرسون تاريخ من صنعه، فهل يمكن أن ننسى من خلق الشمس التي تضيء الكون؟

بل ونجد في زماننا العالم والكافر وهو يمدُّنا بأدلة الإيمان، فكل اختراع نجد مَنْ يسجله؛ حتى لا يسرقه غيره، فما بالنا بالشمس التي تضيء وتُدْفئ، والقمر الذي يحدد الشهور، والنجوم التي تدل الناس على الاتجاهات ولا شيء في كون الله يحتاج إلى قطع غيار، ألا نعترف بمن خلق كل ذلك، ها هو ذا سبحانه يدلنا على مَنْ خلق ويبلغنا ما يسجل له ملكية ما خلق، فأنزل القرآن على الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليدلنا على أنه سبحانه الذي خلق، وأبقى الله الكافرين ليتحدى مَنْ يناقض قضية الخلق.

وسجل الحق سبحانه ما خلقه لنفسه، ولم يقدر أحد من الكافرين على إنكار ذلك.

ولن نأخذ الأدلة على وجود الله من الفلاسفة الذين يرتبون النتائج على المقدمات، ومطابقة قياس الشكل على الموضوع، بل سوف نأخذ الدليل من كلمة "الكفر" نفسها، هذه الكلمة (كفر) تعني: (ستر)، فهل يُسْتَرُ إلا موجودٌ؟

إذن: فالكفر بالله دليل على وجود الله، وما دام الكفر سَتْراً، فالكفر أمر طارئ، نتيجة للغفلة، والغفلة إنما تأتي لأن مقتضيات الإيمان تقيد النفس في حركتها؛ لذلك قد يغفل الإنسان متناسياً أن قيود المنهج لا تطبق عليه وحده، بل تطبق على كل الناس.

فحين يُحرِّم الله السرقة، فهو لم يحرمها على إنسان واحد، بل حرمها على كل إنسان، فقيَّد الآخرين ومنعهم من أن يسرقوا منك.

وحين يأمرك بغضِّ بصرك عن محارم جارك، فهو يحمي محارمك أن ينظر إليها غيرك.

إذن: فالإيمان جاء بالنفعية لكل إنسان.

وما دام الأمر كذلك، نجد الحق سبحانه يقول: (ٱذْكُرُواْ) (فاطر: 3).       

وحين يجلس الإنسان بمفرده ولا تُحركه شهواته فهو يهتدي إلى الإيمان بأن هذا الكون لم يَأتِ صدفة.

واسم الخالق للكون لا يمكن أن يعرفه الإنسان بعقله؛ لأن التصورات تختلف من إنسان لآخر.

وتجد أن الفلاسفة حين أقروا بأن هذا الكون لابد له من خالق لم يتعرفوا على الاسم، بل أخطأ بعضهم التصور وظنوا أن من خلق الكون ترك النواميس لتعمل، وتناسوا أن الخالق لا يباشر سلطانه في الكون مرة واحدة.

لذلك جاء الرسل بالمعجزات التي تخرق النواميس؛ ليدلنا سبحانه على أنه هو الذي خلق، وله قيومية على ما خلق، فليست المسألة مسألة نواميس تعمل بذاتها، بل شاء سبحانه أن يدلنا على عدم الآلية في الكون.

ونحن نعلم أن الآلية التي يصممها البشر في بعض المعدات تتسبب في إحداث جمود، فالعقل الإلكتروني ليست له قيومية على المعلومات المختزنة فيه، فلا يستطيع أن يخفي منها شيئاً إذا طلبت منه.

أما عقل الإنسان فله سيطرة على معلوماته ويستطيع أن يخفي ما شاء منها، ولذلك قال الحق سبحانه: (وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 42).       

فما دام قيل للإنسان: لا تكتم الحق.

إذن: فله قدرة على الإخفاء.

والوردة الطبيعية -على سبيل المثال- حيويتها في ذبولها على عكس الوردة الصناعية التي تظل على جمودها ليس فيها حياة.

والحق حين يقول: (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) (المؤمنون: 80).       

أو (أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ) (السجدة: 4).       

فهو يحرّض الإنسان على أن يتذكر، ويتفكر، ويعتبر.

ولو كان القرآن يريد أن يخدع الإنسان، لما أثار انتباهه إلى ضرورة التذكر والتفكر والتدبر والاعتبار.

وأضرب هذا المثل -ولله المثل الأعلى-: هب أنك ذهبت إلى محل للصوف لتشتري قماشاً متميزاً، فتجد البائع يفرد أمامك القماش، ويشده بيديه ليبين لك متانته، ثم يأخذ منه خيطاً ويحرقه ليبين لك أنه صوف خالص نقي، إن هذا البائع يحاول أن يشرح لك خبايا صناعة الصوف؛ لأنه واثق من جودة ما يبيع.

هذا ما يحدث فيما بين البشر، فما بالنا حين يعرض خالق الكون على مخلوقاته أسرار الكون ويدعوهم عبر منهجه إلى التذكُّر والتعقُّل والتفكُّر والتدبُّر والاعتبار.

والحق سبحانه يطلب منا ذلك ثقة منه في أن الإنسان منا، إن فعل ذلك؛ فسيصل إلى مراد الحق من الخلق.

وإياكم أن تظنوا أن الله خَلَق لكم، ثم خَلَق لكم، ثم أنزل لكم المنهج ليسعد حياتكم في الدنيا والآخرة، ثم اعتزلكم.

