حـقــوقُ المـريضِ على الطبيبِ
=================
يقول السائل:
ذكرتم في الحلقة الماضية من “يسألونك” أن واجبَ الطبيبِ أن يحترم مريضه وأن يعاملهُ معاملةً كريمةً، وأن يعطيه حقوقَهُ، فهل لكم أن تُبيِّنوا لنا حقوقَ المريض على طبيبه الذي يُعالجه، أفيدونا؟
الجواب: أولاً:
لابد أن أبينَ ابتداءً أن من واجبِ الطبيب أن يتعرفَ على الأحكام الشرعية بشكلٍ عامٍ، وخاصةً الأحكام الفقهية اللازمة لممارسة الطبيب المسلم لمهنته، وهي المسمَّاة بالفقه الطبي، وقد لقي هذا الموضوع عنايةً كبيرةً من فقهاء الإسلام قديماً وحديثاً، وتناوله العلماء تحت عناوين مختلفة من أهمها: “الطب النبوي” ككتب ابن القيم وأبي نعيم الأصفهاني وللذهبي وغيرهم.
وفي الوقت الحاضر هنالك عددٌ كبيرٌ من الكتب والأبحاث والمقالات التي تتعلق بالفقه الطبي، وهنالك اهتمامٌ كبيرٌ بالقضايا الطبية المعاصرة، وقد عُقدت المؤتمراتُ العلميةُ والشرعيةُ لمناقشتها، وقدمت فيها أبحاثٌ كثيرةٌ، كما صدرت قراراتٌ عن المجامع الفقهية، كما أن كليات العلم الشرعي تهتم بهذا المجال، وخاصة في برامج الماجستير كما هو الحال في ماجستير الفقه والتشريع في كلية الدعوة وأصول الدين في جامعة القدس، حيث يُدرس مساق القضايا الطبية المعاصرة، وقد أشرفتُ على رسالة ماجستير بعنوان: ”مناقشة القرارات الطبية المعاصرة لمجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي دارسة فقهية مقارنة ” للطالبة ديما النشاشيبي، وغير ذلك كثيرٌ، ولا يتسع المقام للتفصيل.
ثانياً:
إن الطبيب الذي نريدهُ هو الطبيبُ الملتزم بدينه أولاً، والكفءُ في علمه بالطب ثانياً، وخاصةً أطباء التخصص. ونريدُ الطبيب الذي يواكبُ تطورَ العلوم الطبية، ويمارس مهنته وفق المستجدات في عالم الطب، ولا بأس أن أذكر وصف الطبيب المسلم كما تبنته الجمعية الطبية الإسلامية بأمريكا الشمالية، الذي يعكس الفكرة الإسلامية لآداب مهنة الطب.
فالطبيب المسلم:
[يجب أن يؤمن بالله وبتعاليم الإسلام وسلوكياته في حياته الخاصة والعامة.
وأن يكون عارفاً لجميل والديه ومعلميه، ومن هم أكبر منه.
وأن يكون بسيطاً متواضعاً رفيقاً رحيماً صبوراً متحملاً.
وأن يسلك الطريق المستقيم، ويطلب من الله دوام التوفيق.
وأن يظل دائماً على درايةٍ بالعلوم الطبية الحديثة، وينمِّي مهارته باستمرارِ طلب العون عندما يلزمه ذلك.
وأن يستشعر أن الله هو الذي يخلق ويملك جسد المريض وعقله فيعامل المريض في إطار تعاليم الله متذكراً أن الحياة هي هبةُ الله للإنسان، وأن الحياة الآدمية تبدأُ من لحظة الإخصاب، ولا يمكن سلبُها إلا بيد الله أو برخصةٍ منه.
ويتذكر أن الله يراقبُ كل فكرٍ وعمل.
وأن يلتزم بالقوانين التي تنظمُ مهنته.
وأن يتبع أوامرَ الله كمنهجٍ وحيدٍ، حتى لو اختلفت مع متطلبات الناس أو رغبات المريض.
وألا يصفَ أو يعطيَ أي شيءٍ ضارٍ.
وأن يُقدمَ المساعدة اللازمة دون اعتبارٍ للقدرة المادية أو أصل المريض أو عمله.
