وثبت في الصحيحين:
أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظلّه..»، وذكر منهم: «رجل قلبه معلَّق في المساجد» [أخرجه: البخاري في كتاب الأذان، (2/143)، رقم (660)، ومسلم في كتاب الزكاة، (2/715،716)، رقم (1031)].
قال الحافظ ابن حجر:
"إشارة إلى طول الملازمة بقلبه وإن كان جسده خارجاً عنه" [فتح الباري، (145/2)].
ولاحِظْ هذا التعبير البليغ:
"قلبه معلّق"، وهذا يعني: أنه دائم الصلة بالله تعالى، دائم الاستحضار لأوامره، لا يشغله عن ذلك شاغل، ولا يصرفه عنه صارف، ولهذا قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ . رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36-37].
وثبت في الحديث الصحيح:
عن عائشة رضي الله عنها: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكون في مهنة أهله -تعني: خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة" [أخرجه: البخاري في كتاب الأذان، (2/162)، رقم (676)].
ويصف الإمام ابن القيم الافتقار إلى الله تعالى بقوله:
"يتخلى بفقره أن يتألَّه غير مولاه الحق، وأن يُضيع أنفاسه في غير مرضاته، وأن يُفرق همومه في غير محابه، وأن يُؤْثر عليه في حال من الأحوال، فيوجب له هذا الخلق وهذه المعاملة صفاء العبودية، وعمارة السر بينه وبين الله، وخلوص الود، فيصبح ويمسي ولا هّم له غير ربه، فقد قطع همُّه بربه عنه جميع الهموم، وعطلت إرادته جميع الإرادات، ونسخت محبته له من قلبه كل محبة لسواه" [طريق الهجرتين، (ص 18)].
ومن تعلّق قلبه بربه وجد لذة في طاعته وامتثال أمره لا تدانيها لذة:
"فأوامر المحبوب قرة العيون، وسرور القلوب، ونعيم الأرواح، ولذات النفوس، وبها كمال النعيم، فقرُّة عين المحب في الصلاة والحج، وفرح قلبه وسروره ونعيمه في ذلك، وفي الصيام والذكر والتلاوة، وأما الصدقة فعجب من العجب، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والصبر على أعداء الله سبحانه؛ فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف، ولا يدركه مَنْ ليس له نصيب منه، وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم" [طريق الهجرتين، (ص 70)].
وأعظم الناس ضلالاً وخساراً:
مَنْ تعلّق قلبه بغير الله تعالى، ويزداد ضلاله وخساره بزيادة تعلُّقه بغير مولاه الحق، ولهذا كان ركون العبد إلى الدنيا أو إلى شيء من زخرفها آية من آيات العبودية لها، قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي منها رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا ِشيكَ فلا انتقش» [أخرجه: البخاري في كتاب الجهاد، (6/81)، رقم (2887)].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"كل مَنْ علَّق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه، أو يرزقوه، أو أن يهدوه؛ خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً متصرفاً بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له؛ يبقى قلبه أسيراً لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها؛ لأنه زوجها، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه.
فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استُعبد بدنه واستُرق لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً، وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقاً مستعبداً متيماً لغير الله؛ فهذا هو الذل والأسر المحض، والعبودية لما استعبد القلب"، ثم قال: "ومن أعظم هذا البلاء إعراض القلب عن الله، فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له؛ لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب" [مجموع الفتاوى، (10/ 185،187)].
وقال الإمام ابن القيم:
"أعظم الناس خذلاناً مَنْ تعلّق بغير الله، فإنَّ ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه؛ أعظم مما حصل له مِمَّنْ تعلّق به، وهو معرَّض للزوال والفوات.
ومثل المتعلق بغير اللَّه كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت أوهن البيوت" [مدارج السالكين، (1/458)].
ثالثاً:
مداومة الذكر والاستغفار:
فقلب العبد المؤمن عاكف على ذكر مولاه، والثناء عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى في كل حال من أحواله، دائم التوبة والاستغفار عن الزلل أو التقصير، يجد لذته وأنسه بتلاوة القرآن، ويرى راحته وسكينته بمناجاة الرحمن.
قال الله تعالى:
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} [الرعد:28].
وقد وصف الله عز وجل أهل الإيمان بقوله:
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون} [الزمر:9].
وقوله:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190-191].
كما أمر الله عز وجل نبيه بمداومة الذكر والاستغفار، فقال سبحانه:
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر:55].
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«يا أيها الناس! توبوا إلى اللَّه؛ فإني أتوب إليه في اليوم مئة مرة» [أخرجه: مسلم في كتاب الذكر، (4/ 2075،2076)، رقم (2702)].
وقال عليه الصلاة والسلام:
«والله ! إني لأستغفر الله وأتوب في اليوم أكثر من سبعين مرة» لبخاري في كتاب الدعوات، (11/101)، رقم (6307)).