لا، بل هو قيُّوم حياتكم ولا تأخذه سنةٌ ولا نوم، ولا يفلت منه شيء، ولا أحد بقادر على أن يختلس منه شيئا.

وفي الحديث القدسي: "يا عبادي إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم فالخلل في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فَلِم جعلتموني أهون الناظرين إليكم".

وأنت في الحياة اليومية تعرف أن أحداً لا يقترب من إنسان قوي منتبه.

ويقول سبحانه بعد ذلك: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ ٱللَّهِ...).



سورة يونس الآيات من 001-005 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49191
العمر : 72

سورة يونس الآيات من 001-005 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة يونس الآيات من 001-005   سورة يونس الآيات من 001-005 Emptyالأحد 22 سبتمبر 2019, 12:31 am

إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٤)
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

وحين يقول سبحانه: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) فهذا إعلام لكل الخلق أن كل الأمور معلومة له سبحانه، فقد أنزل التكليف الذي قد يُطاع؛ وقد يُعصى.

فمن أطاع يفرح بقوله سبحانه: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً)، ومن عصى يحزن؛ لأنه سيلقى عقاب العصاة حين يرجع إلى الله.

ونجد القرآن يقول مرة: "يُرْجَعُون" ومرة يقول: "يَرْجِعون"، فمن عمل صالحاً؛ فهو يفرح بالرجوع إلى الله، ومن عصى وكفر؛ فهو يحزن ويخاف ويتردد ويحاول ألا يرجع، لكنه يُرجَع رغم أنفه، والحق سبحانه يقول: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) (الطور: 13).

وقوله سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) (يونس: 4).

وسُمِّي هذا المرجع في نفس الآية: (وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً) (يونس: 4).

ولقائل أن يقول: ولكن الوعد يطلق على الأمر الذي سيأتي بخير، فإن كان المرجع للطائع فهذا هو الخير، ولكن العاصي لن يرى في الرجوع خيراً، فلماذا لم يقل الله: إن المرجع للعاصي وعيد؟

وأقول: إن الحق سبحانه إنما ينبه الإنسان لما ينتظره في المستقبل، ويعظه، وترك له الاختيار، وهذا تقديم للخير، وهكذا تصبح المسألة كلها وعْداً.

والصيغة التي يتقدم فيها المجرور رغم أن من حقه التأخير، فهي تعني تفرُّد المرجع، فكلنا نرجع إليه سبحانه، مثل قوله سبحانه: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) (الفاتحة: 5) إذن: فالطائع يفرح بجزاء الله له، وعلى العاصي أن يراجع نفسه قبل أن يرجع إلى الله.

وأضرب هذا المثل -ولله المثل الأعلى- أنت تنبه التلاميذ إلى أن يذاكروا طوال العام، فالذي يذاكر فعلاً، يفرح بالامتحان؛ لأنه سوف ينجح فيه، والذي لا يذاكر قد يراجع نفسه ويقبل على المذاكرة خوفاً من الرسوب، والتذكير لون من ألوان الإنذار؛ ليتهيب الموقف ويرتدع، وهكذا يصير التذكير وعداً لا وعيداً.

ويضيف الحق سبحانه لوصف وعده بأنه حق، فيقول: (وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً) ولقائل أن يقول: أليس كل وعد من الله حقّاً؟

ونقول: نعم.

كل وعد من الله هو حق، وشاء الحق سبحانه هنا أن يَصِفَ وعده بأنه حق ليذكرنا بأن الحق هو الشيء الثابت؛ فإن خُيِّل إليك في بعض الأوقات أن الباطل هو السائد والسيد، فلتعلم أن الباطل لا ثبات له ولا سيادة.

وسبحانه يقول: (أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ) (الرعد: 17).

فحين ينزل المطر نجد كل وادٍ يأخذ من الماء على قَدْر حاجته، وساعة ينزل المطر ويتجمع، نجد القش يطفو ومعه الحشائش والأشياء التي لا فائدة منها؛ لأن الماء في لحظة النزول إنما يُنظف المكان الذي ينزل عليه؛ لذلك تطفو الأشياء الخفيفة وغير المفيدة.

كذلك الباطل إنما يطفو على السطح لكنه لا يفيد ولا يزعزع الحق الذي يستقر وينفع الأرض والناس، وطفو الباطل إنما هو تنبيه لجنود الحق، والباطل مَثَلُه مَثَلُ الألم الذي ينبه للمرض، وأخطر الأمراض هو الذي لا ألم فيه، فيستفحل إلى الدرجة التي يصبح علاجه صعباً ومستحيلاً.

إذن: فالألم كالباطل ينبه جنود الحق؛ ولذلك أنت تلحظ أنه إذا ما أهيج الإسلام من أي عدو، تجد الحماسة وقد دبَّتْ في الناس جميعاً، حركة وتعاوناً، ونسياناً للأحقاد؛ للدفاع عن الإسلام.

وفي الأمراض التي تنتقل ببعض الفيروسات، نجد الأطباء وهم يُطَعِّمون الناس من نفس ميكروبات أو فيروسات المرض بجرعات ضعيفة لتستثير مقاومة الجسم، إذن: فالباطل جندي من جنود الحق، كما أن الألم جندي من جنود العافية.

وإذا كان الحق هو القائل: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) فلابد أنه الوعد الحق؛ لأنه سبحانه يملك ما يعد به، وسبحانه منزه عن الكذب وعن الخديعة؛ لأنه القائل: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً) (النساء: 122).

ولأنه أقوى مما خلق؛ وممَّنْ خلق.

