ولقد وصفه الرواة فقالوا:
"كان طوّالا، أشهل، رحب ما بين المنكبين.. من أطول الناس سكوتاً، وأقلهم كلاماً"..
فكيف سارت حياة هذا العملاق، الصامت الأشهل، العريض الصدر، الذي يحمل جسده آثار تعذيبه المروّع، كما يحمل في نفس الوقت وثيقة صموده الهائل، والمذهل وعظمته الخارقة..؟!
كيف سارت حياة هذا الحواري المخلص، والمؤمن الصادق، والفدائي الباهر..؟
لقد شهد مع معلّمه ورسوله جميع المشاهد.. بدراً، وأحداً، والخندق وتبوك.. وبقيّتها جميعاً.
ولمَّا ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى، واصل العملاق زحفه.. ففي لقاء المسلمين مع الفرس، ومع الروم، ومن قبل ذلك في لقائهم مع جيوش الردّة الجرّارة كان عمّار هناك في الصفوف الأولى دوماً.. جندياً باسلاً أميناً، لا تنبو لسيفه ضربة.. ومؤمناً ورعاً جليلاً، لا تأخذه عن الله رغبة..
وحين كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يختار ولاة المسلمين في دقة وتحفّظ من يختار مصيره، كانت عيناه تقعان دوماً في ثقة أكيدة على عمّار بن ياسر".. وهكذا سارع اليه وولاه الكوفة، وجعل ابن مسعود معه على بيت المال..
وكتب الى أهلها كتاباً يبشرهم فيه بواليهم الجديد، فقال:
"اني بعثت اليكم عمّار بن ياسر أميراً.. وابن مسعود معلماً ووزيراً.. وانهما من النجباء، من أصحاب محمد، ومن أهل بدر"..
ولقد سار عمّار في ولايته سيراً شق على الطامعين في الدنيا تحمّله حتى تألّبوا عليه أو كادوا.. لقد زادته الولاية تواضعاً وورعاً وزهداً..
يقول ابن أبي الهذيل، وهو من معاصريه في الكوفة:
"رأيت عمّار بن ياسر وهو أمير الكوفة يشتري من قثائها، ثم يربطها بحبل ويحملها فوق ظهره، ويمضي بها الى داره"..!!
ويقول له واحد من العامّة وهو امير الكوفة:
"يا أجدع الأذن يعيّره بأذنه التي قطعت بسيوف المرتدين في حرب اليمامة..
فلا يزيد الأمير الذي بيده السلطة على أن يقول لشاتمه:
"خير أذنيّ سببت.. لقد أصيبت في سبيل الله"..!!
أجل لقد أصيب في سبيل الله في يوم اليمامة، وكان يوما من أيام عمّار المجيدة.. إذ انطلق العملاق في استبسال عاصف يحصد في جيش مسيلمة الكذاب، ويهدي اليه المنايا والدمار.. واذا يرى في المسلمين فتوراً يرسل بين صفوفهم صياحه المزلزل، فيندفعون كالسهام المقذوفة.
يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
"رايت عمّار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة، وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين.. أمن الجنة تفرّون..؟ أنا عمّار بن ياسر، هلموا إليّ.. فنظرت اليه، فإذا أذنه مقطوعة تتأرجح، وهو يقاتل أشد القتال"..!!!
ألا مَنْ كان في شكٍ من عظمة مُحَمَّدٍ الرسول الصَّادق، والمعلم الكامل، فليقف أمام هذه النماذج من أتباعه وأصحابه، وليسأل نفسه: هل يقدر على انجاب هذا الطراز الرفيع سوى رسول كريم، ومعلم عظيم؟
وإذا خاضوا في سبيل الله قتالاً اندفعوا اندفاع من يبحث عن المنيّة، لا عن النصر..!! واذا كانوا خلفاء وحكّاماً، ذهب الخليفة يحلب شياه الأيامى، ويعجن خبز اليتامى.. كما فعل أبو بكر وعمر..!!
وإذا كانوا ولاة حملوا طعامهم على ظهورهم مربوطاً بحبل.. كما فعل عمّار.. أو تنازلوا عن راتبهم وجلسوا يصنعون من الخوص المجدول أوعية ومكاتل، كما صنع سلمان..!!
