وبهذا كان يعلل الانهيار السريع الذي تلحقه جيوش الاسلام بالبلاد المفتوحة، افلاس تلك البلاد من روحانية صادقة تعصمها، ودين صحيح يصلها بالله..
ومن هنا أيضا، كان يخشى على المسلمين أياما تنحلّ فيها عرى الايمان، وتضعف روابطهم بالله، وبالحق، وبالصلاح، فتنتقل العارية من أيديهم، بنفس السهولة التي انتقلت بها من قبل اليهم..!!
**
وكما كانت الدنيا بأسرها مجرّد عارية في يقينه، كذلك كانت جسرا الى حياة أبقى وأروع..
دخل عليه أصحابه يعودونه وهو مريض، فوجدوه نائما على فراش من جلد..
فقالوا له:
"لو شئت كان لك فراش أطيب وأنعم.."
فأجابهم وهو يشير بسبّابته، وبريق عينيه صوب الأمام البعيد:
"ان دارنا هناك.. لها نجمع.. واليها نرجع.. نظعن اليها. ونعمل لها"..!!
وهذه النظرة الى الدنيا ليست عند أبي الدرداء وجهة نظر فحسب بل ومنهج حياة كذلك..
خطب يزيد بن معاوية ابنته الدرداء فردّه، ولم يقبل خطبته، ثم خطبها واحد من فقراء المسلمين وصالحيهم، فزوّجها أبو الدرداء منه.
وعجب الناس لهذا التصرّف، فعلّمهم أبو الدرداء قائلا:
"ما ظنّكم بالدرداء، اذا قام على رأسها الخدم والخصيا وبهرها زخرف القصور.. أين دينها منها يومئذ"..؟!
هذا حكيم قويم النفس، ذكي الفؤاد..
وهو يرفض من الدنيا ومن متاعها كل ما يشدّ النفس اليها، ويولّه القلب بها..
وهو بهذا لا يهرب من السعادة بل اليها..
فالسعادة الحقة عتده هي أن تمتلك الدنيا، لا أن تمتلكك أنت الدنيا..
وكلما وقفت مطالب الناس في الحياة عند حدود القناعة والاعتدال وكلما أدركوا حقيقة الدنيا كجسر يعبرون عليه الى دار القرار والمآل والخلود، كلما صنعوا هذا، كان نصيبهم من السعادة الحقة أوفى وأعظم..
وانه ليقول:
"ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يعظم حلمك، ويكثر علمك، وأن تباري الناس في عبادة الله تعالى"..
وفي خلافة عثمان رضي الله عنه، وكان معاوية أميرا على الشام نزل أبو الدرداء على رغبة الخليفة في أن يلي القضاء..
وهناك في الشام وقف بالمرصاد لجميع الذين أغرّتهم مباهج الدنيا، وراح يذكّر بمنهج الرسول في حياته، وزهده، وبمنهج الرعيل الأول من الشهداء والصدّيقين..
وكانت الشام يومئذ حاضرة تموج بالمباهج والنعيم..
وكأن أهلها ضاقوا ذرعا بهذا الذي ينغصّ عليهم بمواعظه متاعهم ودنياهم..
فجمعهم أبو الدرداء، وقام فيهم خطيبا:
"يا أهل الشام.. أنتم الاخوان في الدين، والجيران في الدار، والأنصار على الأعداء..
ولكن مالي أراكم لا تستحيون..؟
تجمعون ما لا تأكلون..
وتبنون ما لا تسكنون..
وترجون ما لا تبلّغون..
وقد كانت القرون من قبلكم يجمعون، فيوعون..
ويؤمّلون، فيطيلون..
ويبنون، فيوثقون..
فأصبح جمعهم بورا..
وأمالهم غرورا..
وبيوتهم قبورا..
أولئك قوم عاد، ملأوا ما بين عدن الى عمان أموالا وأولادا..".
ثم ارتسمت على شفتيه بسمة عريضة ساخرة، ولوّح بذراعه في الجمع الذاهل، وصاح في سخرية لا فحة:
"من يشتري مني تركة آل عاد بدرهمين"..؟!
رجل باهر، رائع، مضيء، حكمته مؤمنة، ومشاعره ورعة، ومنطقه سديد ورشيد..!!
العبادة عند أبي الدرداء ليست غرورا ولا تأليا. انما هي التماس للخير، وتعرّض لرحمة الله، وضراعة دائمة تذكّر الانسان بضعفه.
وبفضل ربه عليه:
انه يقول: "التمسوا الخير دهركم كله.. وتعرّضوا لنفجات رحمة الله، فان لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده.. وسلوا الله أن يستر عوراتكم، ويؤمّن روعاتكم"..
كان ذلك الحكيم مفتوح العينين دائما على غرور العبادة، يحذّر منه الناس.
هذا الغرور الذي يصيب بعض الضعاف في ايمانهم حين يأخذهم الزهو بعبادتهم، فيتألّون بها على الآخرين ويدلّون..
فلنستمع له ما يقول:
"مثقال ذرّة من برّ صاحب تقوى ويقين، أرجح وأفضل من أمثال الجبال من عبادة المغترّين"..