وأن يُقدمَ النصيحةَ اللازمة للجسم والعقل.
وأن يحفظ سرَّ المريض.
وأن يتوخى الأسلوب المناسب في التخاطب.
وأن يفحص المريضَ من الجنس الآخر في وجود شخصٍ ثالثٍ ما تيسر ذلك.
وألا ينتقدَ زملاءَه الأطباء أمام المرضى، أو العاملين في الحقل الطبي.
وأن يسعى دائماً إلى تبني الحكمةِ في كل قراراته]
مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 8 ج 3/114.
ثالثاً:
حقوق المريض على طبيبه الذي يعالجه كثيرةٌ، درسها عددٌ من الباحثين، وتناولها الميثاقُ الإسلامي العالمي للأخلاقيات الطبية والصحية، ويوجد اليوم قوانين وتعليمات تبين حقوقَ المرضى، وتحرصُ المستشفيات والمراكز الطبية على نشر لائحةِ حقوق المرضى في مكانٍ ظاهرٍ للمراجعين، وينبغي التذكيرُ بأن الطبيب والمستشفى والمركز الطبي إنما يقدمون خدماتٍ للمرضى، فلابدَّ من تطبيق معايير الجودة العالمية المتعلقة بحقوق المرضى، مع تأصيلها شرعاً.
ونظراً لاتساع الموضوع فسأذكرُ أهم حقوق المريض على طبيبه باختصار:
(1) أن يلتزم الطبيبُ بآداب المقابلة الطبية، وبالذات المقابلة الأولى مع مريضه، من حيث التحية وردّ السلام، والبشاشة والتبسم وطلاقة الوجه وحسنِ استقبال المريض.
(2) أن يُحسنَ الطبيبُ الاستماعَ لشكوى مريضه، وأن يعطيه الوقتَ الكافي لعرض شكواه دون مقاطعة، وأن لا ينشغلَ عنه بالردِّ على الهاتف أو ينشغل بالكمبيوتر وغير ذلك، ولا شكَّ أن حُسنَ استماع الطبيبِ لمريضه يُؤثرُ في ثقة المريض بطبيبه، وعلى الطبيب أن يحرص على أن لا يُشعرَ مريضه بأنه في عجلةٍ من أمره.
(3) أن يعامل الطبيبُ مريضه بتواضعٍ وأن لا يتعالى أو يتكبر عليه.
ورد في المادة (2) من الميثاق الإسلامي العالمي للأخلاقيات الطبية والصحية:
[على الطبيب أن يُحْسن الاستماعَ لشكوى المريض ويتفهَّمَ معاناته، وأن يُحسنَ معاملته ويرفقَ به أثناء الفحص.
ولا يجوز له أن يتعالى على المريض أو ينظر إليه نظرةً دونيَّةً أو يستهزئ به أو يسخرَ منه، مهما كان مستواه العلمي والاجتماعي، وأياً كان انتماؤُه الديني أو العِرْقي.
وعليه أن يحترم وجهة نظر المريض، لاسيَّما في الأمور التي تتعلق به شخصياً، على أن لا يحولَ ذلك دون تزويد المريض بالتوجيه المناسب].
(4) أن يقوم الطبيب بفحص مريضه وفق المقتضيات الطبية، وأن يعطي الفحوصات الوقت اللازم لها حسب الأعراف الطبية، ولا يكتفي بالكلام فقط والحرص على إنهاء المقابلة في أقصر وقت.
(5) يجب على الطبيب أن يحرص على مراعاة خصوصية المريض، فلا يكون معه عند الفحص شخصٌ لا حاجة لوجوده كالممرضة إذا كان المريضُ رجلاً، وأن يحرص الطبيبُ على فحص المرأة بوجود شخصٍ ثالث، ولا تجوز الخلوةُ بالمرأة أثناء الفحص.
(6) أن يحرص الطبيب على عدم كشف العورات أثناء الفحص الطبي، للرجل وللمرأة إلا ما كان لا بد منه للفحص الطبي.