ألا فلنُحييهم تحيّة إجلال للدين الذي أنجبهم، وللرسول الذي ربّاهم.. وقبل الدين والرسول، الله العليّ الكبير الذي اجتباهم لهذا كله.. وهداهم لهذا كله.. وجعلهم روّادا لخير أمة أخرجت للناس..!!
كان حذيفة بن اليمان، الخبير بلغة السرائر والقلوب يتهيأ للقاء الله، ويعالج سكرات الموت حين سأله أصحابه الحافون حوله قائلين له:
"بمن تأمرنا، اذا اختلف الناس"..؟
فأجابهم حذيفة، وهو يلقي بآخر كلماته:
"عليكم بابن سميّة.. فإنه لن يفارق الحق حتى يموت"..
أجل ان عماراً ليدور مع الحق حيث يدور.. والآن نحن نقفوا آثاره المباركة، ونتتبع معالم حياته العظيمة، تعالوْا نقترب من مشهد عظيم.. ولكن قبل أن نواجه هذا المشهد في روعته وجلاله، في صولته وكماله، في تفانيه واصراره، في تفوقه واقتداره، تعالْوا نبصر مشهداً يسبق هذا المشهد، ويتنبأ به، ويُهيئ له...
كان ذلك إثر استقرار المسلمين في المدينة، وقد نهض الرسول الأمين وحوله الصحابة الأبرار، شعثاً لربهم وغبراً، يبنون بيته، ويقيمون مسجده.. قد امتلأت أفئدتهم المؤمنة غبطة، وتألقت بشراً، وابتهلت حمداً لربها وشكراً.. الجميع يعملون في حبور وأمل.. يحملون الحجارة، أو يعجنون الملاط.. أو يقيمون البناء..
فوج هنا وفوج هناك..
والأفق السعيد يردد تغريدهم الذي يرفعون به أصواتهم المحبورة:
لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل..
هكذا يغنون وينشدون..
ثم تتعالى أصواتهم الصادحة بتغريدة أخرى:
اللهم ان العيش عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة..
وتغريدة ثالثة:
لا يستوي من يعمّر مسجدا
يدأب فيها قائما وقاعدا
ومن يرى الغبار عنه حائدا
انها خلايا لله تعمل.. انهم جنوده، يحملون لواءه، ويرفعون بناءه.. ورسوله الطيّب الأمين معهم، يحمل من الحجارة أعتاها، ويمارس من العمل أشقه.. وأصواتهم المغرّدة تحكي غبطة أنفسهم الراضية المخبتة.. والسماء من فوقهم تغبط الأرض التي تحملهم فوق ظهرها.. والحياة المتهللة تشهد أبهى أعيادها..!!
وعمار بن ياسر هناك وسط المهرجان الحافل يحمل الحجارة الثقيلة من منحتها إلى مستقرِّها... ويبصره الرحمة المهداة محمد رسول الله، فيأخذه إليه حنان عظيم، ويقترب منه وينفض بيده البارَّة الغبار الذي كسى رأسه، ويتأمَّل وجهه الوديع المؤمن بنظرات ملؤها نور الله...
ثم يقول على ملأ من أصحابه جميعاً:
"ويح ابن سميَّة..!! تقتله الفئة الباغية"...
وتتكرر النبوءة مرّة أخرى حين يسقط جدار كان يعمل تحته، فيظن بعض اخوانه أنه قد مات، فيذهب ينعاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفزع الأصحاب من وقع النبأ..
لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في طمأنينة وثقة:
"ما مات عمَّار تقتله الفئة الباغية"..
فمن تكون هذه الفئة يا ترى..؟ ومتى..؟ وأين..؟
لقد أصغى عمَّار للنبوءة اصغاء مَنْ يعرف صدق البصيرة التي يحملها رسوله العظيم.. ولكنه لم يروّع.. فهو منذ أسلم، وهو مرشّح للموت والشهادة في كل لحظة من ليل أو نهار... ومضت الأيام.. والأعوام.. ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى.. ثم لحق به إلى رضوان الله أبو بكر.. ثم لحق بهما إلى رضوان الله عمر.. وولي الخلافة ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه.. وكانت المؤمرات ضدّ الاسلام تعمل عملها المستميت، وتحاول أن تربح بالغدر واثارة الفتن ما خسرته في الحرب..
