حذيفة بن اليمان - عدوّ النفاق وصديق الوضـوح
===========================
خرج أهل المدائن أفواجاً يستقبلون واليهم الجديد الذي اختاره لهم أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه..

خرجوا تسبقهم أشواقهم الى هذا الصحابي الجليل الذي سمعوا الكثير عن ورعه وتُقاه.. وسمعوا أكثر عن بلاءه العظيم في فتوحات العراق..

واذ هم ينتظرون الموكب الوافد، أبصروا أمامهم رجلاً مضيئاً، يركب حماراً على ظهره اكاف قديم، وقد أسدل الرجل ساقيه، وأمسك بكلتا يديه رغيفاً وملحاً، وهو يأكل ويمضغ طعامه..!

وحين توسط جمعهم، وعرفوا أنه حذيفة بن اليمان الوالي الذي ينتظرون، كاد صوابهم يطير..!!

ولكن فيم العجب..؟!

وماذا كانوا يتوقعون أن يجيء في اختيار عمر..؟!

الحق أنهم معذورون، فما عهدت بلادهم أيام فارس، ولا قبل فارس ولاة من هذا الطراز الجليل.!!

وسار حذيفة، والناس محتشدون حوله، وحافون به..

وحين رآهم يحدّقون فيه كأنهم ينتظرون منه حديثاً، ألقى على وجوههم نظرة فاحصة...

ثم قال:
"اياكم ومواقف الفتن"..!!

قالوا:
وما مواقف الفتن يا أبا عبد الله..!!

قال:
"أبواب الأمراء"..

يدخل أحدكم على الوالي أو الأمير، فيصدّقه بالكذب، ويمتدحه بما ليس فيه"..!

وكان استهلالاً بارعاً، بقدر ما هو عجيب..!!

واستعاد الناس موفورهم ما سمعوه عن واليهم الجديد، من أنه لا يمقت في الدنيا كلها ولا يحتقر من نقائصها شيئا أكثر مما يمقت النفاق ويحتقره.

وكان هذا الاستهلال أصدق تعبير عن شخصية الحاكم الجديد، وعن منهجه في الحكم والولاية..

فـ حذيفة بن اليمان رجل جاء الحياة مزوداً بطبيعة فريدة تتسم ببغض النفاق، وبالقدرة الخارقة على رؤيته في مكامنه البعيدة.

ومنذ جاء هو أخوه صفوان في صحبة أبيهما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتنق ثلاثتهم الاسلام، والاسلام يزيد موهبته هذه مضاءً وصقلاً..

فلقد عانق ديناً قوياً نظيفاً، شجاعاً قويماً.. يحتقر الجبن والنفاق، والكذب...

وتأدَّب على يدي رسول الله واضح كفلق الصبح، لا تخفى عليهم من حياته، ولا من أعماق نفسه خافية.. صادق وأمين.. يحب الأقوياء في الحق، ويمقت الملتوين والمرائين والمخادعين..!!

فلم يكن ثمة مجال ترعرع فيه موهبة حذيفة وتزدهر مثل هذا المجال، في رحاب هذا الدين، وبين يدي هذا الرسول، ووسط هذا الرّعيل العظيم من الأصحاب..!!

ولقد نمت موهبته فعلاً أعظم نماء.. وتخصَّص في قراءة الوجوه والسرائر.. يقرأ الوجوه في نظرة.. ويبلو كُنه الأعماق المستترة، والدخائل المخبوءة في غير عناء..

ولقد بلغ من ذلك ما يريد، حتى كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وهو المُلهم الفطن الأريب، يستدل برأي حذيفة، وببصيرته في اختيار الرجال ومعرفتهم.

ولقد أوتي حذيفة من الحصافة ما جعله يدرك أن الخير في هذه الحياة واضح لمن يريده.. وانما الشر هو الذي يتنكر ويتخفى، ومن ثم يجب على الأريب أن يعنى بدراسة الشر في مآتيه، ومظانه..

وهكذا عكف حذيفة رضي الله عنه على دراسة الشر والأشرار، والنفاق والمنافقين..

يقول:
"كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني..

قلت:
يا رسول الله فهل بعد هذا الخير من شر؟

قال:
نعم..