[color=#ff0000]وقال:
«إنه ليُغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة» (أخرجه: مسلم في كتاب الذكر، (4/2075)، رقم (2702)].
إنَّ مداومة الذكر والاستغفار آية من آيات الافتقار إلى الله تعالى:
فالعبد يجتهد في إظهار فاقته وحاجته وعجزه، ويمتلئ قلبه مسكنة وإخباتاً، ويرفع يديه تذللاً وإنابة؛ فهو ذاكر لله تعالى في كل شأنه، في حضره وسفره، ودخوله وخروجه، وأكله وشربه، ويقظته ونومه، بل حتى عند إتيانه أهله، فهو دائم الافتقار لعون الله تعالى وفضله، لا يغفل ساعة ولا أدنى من ذلك عن الاستعانة به والالتجاء إليه.
ومقتضى ذلك أنه لا يركن إلى نفسه، ولا يطمئن إلى حوله وقوته، ولا يثق بماله وجاهه وصحته، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: «اللهم لا تكلهم إليَّ فأضعف، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولا تكلهم إلى الناس فيستأثروا عليهم» [أخرجه: أحمد، (37/151)، رقم (248)، وأبو داود في كتاب الجهاد، (3/97)، رقم (2535)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (2/482)، لكن ضعفه الأرناؤوط، في تحقيقه للمسندٍ].
وعن أبي بكرة رضي الله عنهما:
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو؛ فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، أصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت» [أخرجه: أحمد، (34/75)، رقم (20429)، وأبو داود في كتاب الأدب، (4/324)، رقم (5090)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، رقم (4246)، والأرناؤوط في تحقيقه للمسند].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها: «ما يمنعكِ أن تسمعي ما أوصيكِ به؟! أن تقولي إذا أصبحتِ وإذا أمسيتِ: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، وأصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً» [أخرجه: ابن السنّي في عمل اليوم والليلة، رقم 46، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (227)].
تأمل أذكار النبي صلى الله عليه وسلم وأدعيته تر عجباً في هذا الباب:
ففي سيد الاستغفار تتجلى أعظم معاني العبودية، وتبرز أسمى معاني الانكسار والتذلل: «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي، اغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» [أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، (11/98)، رقم (6306)].
وتأمل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وتذللـه إذا قام من الليل يتهجد ويناجي ربه، قال:
«اللهم لك الحمد أنت قيَّم السموات والأرض ومن فيهنَّ، ولك الحمد لكَ مُلْك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، ولك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، أو لا إله غيرك» [أخرجه: البخاري في كتاب التهجد (3/3)، رقم (1120)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين (1/532)، رقم (769)].
إنَّ حمد الله تعالى وشكره، والثناء عليه بما هو أهله، مع الاعتراف بالذنب والعجز؛ يعمّر القلب بالنور، ويوجب له الطمأنينة والسعادة، وما أجمل كلام الإمام ابن القيم عندما قال: "إن في القلب خلة وفاقة لا يسدَّها شيء ألبته إلا ذكر الله عز وجل، فإذا صار الذكر شعار القلب بحيث يكون هو الذاكر بطريق الأصالة، واللسان تبع له، فهذا هو الذكر الذي يسدّ الخلة ويغني الفاقة، فيكون صاحبه غنياً بلا مال، عزيزاً بلا عشيرة، مهيباً بلا سلطان.
فإذا كان غافلاً عن ذكر الله عز وجل؛ فهو بضد ذلك، فقير مع كثرة جدته، ذليل مع سلطانه، حقير مع كثرة عشيرته" [الوابل الصيب، (ص 139)].
رابعاً: الوجل من عدم قبول العمل:
فمع شدة إقبال العبد على الطاعات، والتقرب إلى الله بأنواع القربات؛ إلا أنه مشفق على نفسه أشد الإشفاق، يخشى أن يُحرم من القبول، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60]: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟! قال: «لا يا ابنة الصديق! ولكنهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات» [أخرجه أحمد، (42/156،456)، رقم (25263 و 25705)، و الترمذي في تفسير القرآن، (5/327)، رقم (3175)، و ابن ماجه في الزهد، (2/1404)، رقم (4198)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (162)].
فعلى الرغم من حرصهم على أداء هذه العبادات الجليلات فإنهم لا يركنون إلى جهدهم، ولا يدلون بها على ربهم، بل يزدرون أعمالهم، ويظهرون الافتقار التام لعفو الله ورحمته، وتمتلئ قلوبهم مهابة ووجلاً، يخشون أن ترد أعمالهم عليهم، والعياذ بالله، ويرفعون أكف الضراعة ملتجئين إلى الله يسألونه أن يتقبل منهم.
وتتأكد هذه الحقيقة عند أهل الإيمان بأربعة أمور: الأول:
أنَّ اللّه عز وجل غني عن طاعات العباد:
فاللّه جل وعلا غني عن عباده، وليس في حاجة إلى عبادتهم وطاعاتهم، قال الله عز وجل: {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان:12]، وقال تعالى: {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7]، وقال تعالى: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]، وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم:8].