وكان مقتل عمر أول نجاح أحرزته هذه المؤامرات التي أخذت تهبّ على المدينة كريح السموم من تلك البلاد التي دمّر الإسلام ملكها وعروشها.. وأغراها استشهاد عمر على مواصلة مساعيها، فألّبت الفتن وأيقظتها في معظم بلاد الاسلام.. ولعل عثمان رضي الله عنه، لم يعط الأمور ما تستحقه من الاهتمام والحذر، فوقعت الواقعة واستشهد عثمان رضي الله عنه، وانفتحت على المسلمين أبواب الفتنة.. وقام معاوية ينازع الخليفة الجديد عليّاً كرّم الله وجهه حقه في الأمر، وفي الخلافة...
وتعددت اتجاهات الصحابة.. فمنهم مَنْ نفض يديه من الخلاف وأوى الى بيته، جاعلاً شعاره كلمة ابن عمر:
"مَنْ قال حيَّ على الصلاة أجبته... ومَنْ قال حيَّ على الفلاح أجبته.. ومَنْ قال حيَّ على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله، قلت: لا"..
ومنهم مَنْ انحاز إلى معاوية.. ومنهم مَنْ وقف الى جوار عليّ صاحب البيعة، وخليفة المسلمين..
تُرى أين يقف اليوم عمَّار؟
أين يقف الرجل الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"واهتدوا بهدي عمّار"..؟
أين يقف الرجل الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ عادى عمّاراً عاداه الله"..؟
والذي كان إذا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته يقترب من منزله قال:
"مرحبا بالطيّب المقدام، ائذنوا له"..!!
لقد وقف إلى جوار عليّ بن أبي طالب، لا متحيّزاً ولا متعصباً، بل مذعناً للحق، وحافظاً للعهد.. فـ عليٌّ خليفة المسلمين، وصاحب البيعة بالإمامة.. ولقد أخذ الخلافة وهو لها أهل وبها جدير.. وعليٌّ قبل هذا وبعد هذا، صاحب المزايا التي جعلت منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كمنزلة هارون من موسى..
إن عماراً الذي يدور مع الحق حيث دار، ليهتدي بنور بصيرته وإخلاصه إلى صاحب الحق الأوحد في النزاع.. ولم يكن صاحب الحق يومئذ في يقينه سوى عليٌّ، فأخذ مكانه إلى جواره.. وفرح عليٌ رضي الله عنه بنصرته فرحاً لعله لم يفرح يومئذ مثله وازداد إيماناً بأنه على الحق ما دام رجل الحق العظيم عمّار قد أقبل عليه وسار معه..
وجاء يوم صفين الرهيب.
وخرج الإمام علي يواجه العمل الخطير الذي اعتبره تمرّداً يحمل هو مسؤولية قمعه... وخرج معه عمار.. كان عمار قد بلغ من العمر يومئذ ثلاثة وتسعين... ثلاثة وتسعون عاماً ويخرج للقتال..؟
أجل ما دام يعتقد أن القتال مسؤليته وواجبه.. ولقد قاتل أشدّ وأروع مما يقاتل أبناء الثلاثين...!!
كان الرجل الدائم الصمت، القليل الكلام، لا يكاد يحرّك شفتيه حين يحرّكهما الا بهذه الضراعة:
"عائذ بالله من فتنة... عائذ بالله من فتنة..".
وبعيد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ظلت هذه الكلمات ابتهاله الدائم.. وكلما كانت الأيام تمر، كان هو يكثر من لهجه وتعوّذه.. كأنما كان قلبه الصافي يحسّ الخطر الداهم كلما اقتربت أيامه.. وحين وقع الخطر ونشبت الفتنة، كان ابن سميّة يعرف مكانه فوقف يوم صفين حاملاً سيفه وهو ابن الثالثة والتسعين كما قلنا ليناصر به حقاً مَنْ يؤمن بوجوب مناصرته..