ولا تخونه إمكاناته؛ لأنه يملك الكون كله.

وكلمة "الرجوع" في قوله تعالى: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) تفيد أن تكون على شيء ثم تفارق هذا الشيء وبعد ذلك ترجع له، فهي وجود أولاً، ثم خروج عن الوجود، ثم عودة إلى الوجود الأول.

فإذا كنت في مكان، ثم ذهبت إلى مكان آخر، وترجع إلى المكان الأول، فهذا هو الرجوع.

والقول هنا يفيد أننا سنموت جميعاً، مصداقاً لقوله الحق: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ) (الرحمن: 26-27).

وقد قال الكافرون ما ذكره القرآن: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (ق: 3).

كأنهم قد استبعدوا فكرة البعث، وقالوا أيضاً: (أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (السجدة: 10).

أي: أنهم تساءلوا: هل بعد الموت والدفن وتحلُّل الجثمان إلى عناصر تمتزج بعناصر الأرض، أبعد كل ذلك بعث ونشور؟

وجاء هنا قوله سبحانه: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) ليفيد أن الخروج إلى الوجود بالميلاد إلى الحياة، ثم بعد ذلك خروج على الحياة إلى مقابلها وهو الموت، ومن بعد ذلك البعث.

وقد وقف الكافرون عند هذه النقطة واستبعدوها، فأراد الله أن يبيّن لنا هذه المسألة؛ لأنها تتمة التمسك بالمنهج، وكأنه يقول لنا: إياكم أن تظنوا أنكم أخذتم الحياة، وأفلتم بها وتمتعتم، ثم ينتهي الأمر؟

لا، إن هناك بعثاً وحساباً.

لذلك قال: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً) (يونس: 4).

فإن قال قائل: كيف يكون ذلك.

يأتي القول الحق: (إِنَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) فالذي قدر على أن يخلق من عدم؛ أيعجز أن يعيد من موجود؟

إنه الحق القائل: (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) (مريم: 9).

فإذا شاء أن يعيدكم فلا تتساءلوا كيف؟

لأن ذراتكم موجودة، والحق سبحانه يقول: (أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (ق: 15).

هكذا يستدل الحق سبحانه بالخلق الأول على إمكان الخلق الثاني، فإن كنتم تتعجبون من أنكم تعودون بعد أن أوجد الحق أجزاءكم وذراتكم ومواصفاتكم؛ فانظروا إلى الخلق الأول؛ فقد خلقكم من لا شيء؛ أفيعجز أن يعيدكم من شيء؟

(أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ).

وجاء الفلاسفة وأقاموا ضجة، فجاء الحق سبحانه وتعالى من الكون بالأدلة، وقال: (وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً) (الحج: 5).

أي: أرضاً ميتة وليس فيها أي حياة.

(فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج: 5).

إذن: فلا عجب أن تصدر حياة عن موت، وأنتم ترون ذلك كل ساعة.

والحياة التي تراها أمامك ليست إلا دورة؛ لأن الله حين خلق الكون، خلق عناصره، ولا زيادة على هذه العناصر.

وخذ مادة واحدة وهي المياه، فمنذ أن خلق الحق سبحانه المياه لم تزد ولم تنقص، ويشرب منها الإنسان والحيوان، ولو أخذ كل واحد في حياته أيّ قدر من المياه، تظل المياه كما هي؛ لأن هذا الإنسان يفرز ما شربه على هيئة عرق وإفرازات مختلفة، وكل ذلك يخرج منه، ويبقى ما يمثل وزنه.

إذن: فما أخذته من المياه إنما يخرج منك مختلطاً بأشياء نتيجة التفاعل الذي يعطيك طاقة الحياة، وبعد ذلك يتبخر الماء، وعملية التبخير هي تقطير للماء، فأنت إذا أردت تقطير المياه تسخنها إلى درجة الغليان فتتحول بعد ذلك إلى بخار، ثم تكثفها لتعود مياهاً من جديد.

إذن: فالماء له دورة، نروي منه الزرع؛ فيأخذ المائية ويصير أخضر اللون، ويخرج منه الماء الزائد عن حاجته في عملية النتح، ثم يجف، بعد أن تخرج منه المياه بالتبخر، وكل ذلك دون أن يشعر أحد بحكاية التبخير هذه.

وأنت حين تُحضِّر كوباً من الماء المقطر في الصيدلية، تتكلف كثيراً، وتحتاج موقداً وإناءً وأنابيب، ثم إلى مياه أخرى باردة لتكثف البخار، ولكن هذه مسألة تحدث في الكون ملايين المرات، ولا يدري بها أحد.

وبعد أن تتبخر المياه تصير سحاباً، ثم ينهمر المطر وهو مياه مقطّرة.

ولذلك تجد أن مساحة رقعة الماء ثلاثة أرباع الأرض لتخدم الربع الباقي (اليابسة)؛ لأن الله يريد اتساع سطح الأرض، وهذا الاتساع هو الذي يساعد على التقطير والتبخير والتكثيف.

مثلما تجيء أنت بكوب ماء، وتضعه في حجرة، ثم تغيب شهراً عن الحجرة، فعند عودتك إليها قد تجد الكوب نقص ما مقداره نصف سنتيمتر تقريباً، لكنك إن أخذت كوب الماء نفسه وألقيت ما فيه من ماء ليسيح على أرض الغرفة، فستجد أن الأرض جفت خلال ساعات قليلة، وهكذا نجد أن اتساع الرقعة إنما يساعد على سرعة البخر.


