بلال بن رباح - الساخر من الأهوال
===================
كان عمر بن الخطاب، اذا ذكر أبو بكر قال:
"أبو بكر سيدنا وأعتق سيّدنا"..
يعني بلالاً رضي الله عنه..
وان رجلا يلقبه عمر بسيدنا هو رجل عظيم ومحظوظ..
لكن هذا الرجل الشديد السمرة، النحيف الناحل، المفرط الطول الكث الشعر، الخفيف العارضين، لم يكن يسمع كلمات المدح والثناء توجه اليه، وتغدق عليه، الا ويحني رأسه ويغض طرفه...
ويقول وعبراته على وجنتيه تسيل:
"انما أنا حبشي.. كنت بالأمس عبدا"..!!
فمَنْ هذا الحبشي الذي كان بالأمس عبدا..!!
انه "بلال بن رباح" مؤذن الاسلام، ومزعج الأصنام..
انه احدى معجزات الايمان والصدق.
احدى معجزات الاسلام العظيم..
في كل عشرة مسلمين، منذ بدأ الاسلام الى اليوم، والى ما شاء الله سنلتقي بسبعة على الأقل يعرفون بلالاً.. أي أن هناك مئات الملايين من البشر عبر القرون والأجيال عرفوا بلالا، وحفظوا اسمه، وعرفوا دوره... تماما كما عرفوا أعظم خليفتين في الاسلام: أبي بكر وعمر ... !!
وانك لتسأل الطفل الذي لا يزال يحبو في سنوات دراسته الأولى في مصر، أو باكستان، أو الصين.. وفي الأمريكيتين، وأوروبا وروسيا.. وفي العراق، وسوريا، وايران والسودان.. في تونس والمغرب والجزائر.. في أعماق أفريقيا، وفوق هضاب آسيا..
في كل بقعة من الأرض يقتنها مسلمون، تستطيع أن تسأل أي طفل مسلم: مَنْ بلال يا غلام؟ فيجيبك: انه مؤذن الرسول.. وانه العبد الذي كان سيّده يعذبه بالحجارة المستعرّة ليردّه عن دينه، فيقول:
"أحَدٌ.. أحَدٌ.."
وحينما تبصر هذا الخلود الذي منحه الاسلام بلالا.. فاعلم أن بلال هذا، لم يكن قبل الاسلام أكثر من عبد رقيق، يرعى ابل سيّده على حفنات من التمر، حتى يطو به الموت، ويطوّح به الى أعماق النسيان..
لكن صدق ايمانه، وعظمة الدين الذي آمن به بوأه في حياته، وفي تاريخه مكانا عليّا في الاسلام بين العظماء والشرفاء والكرماء ...
ان كثيرا من عليّة البشر، وذوي الجاه والنفوذ والثروة فيهم، لم يظفروا بمعشار الخلود الذي ظفر به بلال العبد الحبشي..!!
بل ان كثيرا من أبطال التاريخ لم ينالوا من الشهرة التاريخية بعض الذي ناله بلال..
ان سواد بشرته، وتواضع حسبه ونسبه، وهوانه على الانس كعبد رقيق، لم يحرمه حين آثر الاسلام دينا، من أن يتبوأ المكان الرفيع الذي يؤهله له صدقه ويقينه، وطهره، وتفانيه..
ان ذلك كله لم يكن له في ميزان تقييمه وتكريمه أي حساب، الا حساب الدهشة حين توجد العظمة في غير مظانها..
فلقد كان الناس يظنون أن عبدا مثل بلال، ينتمي الى أصول غريبة.. ليس له أهل، ولا حول، ولا يملك من حياته شيئا، فهو ملك لسيّده الذي اشتراه بماله.. يروح ويغدو وسط شويهات سيده وابله وماشيته..
كانوا يظنون أن مثل هذا الكائن، لا يمكن أن يقدر على شيء ولا أن يكون شيئا..
ثم اذا هو يخلف الظنون جميعا، فيقدر على ايمان، هيهات أن يقدر على مثله سواه.. ثم يكون أول مؤذن للرسول والاسلام العمل الذي كان يتمناه لنفسه كل سادة قريش وعظمائها من الذين أسلموا واتبعوا الرسول..!!
أجل.. بلال بن رباح!
أيّة بطولة.. وأيّة عظمة تعبر عنها هذه الكلمات الثلاث بلال ابن رباح..؟!