ولقد أعلن وجهة نظره في هذا القتال قائلاً:
"ايها الناس: سيروا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يثأرون لعثمان، ووالله ما قصدهم الأخذ بثأره، ولكنهم ذاقوا الدنيا، واستمرءوها، وعلموا أن الحق يحول بينهم وبين ما يتمرّغون فيه من شهواتهم ودنياهم.. وما كان لهؤلاء سابقة في الإسلام يستحقون بها طاعة المسلمين لهم، ولا الولاية عليهم، ولا عرفت قلوبهم من خشية الله ما يحملهم على اتباع الحق... وانهم ليخادعون الناس بزعمهم أنهم يثأرون لدم عثمان.. وما يريدون إلا أن يكونوا جبابرة وملوكا".
ثم أخذ الراية بيده، ورفعها فوق الرؤوس عالية خفَّاقة، وصاح في الناس قائلاً:
"والذي نفسي بيده.. لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهأنذا أقاتل بها اليوم..
والذي نفسي بيده.. لو هزمونا حتى يبلغوا سعفات هجر، لعلمت أننا على الحق، وأنهم على الباطل"..
ولقد تبع الناس عماراً، وآمنوا بصدق كلماته..
يقول أبو عبد الرحمن السلمي:
"شهدنا مع عليّ رضي الله عنه صفين، فرأيت عمار ابن ياسر رضي الله عنه لا يأخذ في ناحية من نواحيها، ولا واد من أوديتها، إلا رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يتبعونه كأنه عَلَمٌ لهم"..!!
كان عمّار وهو يجول في المعركة ويصول، يؤمن أنه واحد من شهدائها.. وقد كانت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم تأتلق أمام عينيه بحروف كبيرة:
"تقتل عمّار الفئة الباغية"..
من أجل هذا كان صوته يجلجل في أفق المعركة بهذه التغريدة:
"اليوم ألقى الأحبة محمداً وصحبه"..!!
ثم يندفع كقذيفة عاتية صوب مكان معاوية ومَنْ حوله ويرسل صياحاً عالياً مدمدماً:
لقد ضربناكم على تنزيله
واليوم نضربكم على تأويله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
أو يرجع الحق إلى سبيله
وهو يعني بهذا أن أصحاب الرسول السابقين، وعمارا منهم قاتلوهم بالأمس وعلى رأسهم أبو سفيان الذي كان يحمل لواء الشرك، ويقود جيوش المشركين.. قاتلوهم بالأمس، وكان القرآن الكريم يأمرهم صراحة بقتالهم لأنهم مشركون.. أما اليوم، وان يكونوا قد أسلموا، وان يكن القرآن الكريم لا يأمرهم صراحة بقتالهم، الا أن اجتهاد عمار رضي الله عنه في بحثه عن الحق، وفهمه لغايات القرآن ومراميه يقنعانه بقتالهم حتى يعود الحق المغتصب إلى ذويه، وحتى تنطفئ إلى الأبد نار التمرّد والفتنة.. ويعني كذلك، أنهم بالأمس قاتلوهم لكفرهم بالدين والقرآن..
واليوم يقاتلوهم لانحرافهم بالدين، وزيغهم عن القرآن الكريم واساءتهم تأويله وتفسيره، ومحاولتهم تطويع آياته ومراميه لأغراضهم وأطماعهم..!!
كان ابن الثالثة والتسعين، يخوض آخر معارك حياته المستبسلة الشامخة.. كان يلقن الحياة قبل أن يرحل عنها آخر دروسه في الثبات على الحق، ويترك لها آخر مواقفه العظيمة، الشريفة المعلمة.. ولقد حاول رجال معاوية أن يتجنبوا عمّار ما استطاعوا، حتى لا تقتله سيوفهم فيتبيّن للناس أنهم الفئة الباغية..
بيد أن شجاعة عمَّار الذي كان يقاتل وكأنه جيش واحد، أفقدتهم صوابهم، فأخذ بعض جنود معاوية يتحيّنون الفرصة لإصابته، حتى أذا تمكّنوا منه أصابوه...