إذن: الكمية التي خلقها الله من المياه كما هي، لم تَزدْ ولم تنقص، تدور الدورة التي شاءها الحق، وهكذا نرى أن الشيء يعود إلى أصله مرة أخرى، ويمكن أن نرى ذلك في كل أوجه الحياة، والحق سبحانه يقول: (وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً * فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً * فَٱلْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ) (الذاريات: 1-5).

يقسم الحق سبحانه هنا بالرياح التي تحمل السحاب، وتمطر كل سحابة على الموقع المحدَّد لها بأمر من الله، ويلفتنا الحق سبحانه هنا إلى دورة الماء، الذي هو قوام الحياة، بأن الوعد منه سبحانه يتحقق حتماً.

تأمّل الوردة، تجد لها نعومة ونضارة؛ لأن فيها شيئاً كثيراً من المائية، ولها لون جميل ورائحة ذكية تفوح، فإذا قطفتها تتساقط أوراقها وتجف؛ لأن ما فيها من المائية يتبخر؛ فما أخذته الوردة من الماء عاد إلى مخزنه مرة أخرى، وكذلك الرائحة تظل في أرواقها الذابلة إلى أن تنتهي، وكذلك اللون، ثم تخرج وردة جديدة.

إذن: حياة كل كائن في الوجود والعالم في حركته ناشئة عن هذه الدورة، فإذا كانت مائية حياتكم تدور؛ أتستبعد أن تدور أنت بمكوناتك؟

هَبْ أن إنساناً وُجد ومات؛ بخروج الروح من الجسد ويُوارى الجثمان ويتبخر ما فيه من ماء، وتتحلل مواد الجثمان مع عناصر الأرض لتصير تراباً، فهل يعجز الحق أن يعيد إلى الوجود أبعاض هذا الإنسان؟

طبعاً لا يمكن أن يعجز.

الحياة -إذن- احتكاك هذه الدورات لتلك العناصر، فلم يزد شيء عليها، ولم ينقص منها شيء.

واقرأ القرآن بتبصر تجد قوله الحق: (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) (ق: 4).

وهكذا يبيِّن لنا الحق أن العناصر كلها موجودة في الكون، قد تزيد في مخلوق عن الآخر، لكن المجموع الكلي لكل العناصر ثابت، وإذا كان العلم قد توصل إلى أن هناك ستة عشر عنصراً تكوِّن الكائنات، فهذه العناصر ثابتة الكمية، وإن اكتشفوا زيادة في عددها، فالزيادة في عدد العناصر ستكون أيضاً ثابتة الكَمِّ لكل عنصر.

وقال العلماء: إن الستة عشر عنصراً هي: الأوكسوجين، والكربون، والهيدروجين، والنتروجين، والمغنسيوم، والبوتاسيوم، والصوديوم، وغيرها.

كل هذه العناصر تعود إلى أصلها بعد أن تموت الكائنات وتتحلل.

هكذا يصدق قول الحق: (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) (ق: 4).

وقد حاول بعض الفلاسفة أن يعترضوا اعتراضاً ثانياً وقالوا: هب أن إنساناً مات، ثم تحللت عناصره في الأرض.

ألا تذهب عناصره إلى كائنات أخرى، مثل شجرة أنتجت ثمرة أو غير ذلك، ثم أكلها إنسان آخر، فدخلت في أجزائه، إذن: فمن مات ونشأت على أنقاضه ثمرة، أو غير ذلك، ودخلت المكونات في إنسان آخر، فكيف يبعث الله كلَّ إنسان من جديد؟

ونقول: أنت عرفت شيئاً، وغابت عنك أشياء.

انظر مثلاً إلى السِّمنة والنحافة كظاهرة موجودة في الناس وتراها كل يوم، ومعنى السمنة أن كمية من مادة معينة تزيد في الإنسان السمين أكثر من مادة الإنسان الآخر النحيف.

وقد يطرأ على السمين ما يجعله نحيفاً أو العكس.

فهل هذا يغيِّر من شخصيته؟

طبعاً لا، وهكذا نجد فارقاً بين المشخصات وبين تكوين المشخصات من العناصر.

وما دام الحق سبحانه قد أعلمنا أنه لا شيء ينقص من الأرض إلا بمقدار مكونات الكائنات الموجودة عليها، فالعناصر التي في الأرض تكفي كل الكائنات، ويوزعها سبحانه بالنسب اللازمة، وأنت إن جمعت هذه العناصر فستجدها ثابتة الكم وإن اختلفت في كيفية تكوين الكائنات.

مثال ذلك: أنك تجد إنساناً وزنه مائة كيلو جرام، ويمرض؛ فيهزل وينقص وزنه إلى سبعين كيلو جراماً، ومعنى ذلك أن الثلاثين كيلو جراماً الأخرى ذهبت إلى الأرض، فلكل جسم قاعدة يقف عندها الوزن إلى سن معينة، وتُعتبر هذه هي القاعدة التي يزيد فوقها الوزن، أو يقل عنها حسب ظروف التغذية والصحة.

وأنت ترى الطفل يفرز أقل مما يتناول من الغذاء؛ حتى ينمو، ولو كان يُخرج إفرازات تساوي -في الكمية- ما يأكل ويشرب لَمَا كبر.

ومن بعد ذلك يكبر إلى أن يصل إلى وزن ثابت تقريباً، فتخرج منه إفرازات تساوي ما يدخل إليه، ثم تأتي الشيخوخة فيخف الوزن، وهذا يعني أن ما يخرج منه أكثر مما يدخل إليه؛ فتنشأ النحافة.