قلت:
فهل بعد هذا الشر من خير؟

قال:
نعم، وفيه دخن..

قلت:
وما دخنه..؟

قال:
قوم يستنون بغير سنتي.. ويهتدون يغير هديي، وتعرف منهم وتنكر..

قلت:
وهل بعد ذلك الخير من شر..؟

قال:
نعم! دعاة على أبواب جهنم، مَنْ أجابهم إليها قذفوه فيها..

قلت:
يا رسول الله، فما تأمرني ان أدركني ذلك..؟

قال:
تلزم جماعة المسلمين وإمامهم..

قلت:
فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام..؟

قال:
تعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك"..!!

أرأيتم قوله:
"كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"..؟

لقد عاش حذيفة بن اليمان مفتوح البصر والبصيرة على مآتي الفتن، مسالك الشرور ليتقها، وليحذر الناس منها. ولقد أفاء عليه هذا بصرا بالدنيا، وخبرة بالانس، ومعرفة بالزمن.. وكان يدير المسائل في فكره وعقله بأسلوب فيلسوف، وحصانة حكيم...

ويقول رضي الله عنه:
"إن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم، فدعا الناس من الضلالة الى الهدى، ومن الكفر الى الايمان، فاستجاب له مَنْ استجاب، فحيي بالحق مَنْ كان ميتاً... ومات بالباطل مَنْ كان حياً.. ثم ذهبت النبوة وجاءت الخلافة على مناهجها.. ثم يكون ملكا عضوضا..!!

فمن الناس مَنْ ينكر بقلبه، ويده ولسانه.. أولئك استجابوا للحق.. ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه، كافاً يده، فهذا ترك شعبة من الحق.. ومنهم من ينكر بقلبه، كافاً يده ولسانه، فهذا ترك شعبتين من الحق.. ومنهم من لا ينكر بقلبه ولا بيده ولا بلسانه، فذلك ميّت الأحياء"...!

ويتحدّث عن القلوب وعن حياة الهدى والضلال فيها فيقول:
"القلوب أربعة:
قلب أغلف، فذلك قلب الكافر.. وقلب مصفح، فذلك قلب المنافق.. وقلب أجرد، فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن.. وقلب فيه نفاق وايمان، فمثل الايمان كمثل شجرة يمدها ماء طيب.. ومثل النفاق كقرحة يمدّها قيح ودم: فأيهما غلب، غلب"...!!

وخبرة حذيفة بالشر، واصراره على مقاومته وتحدّيه، أكسبا لسانه وكلماته شيئاً من الحدّة، وينبأ هو بهذا في شجاعة نبيلة... فيقول:

"جئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت:
يا رسول الله، ان لي لساناً ذرباً على أهلي، وأخشى أن يدخلني النار..

فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام:
فأين أنت من الاستغفار..؟ اني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة"...

هذا هو حذيفة عدو النفاق، صديق الوضوح..

ورجل من هذا الطراز، لا يكون ايمانه الا وثيقاً.. ولا يكون ولاؤه الا عميقاً.. وكذلكم كان حذيفة في ايمانه وولائه..

لقد رأى أباه المسلم يُصرع يوم أحد.. وبأيد مسلمة، قتلته خطأ وهي تحسبه واحداً من المشركين..!!

كان حذيفة يتلفَّت مصادفة، فرأى السيوف تنوشه، فصاح في ضاربيه:
أبي ... أبي.. انه أبي..!!

لكن القضاء كان قد حم..

وحين عرف المسلمون، تولَّاهم الحزن والوجوم.. لكنه نظر اليهم نظرة اشفاق ومغفرة...

وقال لهم:
"يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين"..

ثم انطلق بسيفه صوب المعركة المشبوبة يبلي فيها بلاءه، ويؤدي واجبه..

وتنتهي المعركة، ويبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر بالدية عن والد حذيفة "حسيل بن جابر" رضي الله عنه، ويتصدَّق بها على المسلمين، فيزداد الرسول حباً له وتقديراً...

وايمان حذيفة وولاؤه، لا يعترفان بالعجز، ولا بالضعف.. بل ولا بالمستحيل...

ففي غزوة الخندق.. وبعد أن دَبَّ الفشل في صفوف كفار قريش وحلفائهم من اليهود، أراد رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يقف على آخر تطوّرات الموقف هناك في معسكر أعدائه...