انه حبشي من أمة السود ... جعلته مقاديره عبدا لأناس من بني جمح بمكة، حيث كانت أمه احدى امائهم وجواريهم..
كان يعيش عيشة الرقيق، تمضي أيامه متشابهة قاحلة، لا حق له في يومه، ولا أمل له في غده..!!
ولقد بدأت أنباء محمد تنادي سمعه، حين أخذ الانس في مكة يتناقلونها، وحين كان يصغي الى أحاديث ساداته وأضيافهم، سيما "أمية بن خلف" أحد شيوخ بني جمح القبيلة التي كان بلال أحد عبيدها..
لطالما سمع أمية وهو يتحدّث مع أصدقائه حينا، وأفراد قبيلته أحيانا عن الرسول حديثا يطفح غيظا، وغمّا وشرا..
وكانت أذن بلال تلتقط من بين كلمات الغيظ المجنون، الصفات التي تصور له هذا الدين الجديد.. وكان يحس أنها صفات جديدة على هذه البيئة التي يعيش فيها.. كما كانت أذنه تلتقط من خلال أحاديثهم الراعدة المتوعدة اعترافهم بشرف محمد وصدقه وأمانته..!!
أجل انه ليسمعهم يعجبون، ويحارون، في هذا الذي جاء به محمد..!!
ويقول بعضهم لبعض: ما كان محمد يوما كاذبا. ولا ساحرا..ولا مجنونا.. وان ام يكن لنا بد من وصمه اليوم بذلك كله، حتى نصدّ عنه الذين سيسارعون الى دينه..!!
سمعهم يتحدّثون عن أمانته.. عن وفائه.. عن رجولته وخلقه.. عن نزاهته ورجاحة عقله.. وسمعهم يتهامسون بالأسباب التي تحملهم على تحديّ وعداوته، تلك هي: ولاؤهم لدين آبائهم أولاً.
والخوف على مجد قريش ثانيا، ذلك المجد الذي يفيئه عليها مركزها الديني، كعاصمة للعبادة والنسك في جزيرة العرب كلها، ثم الحقد على بني هاشم، أن يخرج منهم دون غيرهم نبي ورسول...!
وذات يوم يبصر بلال ب رباح نور الله، ويسمع في أعماق روحه الخيّرة رنينه، فيذهب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسلم..
ولا يلبث خبر اسلامه أن يذيع.. وتدور الأرض برؤوس أسياده من بني جمح.. تلك الرؤوس التي نفخها الكبر وأثقلها الغرور..!! وتجثم شياطين الأرض فوق صدر أميّة بن خلف الذي رأى في اسلام عبد من عبيدهم لطمة جللتهم جميعا بالخزي والعار..
عبدهم الحبشي يسلم ويتبع محمد..؟!
ويقول أميّة لنفسه:
ومع هذا فلا بأس.. ان شمس هذا اليوم لن تغرب الا ويغرب معها اسلام هذا العبد الآبق..!!
ولكن الشمس لم تغرب قط باسلام بلال بل غربت ذات يوم بأصنام قريش كلها، وحماة الوثنية فيها...!
أما بلال فقد كان له موقف ليس شرفا للاسلام وحده، وان كان الاسلام أحق به، ولكنه شرف للانسانية جميعا..
لقد صمد لأقسى الوان التعذيب صمود البرار العظام.
ولكأنما جعله الله مثلا على أن سواد البشرة وعبودية الرقبة لا ينالان من عظمة الروح اذا وجدت ايمانها، واعتصمت بباريها، وتشبثت بحقها..
لقد أعطى بلال درسا بليغا للذين في زمانه، وفي كل مان، للذين على دينه وعلى كل دين.. درسا فحواه أن حريّة الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهبا، ولا بملئها عذابا..
لقد وضع عريانا فوق الجمر، على أن يزيغ عن دينه، أو يزيف اقتناعه فأبى..
لقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام، والاسلام، من هذا العبد الحبشي المستضعف أستاذا للبشرية كلها في فن احترام الضمير، والدفاع عن حريته وسيادته..
لقد كانوا يخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها الى جهنم قاتلة.. فيطرحونه على حصاها الماتهب وهو عريان، ثم يأتون بحجر مستعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال، ويلقون به فوق جسده وصدره..
ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم، حتى رقّت لبلال من هول عذابه بعض قلوب جلاديه، فرضوا آخر الأمر أن يخلوا سبيله، على أن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرياءهم، ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم واصراره..
ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة التي يستطيع أن يلقيها من وراء قلبه، ويشتري بها حياته نفسه، دون أن يفقد ايمانه، ويتخلى عن اقتناعه..
حتى هذه الكلمة الواحدة رفض بلال أن يقولها..!
نعم لقد رفض أن يقولها، وصار يردد مكانها نشيده الخالد:
"أحَدٌ أحَدٌ"
يقولون له:
قل كما نقول..
فيجيبهم في تهكم عجيب وسخرية كاوية:
"إن لساني لا يحسنه"..!!
ويظل بلال في ذوب الحميم وصخره، حتى اذا حان الأصيل أقاموه، وجعلوا في عنقه حبلا، ثم أمروا صبيانهم أن يطوفوا به جبال مكة وشوارعها.
وبلال لا يلهج لسانه بغير نشيده المقدس:
" أحَدٌ أحَدٌ".
وكأني اذا جنّ عليهم الليل يساومونه:
غدا قل كلمات خير في آلهتنا، قل ربي اللات والعزى، لنذرك وشأنك، فقد تعبنا من تعذيبك، حتى لكأننا نحن المعذبون!
فيهز رأسه ويقول:
" أحَدٌ.. أحَدٌ..".
ويلكزه أمية بن خلف وينفجر غمّا وغيظا، ويصيح: أي شؤم رمانا بك يا عبد السوء..؟ واللات والعزى لأجعلنك للعبيد والسادة مثلا.
ويجيب بلال في يقين المؤمن وعظمة القديس:
"أحَدٌ.. أحَدٌ.."
ويعود للحديث والمساومة، من وكل اليه تمثيل دور المشفق عليه، فيقول: خل عنك يا أميّة.. واللات لن يعذب بعد اليوم، ان بلالا منا أمه جاريتنا، وانه لن يرضى أن يجعلنا باسلامه حديث قريش وسخريّتها..
ويحدّق بلال في الوجوه الكاذبة الماكرة، ويفتر ثغره عن ابتسامة كضوء الفجر...
ويقول في هدوء يزلزلهم زلزالا:
"أحَدٌ.. أحَدٌ.."
وتجيء الغداة وتقترب الظهيرة، ويؤخذ بلال الى الرمضاء، وهو صابر محتسب، صامد ثابت.
ويذهب اليهم أبو بكر الصديق وهو يعذبونه، ويصيح بهم:
(أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)؟
ثم يصيح في أميّة بن خلف:
خذ أكثر من ثمنه واتركه حراً..
وكأنما كان أمية يغرق وأدركه زورق النجاة..
لقد طابت نفسه وسعدت حين سمع أبا بكر يعرض ثمن تحريره اذ كان اليأس من تطويع لال قد بلغ في في نفوسهم أشده، ولأنهم كانوا من التجار، فقد أردكوا أن بيعه أربح لهم من موته..
باعوه لأبي بكر الذي حرّره من فوره، وأخذ بلال مكانه بين الرجال الأحرار...
وحين كان الصدّيق يتأبط ذراع بلال منطلقا به الى الحرية قال له أمية:
خذه، فواللات والعزى، لو أبيت الا أن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها..
وفطن أبو بكر لما في هذه الكلمات من مرارة اليأس وخيبة الأمل وكان حريّا بألا يجيبه..
ولكن لأن فيها مساسا بكرامة هذا الذي قد صار أخا له...
وندّا، أجاب أمية قائلاً:
والله لو أبيتم أنتم الا مائة أوقية لدفعتها..!!
وانطلق بصاحبه الى رسول الله يبشره بتحريره.. وكان عيداً عظيماً!
وبعد هجرة الرسول والمسلمين الى المدينة، واستقرارهم بها، يشرّع الرسول للصلاة أذانها..
فمَنْ يكون المؤذن للصلاة خمس مرات كل يوم..؟
وتصدح عبر الأفق تكبيراته وتهليلاته..؟
انه بلال.. الذي صاح منذ ثلاث عشرة سنة والعذاب يهدّه ويشويه أن: "الله أحَدٌ..أحَدٌ".
لقد وقع اختيار الرسول عليه اليوم ليكون أول مؤذن للاسلام.