وهَبْ أن طبيباً حاذقاً استطاع أن يعلم الداء الذي يسبب إصابة مريض ما بالهزال، وأعطاه من الدواء ما جعله يسترد عافيته، ومعها ما فُقد من الوزن، وتتحسن تغذية هذا المريض أثناء فترة العلاج، فهل تتغير شخصية هذا المريض؟

طبعاً لا.

لأن ما خرج منه أثناء الهزال ذهب إلى الأرض، ثم استرد مثله من الأغذية أثناء الشفاء.

إذن: فلا تقل: إن هناك شيئاً نقص، فعند الله كتاب حفيظ فيه مكونات كل الكون، ويأتي بعناصر معينة، ويأمرها بـ"كن" فتكون إنساناً، أو تكون كائناً آخر حسب مشيئة الله سبحانه وإذا كنا نتحدث الآن كيميائياً فنحن نتكلم بذلك؛ ليثبت عقديّاً وعقليّاً؛ لأننا آمنا بأن هناك منهجاً من المكلِّف، والمنهج عُرْضة لأن يطاع أو يعصى، ومَنْ يُطع الله في المنهج، فهو يحدد حريته، والذي لم يُطع الله واستسلم للضياع فهو الخاسر؛ لأن منطق العقل يؤكد أن من يأخذ المنهج ويلتزم به ويكبح شهواته؛ لا يمكن أن يستوي مع من عبث، ولابد أن يفترض منطق العقل أن يوجد بعث يجازي بالطيبات مَنْ سار على المنهج، ويعاقب مَنْ خرج على المنهج.

وما دام قد وجد إله، ووجد بلاغ عن الله بواسطة الرسل، ووجد تكليف بـ "افعل" و "لا تفعل"، ووجدت طاعة للتكليف، ومعصية للتكليف، إذن: لابد بعد هذه الحياة من بعث، ويأخذ من أحسَنَ جزاءه، وينال مَنْ أساء عقابه؛ ولذلك قال الحق: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ بِٱلْقِسْطِ) (يونس: 4).

جاء هذا القول مطمئناً الملتزمين بالمنهج بأن هناك بعثاً وحساباً؛ لأن المؤمن المطيع لابد أن ينال حسن الثواب، وأن ينال العاصي الشرير الذي شقيت الدنيا كلها بعصيانه العقاب، ولذلك لابد من الإعادة؛ ليجزي الله كل واحد بعمله بالقسط.

والقسط -كما أوضحنا من قبل- معناه العدل، والمادة هي القاف والسين والطاء.

ننطقها مرة "القسط" بكسر القاف.

وننطقها مرة أخرى "القسط" بفتح القاف والقسط "بالكسر" هو العدل؛ والقسط "بالفتح" هو الظلم، ولذلك نجد قوله الحق: (وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً) (الجن: 15).

والمقصود بالقاسطين: الجائرون على حقوق غيرهم.

ونجد قوله الحق: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ) (المائدة: 42).

والمقْسِطون: هم العادلون بين الناس.

إذن: فهناك "قِسْط" و "قَسْط"، وهناك شيء اسمه "قَسَط" بالفتحتين وهو الانحراف في الرِّجلين.

إلا أن المستعمل في كلمة "قِسْط" هنا مقصود به العدل، واسم الفاعل منها "قاسط" واستعملت في الجوْر.

وهي مأخوذة من القَسْط لا من القِسْط، وتجد من أسماء الله "المُقْسِط"، ولم يصف نفسه بالقاسط بمعنى العادل، أي: ابتدأ بالعدل أولاً، وشاء سبحانه فوصف نفسه بالمُقْسِط، لأنه هو الذي يرفع الجور فيحقق العدل.

وفي الآية التي نحن بصددها يقول الحق سبحانه: (لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ بِٱلْقِسْطِ) أي: جزاء منه بالعدل، وأيضاً يمكن أن نقول: إنه سبحانه يجزيهم؛ لأنهم عدلوا في العقيدة؛ لأن القرآن الحكيم -كما نعلم- جاء حاكماً وفيصلاً بين قضايا العقائد وقضايا الاختيار في الأفعال وقضايا الأخلاق، وهؤلاء قد أخذوا المنهج بدون ظلم لله فلم يشركوا به أحداً، والحق سبحانه هو القائل: (إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان: 13).

إذن: فهم بعدلهم وبقسطهم في أمر العقيدة وأنهم لم يرتكبوا إثم الشرك الذي هو ظلم عظيم؛ وبذلك لم يظلموا أنفسهم أيضاً، ولم يأخذ واحد منهم لنفسه متعة عاجلة؛ لذلك أنقذهم الله من الشقاء الأبدي الطويل، وهم لم يظلموا الناس.

ولكل ما تقدم لابد أن يجزيهم الله على العمل الصالح بسبب عدلهم وقسطهم.

وقد يقال: إن الجزاء بالقسط لا زيادة فيه ولا نقصان، فإذا كان الجزاء من الله، فالعدل على مقتضى التشريع أن تكون الحسنة بعشر أمثالها، ويضاعف سبحانه لمن شاء، هذا هو عدل الله بالتشريع.

أو أن الجزاء يُعطى بلا زيادة ولا نقصان جزاء العدل، ولكن ذلك لم يحدد الفضل في هذه الآية.

ولذلك حدث إشكال بين علماء الكلام في قول الله سبحانه: (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ) (النجم: 39).

