زيد بن حارثة - لم يحبّ حبّه أحد
==================
وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يودع جيش الإسلام الذَّاهب لملاقاة الروم في غزوة مؤتة ويعلن أسماء أمراء الجيش الثلاثة، قائلاً: "عليكم زيد بن حارئة... فان أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب... فإن أصيب جعفر، فعبد الله بن رواحة".

فمَنْ هو زيد بن حارثة"...؟ مَنْ هذا الذي حمل دون سواه لقب الحِبَّ... حِبَّ رسول الله...؟

أما مظهره وشكله، فكان كما وصفه المؤرخون والرواة:
قصير، آدم، أي أسمر، شديد الأدمة، في أنفه فطس"...

أمّا نبؤه، فعظيم جدّ عظيم...!!
أعدّ حارثة أبو زيد الرَّاحلة والمتاع لزوجته سعدى التي كانت تزمع زيارة أهلها في بني معن... وخرج يودع زوجته التي كانت تحمل بين يديها طفلهما الصغير زيد بن حارثة، وكلما همَّ أن يستودعهما القافلة التي خرجت الزوجة في صحبتها ويعود هو إلى داره وعمله، ودفعه حنان خفيٌّ وعجيب لمواصلة السير مع زوجته وولده...

لكنّ الشُقّة بعُدت، والقافلة أغذّت سيرها، وآن لحارثة أن يودِّع الوليد وأمَّه، ويعود...

وهكذا ودَّعهما ودموعه تسيل... ووقف طويلاً مسمراً في مكانه حتى غابا عن بصره، وأحسّ كأن قلبه لم يعد في مكانه... كأنه رحل مع الراحلين...!!

ومكثت سعدى في قومها ما شاء الله لها أن تمكث... وذات يوم فوجئ الحيّ، حي بني معن، باحدى القبائل المناوئة له تُغِيرُ عليه، وتُنزل الهزيمة ببني معن، ثم تحمل فيما حملت من الأسرى ذلك الطفل اليافع، زيد بن حارثة... وعادت الأم الى زوجها وحيدة...

ولم يكد حارثة يعرف النبأ حتى خرَّ صعِقاً، وحمل عصاه على كاهله، ومضى يجوب الديار، ويقطع الصحارى، ويسائل القبائل والقوافل عن ولده وحبّة قلبه زيد، مسايّا نفسه، وحادياً ناقته...

وبهذا الشعر الذي راح ينشده من بديهته ومن مآقيه:
بكيت على زيد ولــــــــم ادر ما فعل
أحيّ فترجى؟ أم أتى دونـــــه الأجل
فوالله مــــــــــــا أدري، واني لسائل
أغالك بعدي السهل؟ أم غالك الجبل
تذكرينه الشمس عنـــــــــد طلوعها
وتعرض ذكراه اذا غربهــــــــــا أفل
وان هبّت الأرواح هيّــــــــجن ذكره
فيا طول حزني عليـــــــه، ويا وجل

كان الرِّق في ذلك الزمان البعيد يفرض نفسه كظرف اجتماعي يحاول أن يكون ضرورة... كان ذلك في أثينا، حتى في أزهى عصور حريّتها ورقيّها... وكذلك كان في روما... وفي العالم القديم كله... وبالتالي في جزيرة العرب أيضاً...

وعندما اختطفت القبيلة المغيرة على بني معن نصرها، وعادت حاملة أسراها، ذهبت الى سوق عكاظ التي كانت منعقدة أنئذ، وباعوا الأسرى... ووقع الطفل زيد في يد حكيم بن حزام الذي وهبه بعد أن اشتراه لعمته خديجة.

وكانت خديجة رضي الله عنها، قد صارت زوجة لمحمد بن عبد الله، الذي لم يكن الوحي قد جاءه بعد...

بيد أنه كان يحمل كل الصفات العظيمة التي أهلته بها الأقدار ليكون غداً من المُرسلين...

ووهبت خديجة بدورها خادمها زيد لزوجها رسول الله فتقبَّله مسروراً وأعتقه من فوره، وراح يمنحه من نفسه العظيمة ومن قلبه الكبير كل عطف ورعاية...

وفي أحد مواسم الحج... التقى نفر من حيّ حارثة بزيد في مكة، ونقلوا إليه لوعة والديه، وحمّلهم زيد سلامه وحنانه وشوقه لأمه وأبيه...

وقال للحُجَّاج من قومه:
"أخبروا أبي أني هنا مع أكرم والد"...

ولم يكن والد زيد يعلم مستقر ولده حتى أغذّ السير اليه، ومعه أخوه... وفي مكة مضيا يسألان عن محمد الأمين...

ولمَّا لقياه قالا له:
"يا بن عبد المطلب... يا بن سيّد قومه، أنتم أهل حرم، تفكون العاني، وتطعمون الأسير... جئناك في ولدنا، فامنن علينا وأحسن في فدائه"...