(7) لابدَّ للطبيب من أخذ إذنِ المريضِ قبل أي ممارسةٍ طبيةٍ إلا في حالاتٍ خاصة، والمقصود بذلك هو موافقةُ المريض أو وليهُ على الإجراءات الطبية اللازمة لعلاجه، فالأصلُ عدم جواز معالجة المريض إلا بإذنه أو إذن وليه عند الحاجة، ويستثنى من ذلك الحالات الخطرة، التي لا يمكن فيها أخذُ إذن المريض ولا وليه, وكذلك حالات الأمراض المعدية،فلا بدَّ من علاجها ولو بغير إذن المريض.
انظر أحكام الإذن الطبي.
ويدخل تحت إذن المريض الإطلاع على عورته، فلا يجوز للطبيب ذلك إلا بعد استئذان المريض كما ورد في قرار مجمع الفقه الإسلامي: [يشترط إذن المريض للعلاج إذا كان تام الأهلية].
(8) من واجبات الطبيب أن يكتمَ أسرارَ المريض، فلا يبوح بها إلا في حالاتٍ خاصةٍ، ومعلومٌ أن المريض يركنُ إلى طبيبه ويفضي إليه بأسرارٍ لا يكشفها لغيره.
(9) واجبٌ على الطبيب أن يقتصر على طلب الفحوصات والتحاليل اللازمة للمريض وفق المقتضى الطبي، وأن لا يزيد فيها بناءً على أي مصلحةٍ قد تتحقق للطبيب أو لغيره، كاتفاق الطبيب مع مختبرٍ معينٍ لتحويل المرضى إليه.
ورد في المادة (5) من الميثاق الإسلامي العالمي للأخلاقيات الطبية والصحية:
[على الطبيب أن يحرص على إجراء الفحوص الطبية اللازمة للمريض، دون إضافة فحوصٍ لا تتطلَّبها حالته المرضية.
وعليه أن يبني كل إجراءاته التشخيصية والعلاجية على أفضل ما يمكن من البيِّنات، وأن يمتنع عن استخدام طرقٍ تشخيصيةٍ أو علاجيةٍ غير معتمدة، أو غير متعارَفٍ عليها، أو غير مُعْتَرَفٍ بها علمياً.
كما أن عليه أن يقتصر في وصف الدواء أو إجراء العمليات الجراحية على ما تتطلَّبه حالة المريض].
(10) واجبٌ على الطبيب أن يقوم بوصف الأدوية اللازمة لمعالجة مريضه فقط، وأن لا يصف أدوية لا يحتاج إليها المريض من حيث النوعية والكمية،ويجب شرعاً أن يكون وصفُ الطبيبِ الدواءَ للمريض حسب حالة المريض وفي مصلحته، ولا يكون مبنياً على ملاحظة مصلحةٍ للطبيب أو لشركات الأدوية.
والمريض أمانةٌ بين يدي طبيبه، فإذا وصف الطبيبُ دواءً للمريض على خلاف مصلحة المريض، من أجل تسويق نوعٍ من الأدوية، فإن الطبيب يكون غاشاً لمريضه، ومن المعلوم أن من قواعد المعاملات في الشريعة الإسلامية تحريمُ الغشِّ والخديعة، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ غشَّنا فليس منا) رواه مسلم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(مَنْ غشَّنا فليس مِنَّا والمكر والخداع في النار) رواه ابن حبان والطبراني وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/164، كما أن ذلك يعتبرُ خيانةً للأمانة وهي محرمةٌ شرعاً.
(11) من حق المريض على طبيبه الحصولُ على المعلومات الكاملة المتعلقة بمرضه.
ورد في المادة (6) من الميثاق الإسلامي العالمي للأخلاقيات الطبية والصحية: [على الطبيب أن يحرص على تحرِّي الصدق في إخبار المريض أو من ينوب عنه بالحالة المرضية وأسبابها ومضاعفاتها، وفائدة الإجراءات التشخيصية والعلاجية، وتعريفهم بالبدائل المناسبة للتشخيص أو العلاج، بأسلوبٍ إنساني ولائقٍ ومبسَّطٍ وواضحٍ، وذلك بالقدْرِ الذي تسمح به حالةُ المريض الجسمية والنفسية].