فقال بعضهم: إذا كان الإنسان لا يأخذ إلا جزاء ما سعى، فكيف يُجزى جزاء على الحسنة بعشر أمثالها؟

وكذلك ماذا عن صلاة الجنازة؟

وهل ينتفع بها الميت حين ندعو له بالمغفرة؟

وإن كان الإنسان لا يأخذ إلا ما سعى فلن ينتفع بها الميت، فلماذا كلفنا الحق سبحانه بصلاة الجنازة كفرض كفاية، لا فرض عين؟

ونقول: إن وجود اللام في قوله: (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ) يفيد الملْك، أي: الحق، والآية تعطي الحق ولكنها لم تمنع الفضل، أو نقول: هل نصلي على كل ميت؟

نحن نصلي على الميت المؤمن، والإيمان من عمله، وهو يُجَازي بصلاتنا عليه، أي: جزاء عمله.

ويقول سبحانه: (وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ) وهكذا نعرف أن العذاب الأليم قد جاء لهم بسبب الكفر، مثلما يجيء الجزاء على الأعمال الصالحة للمقابل لهم بسبب الإيمان والعمل الصالح.

إذن: فالقسط هنا تعود على قسط الله، وهو العدل، وكذلك قسطهم هم؛ لأنهم حكموا في الربوبية بالعدل.

أما الكافرون، فالعدل معهم أن يذيقهم الله شراباً من حميم بما كانوا يكفرون، وهذا ما يرجح أن القسط هنا هو قسطهم هم.

وكلمة (حَمِيمٍ) مأخوذة من مادة "الحاء" و"الميم" و"الميم" وهي مادة كل موارد معانيها فيها الحرارة والسخونة.

والحق سبحانه يقول في آية أخرى: (وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ) (الكهف: 29).

و (كَٱلْمُهْلِ) أي: أنه يغلي، وحين تكون المادة من غير الماء، فدرجة حرارتها أثناء الغليان تكون أعلى من درجة حرارة غليان الماء؛ فالنحاس مثلاً حين يغلي تكون درجته أعلى من درجة غليان الماء، وكذلك الحديد والذهب وغيرها، وسبحانه يقول: (إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ * طَعَامُ ٱلأَثِيمِ * كَٱلْمُهْلِ يَغْلِي فِي ٱلْبُطُونِ * كَغَلْيِ ٱلْحَمِيمِ) (الدخان: 43-46).

إذن: فدرجة غليان المهل أعلى من درجة غليان الماء، والمادة كلها تفيد الحرارة.

وإن نظرنا إلى كلمة "حمّام" و"استحم"، فهي تعني أن الماء حين ينزل على البدن يكون له ثلاث صور: الصورة الأولى مسح، والصورة الثانية غسل، والصورة الثالثة استحمام.

والمسح أن تبل الشيء بالماء بدون أن يقطر منه شيء، والغسل أن تُسَيِّل الماء من الجسد المغسول، والاستحمام أيضاً فيه سيولة للماء.

والغسل للتطهير، لكن الاستحمام للتنظيف، فإن أحدثت فأنت تقوم لتتوضأ.

(فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ) (المائدة: 6).

تنفيذاً لأمر الله وهو غسل التطهير، ويقوم مقامه التراب في حالة عدم وجود الماء وهو التيمم.

أما إذا كانت المسألة تنظيفاً فهي تحتاج إلى الاستحمام؛ لأن مسام الإنسان لها إفرازات قد تكون دهنية، وبعد ذلك تطرأ عليها أتربة تسدها، وهذه المسام أبعاض من الإنسان وأبعاض من تراب طاهر جاء على الجسم، وهي لا تنجسه، فإن اغتسلت فيكفي أن تصب الماء على الجسم، ولو بقي بعض من ذرات التراب على البدن فهذا لا يمنع الطهارة، لكن حين يستحم الإنسان فهو يأتي بماء حار؛ ليذيب القذارة وينقّي المسام، وتخرج بعض الأتربة ومعها الخلايا الجلدية الميتة وكأنها خيوط رفيعة.

إذن: هناك فرق بين الغَسْل وهو للتطهير؛ وبين الاستحمام الذي هو للنظافة.

ونأخذ منه الحمام، إذن: مادة الحاء والميم والميم فيها الحرارة وفيها السخونة.

ويقول الحق هنا: (وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ)، وكلمة (شَرَابٌ) تفيد الارتواء، فلماذا جاء بها الله هنا؟

إنها تصعيد للعذاب؛ لأن الإنسان يرغب في الشراب ليرطِّب جوفه، فإذا ألهبه ما يشرب، فهذا أكثر إيلاماً مثل قوله تعالى: (وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ) (الكهف: 29).

وحين تسمع هذه الآية تجد انبساط الأمل في صدر الآية (وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ) وهم يستشرفون للنجاة، ثم يأتيهم غوث من لون يناسب ما اقترفوه من ذنوب (يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ).

إذن: فـ (وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ) أي: بسبب كفرهم.

وعرفنا أنهم كفروا بالقضايا العقدية.

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: (هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ...).



سورة يونس الآيات من 001-005 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49191
العمر : 72

سورة يونس الآيات من 001-005 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة يونس الآيات من 001-005   سورة يونس الآيات من 001-005 Emptyالأحد 22 سبتمبر 2019, 12:33 am

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥)
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

وبعد أن بيَّن الحق أنه خلق السماء والأرض وخلق الكون كله وسخره للإنسان جاء لنا بنعم من آياته التي خلقها لنا، والتي جعلها الله سبحانه وتعالى سبباً لقوام الحياة؛ فالشمس هي التي تُنضج لنا كل شيء في الوجود، وتعطي لكل كائن الإشعاع الخاص به، كما أن الشمس تبخر المياه -كما قلنا من قبل- لينزل الماء بعد ذلك عذباً فراتاً، يرتوي منه الإنسان وتشرب منه الأنعام ونروي به الزرع.