وكان جيش معاوية ينتظم فيه كثيرين من المسلمين الجُدد.. الذين أسلموا على قرع طبول الفتح الاسلامي في البلاد الكثيرة التي حرَّرها الاسلام من سيطرة الروم والفرس.. وكان أكثر هؤلاء وقود الحرب التي سببها تمرّد معاوية ونكوصه على بيعة علي.. الخليفة، والإمام، كانوا وقودها وزيتها الذي يزيدها اشتعالاً..
وهذا الخلاف على خطورته، كان يمكن أن ينتهي بسلام لو ظلت الأمور بأيدي المسلمين الأوائل.. ولكنه لم يكد يتخذ أشكاله الحادة حتى تناولته أيد كثيرة لا يهمها مصير الاسلام، وذهبت تذكي النار وتزيدها إضراماً..
شاع في الغداة خبر مقتل عمَّار وذهب المسلمون يتناقل بعضهم عن بعض نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سمعها أصحابه جميعاً ذات يوم ليس ببعيد، وهم يبنون المسجد بالمدينة..
"ويح ابن سميَّة، تقتله الفئة الباعغية".
وعرف الناس الآن من تكون الفئة الباغية.. انها الفئة التي قتلت عمّاراً.. وما قتلته إلا فئة معاوية.. وازداد أصحاب عليّ بهذا ايماناً.. أما فريق معاوية، فقد بدأ الشك يغزو قلوبهم، وتهيأ بعضهم للتمرد، والانضمام إلى عليّ.. ولم يكد معاوية يسمع بما حدث.. حتى خرج يذيع في الناس أن هذه النبوءة حق، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم تنبأ حقاً بأن عمّاراً ستقتله الفئة الباغية.. ولكن مَنْ الذي قتل عمّاراً...؟
ثم صاح في الناس الذين معه قائلا:
"انما قتله الذين خرجوا به من داره، وجاؤا به الى القتال"..
وانخدع بعض الذين في قلوبهم هوى بهذا التأويل المتهالك، واستأنفت المعركة سيرها إلى ميقاتها المعلوم ... أمّا عمَّار، فقد حمله الإمام عليٌ فوق صدره إلى حيث صلى عليه والمسلمون معه.. ثم دفنه في ثيابه.. أجل في ثيابه المضمَّخة بدمه الزكي الطهور.. فكل حرير الدنيا وديباجها ما يصلح أن يكون كفناً لشهيد جليل، وقدّيس عظيم من طراز عمَّار...
ووقف المسلمون على قبره يعجبون.. منذ ساعات كان عمَّار يغرِّد بينهم فوق أرض المعركة.. تملؤ نفسه غبطة الغريب المضنى يزف الى وطنه، وهو يصيح:
"اليوم ألقى الأحبة، محمدا وصحبة"..!!
أكان معهم اليوم على موعد يعرفه، وميقات ينتظره...؟!!
وأقبل بعض الأصحاب على بعضهم يتساءلون ...
قال أحدهم لصاحبه:
أتذكر أصيل ذلك اليوم بالمدينة ونحن جالسون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وفجأة تهلل وجهه وقال:
"اشتاقت الجنة لعمَّار"..؟؟
قال له صاحبه:
نعم، ولقد ذكر يومها آخرين منهم علي وسلمان وبلال.. اذن فالجنة كانت مشتاقة لعمّار.. واذن، فقد طال شوقها اليه، وهو يستمهلها حتى يؤدي كل تبعاته، وينجز آخر واجباته.. ولقد أدّاها في ذمّة، وأنجزها في غبطة.. أفما آن له أن يلبي نداء الشوق الذي يهتف به من رحاب الجنان..؟
بلى آن له أن يلبي النداء.. فما جزاء الإحسان إلا الإحسان.. وهكذا ألقى رمحه ومضى.. وحين كان تراب قبره يسوَّى بيد أصحابه فوق جثمانه، كانت روحه تعانق مصيرها السعيد هناك.. في جنات الخُلد، التي طال شوقها لعمَّار...!