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم تعلّق زيد به، وكان في نفس الوقت يقدِّر حق ابيه فيه...

هنالك قال حارثة:
"ادعوا زيداً، وخيِّروه، فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء... وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على مَنْ اختارني فداء"..!!

وتهلَّل وجه حارثة الذي لم يكن يتوقع كل هذا السماح وقال:
"لقد أنصفتنا، وزدتنا عن النصف"...

ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى زيد...

ولما جاء سأله:
"هل تعرف هؤلاء"...؟

قال زيد:
نعم.. هذا أبي.. وهذا عمّي.

وأعاد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ما قاله لحارثة...

وهنا قال زيد:
"ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت الأب والعم"..!!

ونديت عينا رسول الله بدموع شاكرة وحانية، ثم أمسك بيد زيد، وخرج به إلى فناء الكعبة، حيث قريش مجتمعة هناك...

ونادى الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
"اشهدوا أن زيداً ابني.. يرثني وأرثه"..!!

وكاد قلب حارثة يطير من الفرح... فابنه لم يعد حرًّا فحسب، بل وابناً للرجل الذي تُسمِّيه قريش الصادق الأمين سليل بني هاشم وموضع حفاوة مكة كلها...

وعاد الأب والعم إلى قومهما، مطمئنين على ولدهما والذي تركاه سيّداً في مكة، آمناً معافى، بعد أن كان أبوه لا يدري: أغاله السهل، أم غاله الجبل..!!

تبنَّى الرسول -صلى الله عليه وسلم- زيداً... وصار لا يُعرف في مكة كلها إلا باسمه هذا زيد بن محمد...

وفي يوم باهر الشروق، نادى الوحي محمداً:
(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم)...

ثم تتابعت نجاءاته وكلماته:
(يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربّك فكبّر)...

(يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل اليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته، والله يعصمك من الناس، إن الله لا يهدي القوم الكافرين)...

وما إن حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعة الرسالة حتى كان زيدٌ ثاني المسلمين.. بل قيل إنه كان أول المسلمين...!!

أحبَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً عظيماً، وكان بهذا الحب خليقاً وجديراً... فوفاؤه الذي لا نظير له، وعظمة روحه، وعفّة ضميره ولسانه ويده... كل ذلك وأكثر من ذلك كان يزين خصال زيد بن حارثة أو زيد الحِبّ كما كان يلقبه أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام...

تقول السيّدة عائشة رضي الله عنها:
"ما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم في جيش قط إلا أمَّره عليهم، ولو بقي حيّا بعد رسول الله لاستخلفه...

إلى هذا المدى كانت منزلة زيد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فمن كان زيد هذا..؟

انه كما قلنا ذلك الطفل الذي سبي، ثم بيع، ثم حرره الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأعتقه... وإنه ذلك الرجل القصير، الأسمر، الأفطس الأنف، بيد أنه أيضاً ذلك الإنسان الذي"قلبه جميع وروحه حر"...

ومن ثَمَّ وجد له في الإسلام، وفي قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى منزلة وأرفع مكان، فلا الإسلام ولا رسوله -صلى الله عليه وسلم- مَنْ يعبأ لحظة بجاه النسب، ولا بوجاهة المظهر...

ففي رحاب هذا الدين العظيم، يتألق بلال، ويتألق صهيب، ويتألق عمار وخبّاب وأسامة وزيد... يتألقون جميعا كأمراء، وقادة...

لقد صحح الإسلام، قيم الحياة حين قال في كتابه الكريم:
(إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم)...

وفتح الأبواب والرحاب للمواهب الخيّرة، وللكفايات النظيفة، الأمينة، المعطية... وزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً من ابنة عمته زينب، ويبدو أن زينب رضي الله عنها قد قبلت هذا الزواج تحت وطأة حيائها أن ترفض شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ترغب بنفسها عن نفسه...

ولكن الحياة الزوجية أخذت تتعثر، وتستنفد عوامل بقائها، فانفصل زيد عن زينب... وحمل الرسول صلى الله عليه وسلم مسؤوليته تجاه هذا الزواج الذي كان مسؤولاً عن إمضائه، والذي انتهى بالانفصال، فضمَّ ابنة عمته إليه واختارها زوجة له، ثم اختار لزيد زوجة جديدة هي أم كلثوم بنت عقبة...

وذهب الشانئون يرجفون في المدينة:
كيف يتزوّج محمد مطلقة ابنه زيد؟

فأجابهم القرآن مفرّقا بين الأدعياء والأبنياء...  بين التبني والبنّوة، ومقرراً إلغاء عادة التبني، ومعلناً:
(ما كان مُحَمَّدٌ أبا أحدٍ من رجالكم، ولكن رسولَ اللهِ، وخاتم النبيين)...