كان الليل مظلماً ورهيباً.. وكانت العواصف تزأر وتصطخب، كأنما تريد أن تقتلع جبال الصحراء الراسيات من مكانها.. وكان الموقف كله بما فيه من حصار وعناد واصرار يبعث على الخوف والجزع، وكان الجوع المضني قد بلغ مبلغاً وعراً بين اصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم...

فمَنْ يملك آنئذ القوة، وأي قوة ليذهب وسط مخاطر حالكة الى معسكر الأعداء ويقتحمه، أو يتسلل داخله ثم يبلوا أمرهم ويعرف أخبارهم..؟

إن الرسول هو الذي سيختار من أصحابه مَنْ يقوم بهذه المهمة البالغة العُسر..

تُرى مَنْ يكون البطل..؟

انه هو.. حذيفة بن اليمان..!

دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم فلبَّى، ومن صدقه العظيم يخبرنا وهو يروي النبأ أنه لم يكن يملك الا أن يلبي.. مشيراً بهذا الى أنه كان يرهب المهمة الموكولة اليه، ويخشى عواقبها، والقيام بها تحت وطأة الجوع، والصقيع، والاعياء الشديد الذي خلفهم فيه حصار المشركين شهراً أو يزيد..!

وكان أمر حذيفة تلك الليلة عجيباً... فقد قطع المسافة بين المعسكرين، واخترق الحصار.. وتسلَّل الى معسكر قريش، وكانت الريح العاتية قد أطفأت نيران المعسكر، فخيَّم عليه الظلام، واتخذ حذيفة رضي الله عنه مكانه وسط صفوف المحاربين...

وخشي أبو سفيان قائد قريش، أن يفجأهم الظلام بمتسللين من المسلمين، فقام يحذِّر جيشه...

وسمعه حذيفة يقول بصوته المرتفع:
"يا معشر قريش، لينظر كل منكم جليسه، وليأخذ بيده، وليعرف اسمه".

يقول حذيفة:
"فسارعت إلى يد الرجل الذي بجواري، وقلت له: مَنْ أنت..؟ قال: فلان بن فلان؟"...

وهكذا أمّن وجوده بين الجيش في سلام..!

واستأنف أبو سفيان نداءه الى الجيش قائلاً:
"يا معشر قريش.. انكم والله ما أصبحتم بدار مقام.. لقد هلكت الكراع -أي الخيل- والخف -أي الإبل-، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدِّة الريح، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مُرتحل"...

ثم نهض فوق جمله، وبدأ المسير فتبعه المحاربون..

يقول حذيفة:
"لولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليَّ ألا تُحدث شيئاً حتى تأتيني، لقتلته بسهم"..

وعاد حذيفة الى الرسول عليه الصلاة والسلام فأخبره الخبر، وزَفَّ البُشرى إليه...

ومع هذا فان حذيفة يخلف في هذا المجال كل الظنون..

ورجل الصَّومعة العابد، المتأمل لا يكاد يحمل سيفه ويقابل جيوش الوثنية والضلال حتى يكشف لنا عن عبقرية تبهر الأبصار..

وحسبنا أن نعلم، أنه كان ثالث ثلاثة، أو خامس خمسة كانوا أصحاب السبق العظيم في فتوح العراق جميعها..!

وفي همدان والرِّي والدينور تم الفتح على يديه..

وفي معركة نهاوند العظمى، حيث احتشد الفرس في مائة ألف مقاتل وخمسين الفاً.. اختار عمر لقيادة الجيوش المسلمة النعمان بن مقرِّن ثم كتب الى حذيفة أن يسير اليه على رأس جيش من الكوفة...

وأرسل عمر إلى المقاتلين كتابه يقول:
"اذا اجتمع المسلمون فليكن على كل جيش أميره.. وليكن أمير الجيوش جميعها النعمان بن مقرِّن.. فاذا استشهد النعمان، فليأخذ الراية حذيفة، فاذا استشهد فجرير بن عبدالله...

وهكذا مضى أمير المؤمنين يختار قوَّاد المعركة حتى سمَّى منهم سبعة...