والشمس هي الأم لمجموعة من الكواكب التي تدور حولها، فدورة الأرض حول الشمس تمثل السنة، ودورة الأرض حول نفسها تمثل اليوم.

فيقول الحق سبحانه هنا: (هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً) ولو نظرت إلى المعنى السطحي في الشمس والقمر لقلت: إن الشمس تعطي نوراً وكذلك القمر، ولكن النظرة الأعمق تتطلب منك أن تفرِّق بين الاثنين؛ فالشمس تعطي ضياء، والقمر يعطي نوراً.

والفرق بين الضياء والنور يتمثل في أن الضياء تصحبه الحرارة والدفء، والنور إنارة حليمة، ولذلك يسمى نور القمر النور الحليم؛ فلا تحتاج إلى الظل لتستظل من حرارته، لكن الشمس تحتاج إلى مظلة لتقيك حرارتها.

إذن: فالنور هو ضوء ليس فيه حرارة، والحرارة لا تنشأ إلا حين يكون الضوء ذاتيّاً من المضيء مثل الشمس.

أما القمر فضوؤه غير ذاتي ويكتسب ضوءه من أشعة الشمس حين تنعكس عليه، فهو مثل المرآة حين تسلط عليها بعضاً من الضوء فهي تعكسه.

إذن: القمر مضيء بغيره، أما الشمس فهي تضيء بذاتها.

لذلك قال الحق هنا: (جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً).

وكلمة (ضِيَآءً) إما أن تعتبرها مفرداً مثل صام صياماً، وقام قياماً، وضاء ضياءً.

وإما أن تعتبرها جمعاً، مثلها مثل حوض ـ جمعه: حياض، ومثل روض ـ جمعه رياض، وكذلك جمع ضوء هو ضياء.

إذن كلمة (ضِيَآءً) تصلح أن تكون جمعاً وتصلح أن تكون مفرداً، وحين يجيء اللفظ صالحاً للجمع وللإفراد، لابد أن يكون له عند البليغ ملحظ؛ لأنه يحتمل هذه المعاني كلها، وقبل معرفتنا أسرار ضوء الشمس وقبل تحليله، كنا نقول: إنه ضوء، لكن بعد أن حللنا ضوء الشمس، وجدنا أن ألوان الطيف سبعة منها ضوء أحمر، وضوء أخضر، وضوء أصفر، وغيرها.

إذن: فـ "ضياء" تعبر عن تعدد الألوان المخزونة في ضياء الشمس، فإن قلت: ضياء جمع ضوء، فهذا بتحليل الضوء إلى عناصره كلها، وإن قلت: ضياء مثل قيام، ومثل صيام، فهذا يصلح في المعنى العام.

ولذلك كان القرآن ينزل بما تحتمله العقول المعاصرة لنزوله التي لا تعرف المعاني العلمية للظواهر.

ولو قال القرآن هذه الحقائق، لقال واحد: إنني أرى الشمس حمراء لحظة الغروب، وأراها صفراء لحظة الظهيرة، وهو لا يعلم أن الحمرة وقت الغروب هي حمرة في الرؤية لطول الأشعة الحمراء، وهي لا تظهر إلى حين الغروب حيث تكون الشمس في أبعد نقطة، فلا يصل إلينا إلا الضوء الأحمر، أما بقية الأضواء فهي تشع في الكون ولا تصل إلينا.

إذن: كلمة (ضِيَآءً)، إما أن تعتبرها جمع ضوء، مثل سوط وسياط، وحوض وحياض، وروض ورياض، وإما أن تعتبرها مفردة.

هذه صالحة للمعنى العام، وتلك صالحة للمعنى التحليلي؛ ولذلك يقول الحق سبحانه في آية أخرى: (تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً) (الفرقان: 61).

والسراج هو ما يعطي الضوء والحرارة، وهو وصف مناسب للشمس.

وهنا يقول الحق: (هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ)، وكلمة (وَقَدَّرَهُ) تعود في ظاهر الأمر إلى القمر.

لكن في الواقع أن الشمس لها منازل أيضاً، وقال الحق: (وَقَدَّرَهُ) لأن هناك شيئاً اسمه "الجعل"، فهو سبحانه جعل الشمس ضياء، وجعل القمر نوراً.

إذن: فالجَعْل جاء بأمرين اثنين؛ جعل للشمس ضياء وجعل للقمر نوراً، هذا الجعل نفسه جعله الله لنقدر به الزمن، فهو صالح للاثنين؛ للشمس وللقمر؛ لنعلم عدد السنين والحساب.

وفي العبادات نحتاج إلى تحديد بداية شهر رمضان؛ لنمارس عبادة الصوم، ونحتاج إلى تحديد أشهر الحج، وكذلك تحتاج المرأة مثلاً إلى حساب شهور العدة، وكل هذه التقديرات تخضع للهلال، فهو علامة واضحة للكل، فهو يبدأ صغيراً ويكبر ثم يصغر.

(وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ) (يس: 39).

و"العرجون" هو ما نسميه "السباطة" التي تحمل "شماريخ" البلح، وكانوا يصنعون منها قديماً المكانس التي يكنسون بها بيوت البادية والريف، وهكذا أعطانا الله تشبيهاً من البيئة التي عاش فيها العربي القديم.