وهكذا عاد لزيد اسمه الأول:
"زيد بن حارثة".

والآن... هل ترون هذه القوات المسلمة الخارجة إلى معارك، الطرف، أو العيص، وحسمي، وغيرها... ان أميرها جميعاً، هو زيد بن حارثة... فهو كما سمعنا السيدة عائشة رضي الله عنها تقول: "لم يبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في جيش قط، إلا جعله أميراً على هذا الجيش"...

حتى جاءت غزوة مؤتة...
كان الروم بأمبراطوريتهم الهرمة، قد بدأوا يتوجسون من الإسلام خيفة... بل صاروا يرون فيه خطراً يهدد وجودهم، ولاسيما في بلاد الشام التي يستعمرونها، والتي تتاخم بلاد هذا الدين الجديد، المنطلق في عنفوان واكتساح... وهكذا راحوا يتخذون من الشام نقطة وثوب على الجزيرة العربية، وبلاد الإسلام...

وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم هدف المناوشات التي بدأها الروم ليعجموا بها عود الإسلام، فقرَّر أن يبادرهم، ويقنعهم بتصميم الإسلام إلى أرض البلقاء بالشام، حتى اذا بلغوا تخومها لقيتهم جيوش هرقل من الروم ومن القبائل المستعربة التي كانت تقطن الحدود...

ونزل جيش الروم في مكان يسمَّى مشارف...

في حين نزل جيش الاسلام بجوار بلدة تسمَّى مؤتة، حيث سمّيت الغزوة باسمها...

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك أهمية هذه الغزوة وخطرها فاختار لها ثلاثة من الرهبان في الليل، والفرسان في النهار...

ثلاثة من الذين باعوا أنفسهم لله فلم يعد لهم مطمع ولا أمنية إلا في استشهاد عظيم يصافحون اثره رضوان الله تعالى، ويطالعون وجهه الكريم...

وكان هؤلاء الثلاثة وفق ترتيبهم في إمارة الجيش هم:
زيد بن حارثة...
جعفر بن أبي طالب...
عبد الله بن رواحة...

رضي الله عنهم وأرضاهم، ورضي الله عن الصحابوة أجمعين...

وهكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وقف يودِّع الجيش يلقي أمره السالف:
"عليكم زيد بن حارثة... فان أصيب زيد، فجعفر بن أبي طالب،... فان أصيب جعفر، فعبد الله بن رواحة"...

وعلى الرغم من أن جعفر بن أبي طالب كان من أقرب الناس إلى قلب ابن عمِّه رسول الله صلى الله عليه وسلم... وعلى الرغم من شجاعته، وجسارته، وحسبه ونسبه، فقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمير التالي لزيد، وجعل زيداً الأمير الأول للجيش...

وبمثل هذا، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر دوماً حقيقة أن الإسلام دين جديد جاء يلغي العلاقات الإنسانية الفاسدة، والقائمة على أسس من التمايز الفارغ الباطل، ليُنشئ مكانها علاقات جديدة، رشيدة، قوامها إنسانية الإنسان...!!

ولكأنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ غيب المعركة المقبلة حين وضع أمراء الجيش على هذا الترتيب: زيد فجعفر، فابن رواحة... فقد لقوا ربَّهم جميعاً وفق هذا الترتيب أيضاً...!!

ولم يكد المسلمون يطالعون جيش الروم الذي حزروه بمائتي ألف مقاتل حتى أذهلهم العدد الذي لم يكن لهم في حساب... ولكن متى كانت معارك الايمان معارك كثرة...؟

هنالك أقدموا ولم يبالوا.. وأمامهم قائدهم زيد حاملاً راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقتحماً رماح العدو ونباله وسيوفه، لا يبحث عن النصر، بقدر ما يبحث عن المضجع الذي ترسو عنده صفقته مع الله الذي اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة...

لم يكن زيد يرى حواليه رمال البلقاء، ولا جيوش الروم بل كانت روابي الجنة، ورفرفها الأخضر، تخفق أمام عينيه كالأعلام، تنبئه أن اليوم يوم زفافه...

وكان هو يضرب، ويقاتل، لا يطوّح رؤوس مقاتليه، انما يفتح الأبواب، ويفضَّ الأغلاق التي تحول بينه وبين الباب الكبير الواسع، الذي سيدلف منه إلى دار السلام، وجنات الخلد، وجوار الله...

وعانق زيد مصيره...
وكانت روحه وهي في طريقها إلى الجنة تبتسم محبورة وهي تبصر جثمان صاحبها، لا يلفه الحرير الناعم، بل يضمِّخه دمٌ طهور سال في سبيل الله...

ثم تتسع ابتساماتها المطمئنة الهانئة، وهي تبصر ثاني الأمراء جعفراً يندفع كالسهم صوب الرَّاية ليتسلَّمها، وليحملها قبل أن تغيب في التراب...