والتقى الجيشان.. الفرس في مائة ألف وخمسين ألفاً.. والمسلمون في ثلاثين ألفاً لاغير... وينشب قتال يفوق كل تصور ونظير ودارت معركة من أشد معارك التاريخ فدائية وعنفاً... وسقط قائد المسلمين قتيلاً، سقط النعمان بن مقرِّن، وقبل أن تهوي الرَّاية المسلمة الى الأرض كان القائد الجديد قد تسلّمها بيمينه، وساق بها رياح النصر في عنفوان لجب واستبسال عظيم...

ولم يكن هذا القائد سوى حذيفة بن اليمان ...

حمل الرَّاية من فوره، وأوصى بألا ندع نبأ موت النعمان حتى تنجلي المعركة.. ودعا نعيم بن مقرن فجعله مكان أخيه النعمان تكريماً له..

أنجزت المهمة في لحظات والقتال يدور، بديهيته المشرقة..

ثم انثنى كالاعصار المدمدم على صفوف الفرس صائحاً:
"الله أكبر صدق وعده!!
"الله أكبر نصر جنده!!"


ثم لوى زمام فرسه صوب المقاتلين في جيوشه ونادى:
يا أتباع محمد.. هاهي ذي جنان الله تتهيأ لاستقبالكم فلا تطيلوا عليها الانتظار.. هيا يا رجال بدر.. تقدموا يا ابطال الخندق وأحد وتبوك..

لقد احتفظ حذيفة بكل حماسة المعركة وأشواقها، ان لم يكن قد زاد منها وفيها..

وانتهى القتال بهزيمة ساحقة للفرس.. هزيمة لا نكاد نجد لها نظيراً..!!

هذا العبقري حين تضمّه صومعته.. والعبقري في فدائيته، حين يقف فوق أرض القتال.. هو كذلك العبقري في كل مهمة توكل اليه، ومشورة تُطلب منه..

فحين انتقل سعد بن أبي وقاص والمسلمون معه من المدائن إلى الكوفة واستوطنوها.. وذلك بعد أن أنزل مناخ المدائن بالعرب المسلمين أذى بليغاً... مما جعل عمر يكتب الى سعد كي يغادرها فوراً بعد أن يبحث عن أكثر البقاع ملاءمة، فينتقل بالمسلمين اليها.. يومئذ مَنْ الذي وكل اليه أمر اختيار البقعة والمكان..؟

انه حذيفة بن اليمان..

ذهب ومعه سلمان بن زياد، يرتادان للمسلمين المكان الملائم.. فلما بلغا أرض الكوفة، وكانت حصباء جرداء مرملة... شمّ حذيفة عليها أنسام العافية...

فقال لصاحبه:
هنا المنزل إن شاء الله...

وهكذا خططت الكوفة وأحالتها يد التعمير الى مدينة عامرة...

وما كاد المسلمون ينتقلون اليها، حتى شفي سقيمهم... وقوي ضعيفهم... ونبضت بالعافية عروقهم..!!

لقد كان حذيفة واسع الذكاء، متنوع الخبرة، وكان يقول للمسلمين دائماً:
"ليس خياركم الذين يتركون الدنيا للآخرة.. ولا الذين يتركون الآخرة للدنيا.. ولكن الذين يأخذون من هذه ومن هذه"...

وذات يوم من أيام العام الهجري السادس والثلاثين... دُعِيَ للقاء الله.. واذ هو يتهيَّأ للرحلة الأخيرة... ودخل عليه بعض أصحابه...

فسألهم:
أجئتم معكم بأكفان..؟

قالوا:
نعم..

قال:
أرونيها..

فلما رآها، وجدها جديدة فارهة..

فارتسمت على شفتيه آخر بسماته الساخرة، وقال لهم:
"ما هذا لي بكفن.. انما يكفيني لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص.. فاني لن أترك في القبر الا قليلا، حتى أبدّل خيراً منهما ... أو شرّاً منهما"..!!

وتمتم بكلمات، ألقى الجالسون أسماعهم فسمعوها:
"مرحبا بالموت.. حبيب جاء على شوق.. لا أفلح مَنْ ندم"..

وصعدت الى الله روح من أعظم أرواح البشر، ومن أكثرها تُقىً، وتألّقاً، وإخباتاً.