(12) من حقِّ المريض على طبيبه أن يحيلهُ إلى طبيبٍ آخر في حال أنه لم يتمكن من علاجه لأي سببٍ كان.
ورد في المادة (7) من الميثاق الإسلامي العالمي للأخلاقيات الطبية والصحية:
[على الطبيب أن لا يتردَّد في إحالة المريض إلى طبيبٍ مختصٍّ بنوع مرضه، أو إلى طبيبٍ لديه وسائل أكثر فعاليةً، إذا استدعت حالةُ المريض ذلك، أو إلى طبيبٍ آخر يرغبُ المريضُ في استشارته.
ولا يجوز للطبيب أن يتباطأ في الإحالة إذا كان ذلك في مصلحة المريض.
وعليه أن يتيح المعلومات المدوَّنة بسجله الطبي والتي يعتقد أنها لازمةٌ لعلاج المريض، عند إحالته إلى طبيبٍ آخر، وأن يزوِّده بالتقرير الطبي الوافي عن حالته المرضيَّة].
(13) من حقِّ المريض الذي يدفعُ أجر الطبيب ”الكشفية” أن تكون التسعيرةُ مكافأةً للخدمة الطبية التي يحصل عليها المريض، فلا يُقبل أن يتقاضى الطبيب المختص مئةَ شيكل كشفية، ولا يتجاوز مكثُ المريضُ في العيادة إلا أقلَّ من خمس دقائق!وقد حدثني أحدُ الزملاء الثقات أنه راجع طبيباً مختصاً، فتقاضى منه مبلغ 200 شيكل، ولم يقم بالفحص المطلوب، وطلب منه أن يراجعه في مستشفى خاصٍ، ولم تستغرق المقابلة سوى خمس دقائق! فعلى الأطباء أن يتقوا الله في المرضى، وأنه لا بدَّ من مراعاة المريض الفقير.
رابعاً:
ينبغي تذكيرُ الأطباء المحترمين بالقَسَمِ الذي أقسموا عليه عندما تخرجوا من كليات الطب:
[أُقْسِمُ باللهِ العَظِيمْ أن أراقبَ اللّهَ في مِهنَتِي.
وأن أصُونَ حياة الإنسان في كافّةِ أدوَارهَا في كل الظروف والأحَوال بَاذِلاً وسْعِي في استنقاذها مِن الهَلاكِ والمرَضِ والألَم والقَلق.
وأن أَحفَظ لِلنّاسِ كَرَامَتهُم، وأسْتر عَوْرَتهُم، وأكتمَ سِرَّهُمْ.
وأن أكونَ عَلى الدوَام من وسائِل رحمة الله، باذلاً رِعَايَتي الطبية للقريب والبعيد، للصالح والخاطئ، والصديق والعدو.
وأن أثابر على طلب العلم، أُسَخِره لنفعِ الإنسَان… لا لأذَاه.
وأن أُوَقّرَ مَن عَلَّمَني، وأُعَلّمَ مَن يَصْغرُني.
وأكون أخاً لِكُلِّ زَميلٍ في المِهنَةِ الطِبّيّة مُتعَاونِينَ عَلى البرِّ والتقوى.
وأن تكون حياتي مِصْدَاق إيمَاني في سِرّي وَعَلانيَتي، نَقيّةً مِمّا يُشينهَا تجَاهَ الله وَرَسُولِهِ وَالمؤمِنين.
والله على ما أقول شهيد].
وخلاصة الأمر:
أن من واجبِ الطبيب أن يتعرفَ على الأحكام الشرعية بشكلٍ عامٍ، وخاصةً ما يتعلق بالفقه الطبي.
وأن الطبيب الذي نريدهُ هو الطبيبُ الملتزمُ بدينه أولاً، والكفءُ في علمه بالطب ثانياً، والمواكبُ لتطورِ العلوم الطبية.
وأن حقوق المريض على طبيبه الذي يعالجه كثيرةٌ بينها عددٌ من الباحثين، وتناولها الميثاقُ الإسلامي العالمي للأخلاقيات الطبية والصحية.
وأنه لابدَّ من تطبيق معايير الجودة العالمية المتعلقة بحقوق المرضى مع تأصيلها شرعاً.
والله الهادي إلى سواء السبيل.