ويقول أيضا:
"لا تكلفوا الناس ما لم يكلفوا.. ولا تحاسبوهم دون ربهم.. عليكم أنفسكم، فان من تتبع ما يرى في الانس يطل حزنه"..!
انه لا يريد للعابد مهما يعل في العبادة شأوه أن يجرّد من نفسه ديّانا تجاه العبد.
عليه أن يحمد الله على توفيقه، وأن يعاون بدعائه وبنبل مشاعره ونواياه أولئك الذين لم يدركوا مثل هذا التوفيق.
هل تعرفون حكمة أنضر وأبهى من حكمة هذا الحكيم..؟؟
يحدثنا صاحبه أبو قلابة فيقول:
"مرّ أبو الدرداء يوماً على رجل قد أصاب ذنباً، والناس يسبُّونه، فنهاهم..
وقال:
أرأيتم لو وجدتموه في حفرة.. ألم تكونوا مخرجيه منها..؟
قالوا
بلى..
قال:
فلا تسبّوه اذن، واحمدوا الله الذي عافاكم.
قالوا:
أنبغضه..؟
قال:
انما أبغضوا عمله، فاذا تركه فهو أخي"..!!
**
واذا كان هذا أحد وجهي العبادة عند أبي الدرداء، فان وجهها الآخر هو العلم والمعرفة..
ان أبا الدرداء يقدّس العلم تقديسا بعيدا.. يقدّسه كحكيم..
ويقدّسه كعابد فيقول:
"لا يكون أحدكم تقيا حتى يكون عالما.. ولن يكون بالعلم جميلا، حتى يكون به عاملا".
أجل..
فالعلم عنده فهم، وسلوك.. معرفة، ومنهج.. فكرة حياة..
ولأن تقديسه هذا تقديس رجل حكيم، نراه ينادي بأن العلم كالمتعلم كلاهما سواء في الفضل، والمكانة، والمثوبة..
ويرى أن عظمة الحياة منوطة بالعلم الخيّر قبل أي شيء سواه..
ها هو ذا يقول:
"مالي أرى العلماء كم يذهبون، وجهّالكم لا يتعلمون؟ ألا ان معلّم الخير والمتعلّم في الأجر سواء.. ولا خير في سائر الناس بعدهما"..
ويقول أيضا:
"الناس ثلاثة.. عالم.. ومتعلم.. والثالث همج لا خير فيه".
وكما رأينا من قبل، لا ينفصل العلم في حكمة أبي الدرداء رضي الله عنه عن العمل.
يقول:
"ان أخشى ما أخشاه على نفسي أن يقال لي يوم القيامة على رؤوس الخلائق: يا عويمر، هل علمت؟
فأقول نعم..
فيقال لي: فماذا عملت فيما علمت"..؟
وكان يجلّ العلماء العاملين ويوقرهم توقيرا كبيرا..
بل كان يدعو ربّه ويقول:
"اللهم اني أعوذ بك أن تلعنني قلوب العلماء.."
قيل له:
وكيف تلعنك قلوبهم؟
قال رضي الله عنه:
"تكرهني"..!
أرأيتم؟
انه يرى في كراهيّة العالم لعنة لا يطيقها.. ومن ثمّ فهو يضرع الى ربه أن يعيذه منها..
وتستوصي حكمة أبي الدرداء بالاخاء خيرا، وتبنى علاقة الانسان بالانسان على أساس من واقع الطبيعة الانسانية ذاتها..
فيقول:
"معاتبة الأخ خير لك من فقده، ومن لك بأخيك كله..؟
أعط أخاك ولن له..
ولا تطع فيه حاسدا، فتكون مثله.
غدا يأتيك الموت، فيكفيك فقده..
وكيف تبكيه بعد الموت، وفي الحياة ما كنت أديت حقه"..؟
ومراقبة الله في عباده قاعدة صلبة يبني عليها أبو الدرداء حقوق الاخاء..
يقول رضي الله عنه وأرضاه:
"اني أبغض أن أظلم أحدا.. ولكني أبغض أكثر وأكثر، أن أظلم من لا يستعين عليّ الا بالله العليّ الكبير"..!!
يا لعظمة نفسك، واشراق روحك يا أبا الدرداء..!!
انه يحذّر الناس من خداع الوهك، حين يظنون أن المستضعفين العزّل أقرب منالا من أيديهم، ومن بأسهم..!
ويذكّرهم أن هؤلاء في ضعفهم يملكون قوّة ماحقة حين يتوسلون الى الله عز وجل بعجزهم، ويطرحون بين يديه قضيتهم، وهو أنهم على الناس..!!
هذا هو أبو الدرداء الحكيم..!
هذا هو أبو الدرداء الزاهد، العابد، الأوّاب..
هذا هو أبو الدرداء الذي كان اذا أطرى الناس تقاه، وسألوه الدعاء
فأجابهم في تواضع وثيق قائلا:
"لا أحسن السباحة.. وأخاف الغرق"..!!
**
كل هذا، ولا تحسن السباحة يا أبا الدرداء..؟
ولكن أي عجب، وأنت تربية الرسول عليه الصلاة والسلام ... وتلميذ القرآن.. وابن الاسلام الأوّل وصاحب أبي بكر وعمر، وبقيّة الرجال..!؟