وفي أول كل شهر كلنا نرى الهلال كعلامة مخبرة عن ميلاد الشهر، وهكذا تعلَّم الإنسان أن يحسب الشهور بتقدير منازل القمر، وبالنسبة للسنة؛ فالحق سبحانه يقول: (إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ) (التوبة: 36).

والتقدير هنا اثنا عشر شهراً هلاليّاً.

أما اليوم فيقدر بالشمس؛ لذلك فهي تدخل في تقدير المنازل.

وهكذا نجد أن الحق سبحانه قد شاء أن يجعل "الجعل" لأمرين؛ مجعول الشمس، ومجعول القمر، مصداقاً لقوله: (وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ).

والحق -كما أوضحنا- هو الشيء الثابت الذي لا يتغير.

وحين نتأمل مسار الأفلاك، ومسار الشمس، ومسار القمر، لا نجد فيها خلافاً، بل نجد مراصد الكفار تعلن مواعيد تواجد القمر بين الأرض والشمس، وقد توجد الأرض بين القمر والشمس، ويتسبب هذا في ظاهرتي الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، وكل هذه الأمور تجدها عندهم غاية في الدقة.

(وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس: 40).

وهذا القول الحكيم قد أثبت للعرب حكماً يعتقدونه، ونفى حكماً آخر يعتقدونه، فالعرب كانت تعتقد أن الليل قبل النهار، بدليل أن تحديد الليلة الأولى في رمضان هو الميعاد الذي يبدأ فيه شهر الصوم، وما داموا قد حكموا بأن الليل هو الذي يسبق النهار، فلابد من حكم مقابل؛ وهو أن النهار لا يسبق الليل.

وجاء القرآن إلى القضية المتفق عليها وتركها، وهي أن النهار لا يسبق الليل مثلما اعتقد العرب، ونفى القرآن أن يسبق الليل النهار.

وكان المخاطب -إذن- يعتقد أن الليل يسبق النهار، ويصحح الله المفاهيم فلا الليل يسبق النهار ولا النهار يسبق الليل.

وهكذا عرض الحق سبحانه للكونيات عرضاً رمزيّاً في القرآن؛ لأنه لو جاء بالتوضيح العلمي لذلك لكَذَّب العرب القرآن، فلو قال القرآن بصريح العبارة: إن الأرض كروية، لعارض الناس ذلك وقت نزول القرآن، وما زلنا نجد من يعارض تلك الحقيقة في أواخر القرن العشرين؛ لذلك لم يكشف الحق كل الحقائق الكونية، بل أشار إليها بما يحتمل قبول العربي البسيط لها.

وما دام لا يسبق النهار، والنهار لا يسبق الليل، فكيف جاء هذا الأمر - إذن؟

ونقول: هل خلق اللهُ الشمسَ مواجهة لسطح الأرض أولاً، ثم غابت الشمس فجاء الليل؟

كان هذا الأمر يصح لو أن الأرض كانت مسطوحة، ولكن الحق سبحانه خلق الأرض كروية، وذلك دليل على أن الحق سبحانه خلق الشمس والأرض على هيئة يوجد فيها الليل والنهار معاً، ولا يكون ذلك إلا إذا كانت الأرض كروية، فالنصف المواجه للشمس يكون الوقت فيه نهاراً، وغير المواجه لها يكون الوقت فيه ليلاً، ثم تدور الأرض؛ فيأتي النهار إلى القسم الذي كان ليلاً، ويأتي الليل للقسم الذي كان نهاراً.

إذن: فالحق سبحانه حكى في القرآن الكريم عن الأمور الكونية -التي سوف تستكشفها العقول بعد نزول القرآن- وعالجها بحكمة ودقة، وعلى سبيل المثال نجد قوله الحق: (وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً) (الفرقان: 62).

ثم يأتي التعليل: (لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً) (الفرقان: 62).

فالليل خلْفة النهار، ومعنى خلفة أي: يخلف غيره.

والمثال من حياتنا نجده في دوريات الحراسة، نجد إنساناً يحرس موقعاً ما -مدّة ست ساعات مثلاً- وبعد انتهاء فترة الحراسة يسلم المهمة لحارس ثان، وبذلك يخلف واحدٌ الآخر، لكن من الذي بدأ المهمة الأولى في الحراسة قبل أن يأتي إنسان ليتسلم منه دورية الحراسة؟

وكذلك الأمر في الليل والنهار، فبيّن الحق سبحانه أن الليل والنهار خِلْفة، ومعنى ذلك أن كلا منهما كان موجوداً من البدء ولأن الأرض تدور جاء النهار في البلاد التي تشرق فيها الشمس، وجاء الليل في البلاد التي تغيب عنها الشمس، وتتابع الليل والنهار.

هكذا فَصَّل الحق سبحانه آياته لنا، وقال سبحانه: (يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

ويقول سبحانه بعد ذلك: (إِنَّ فِي ٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ...).



سورة يونس الآيات من 001-005 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
سورة يونس الآيات من 001-005
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» سورة يونس الآيات من 046-050
» سورة يونس الآيات من 051-055
» سورة يونس الآيات من 056-060
» سورة يونس الآيات من 061-065
» سورة يونس الآيات من 066-070

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـقــــــــــــــرآن الـكـــــــــــــــريـم :: مجمـــوعــة تفاســـــير :: خواطر الشعراوي :: يونس-
انتقل الى: