زوجــــــــــي إرهـــــــــــابـي
================
أتت بثيابها الرثة، وخلفها أبناؤها الخمسة، وحالها يدل على أن خطباً جللاً ألمّ بها، فالوجه شاحب، والجسم ناحل، والعين غائرة، والجبين قاطب، والشعر منفوش، ومن الوهلة الأولى بدت لي شبح امرأة أو إنسان خرج الآن من مجاعة لم تتذوق فيها الطعام ولا حتى الماء، وكأنها قدمت من أحد البلدان الفقيرة، ولكني حين أمعنت النظر شعرت أن ظني ليس في محله، فالثياب التي تبدو رثة ليست كذلك في حقيقتها، فهي فاخرة حين تدقق فيها وفي طريقة حياكتها.
ولكن لأن المرآة -حسبما ظهر لي- كانت مشغولة بما هو أهم، لذا فهي لم تهتم بمظهرها الخارجي كثيراً، أتت دون أن تحاول إخفاء ما بداخلها من هموم وأحزان، حيث انعكست على جسدها وملبسها.
اقتربت مني أكثر وأنا أقرأ في وجهها العديد من الأسئلة.
سَلَّمَتْ عليَّ بصوت منخفض مبحوح يشوبه الحزن.
وسألتني:
هل أنتِ المسؤولة عن استقبال الزائرات؟
فأجبتها:
نعم، أنا هي...
وبادرتها:
هل يمكنني مساعدتك؟
قالت:
أريد أن أزور زوجي الذي أخبرت أنه موقوف لديكم.
قلت لها بعد أن تحققت من الاسم:
إنّه موجود بالفعل، ولكنّ وقت الزيارة لم يحن بعد، عليك أن تنتظري قليلاً لحين يسمح بدخول الزوار...
وأكملت:
تفضلي بالجلوس هنا، وأجلستها في مكان قريب منّي، ليس مخصصاً حقيقة للانتظار ولكني تعمدت ذلك لتكون قريبة فأشبع فضولي وأروي عطشي لمعرفة المزيد من التفاصيل المتعلقة بهذه الجريمة اللعينة المُسمَّاة الإرهاب.
إذ أنّي قرأت الكثير عنها، وعن أهدافها، ومخاطرها على الفرد والمجتمع، وأظنكم مثلي قرأتم الكثير، ولكنْ هناك جوانب خفية تهمنا ونريد أن نعرفها وهي متعلقة بمشاعر تلك النوعية من الزوجات، والطريقة التي يفكرن بها، وكيفية تعامل أزواجهن معهن، وهل هم مثل سائر الأزواج أم إنّهم مختلفون عن الآخرين في داخل البيت وخارجه.
سألتها:
منذ متى وزجك موقوف لدينا؟
أجابت:
بأن له ثلاثة أشهر وخمسة أيام.
قلت لها:
أراك تذكرين المدة بشكل دقيق؟
قالت:
بالتأكيد فأنا أحسب كل يوم وكل ساعة بل وكل دقيقة تمر علينا وهو بعيد عنا وعن الأولاد.
فقلت لها:
موقوف طوال تلك المدة وهذه المرة الأولى التي تأتين لزيارته؟
قالت:
لا... كنا نزوره حينما كان موقوفاً في غير هذا المكان، وقد أخبرنا أنه تم نقله هنا لاستكمال التحقيقات معه.
فسألتها:
ما هي مشاعرك وزوجك موقوف الآن في مثل هذه التهمة؟
وهل تظنين أنها مختلفة عن أي تهمة أخرى؟
قالت:
أصدقك القول أني في غاية الطمأنينة الآن لوجوده هنا في هذا المكان بالذات!...
قاطعتها:
كيف ذلك؟
قالت:
لا تندهشي فسأخبرك عن ذلك...
واسترسلت بقولها:
كما تعلمين أن ما يُحاك الآن من مؤامرات ومخططات شيطانية تهدف إلى زعزعة الأمن في جميع البلدان الإسلامية، وخاصة هذه البلاد، ما هي إلا من فتن آخر الزمان، والمدبرون لها يحاولون استغلال كل إنسان يرون فيه من السذاجة ما يكفي لتسخيره للعمل تحت مظل-تهم، وتنفيذ مخططاتهم، وقد وجدوا في زوجي ضالتهم، فهو من تلك النوعية من الناس.
وحين تم القبض عليه من قبل السلطات الأمنية فرحت فرحاً شديداً يفوق حزني على فراقه وبعده عنا وعن بيته وأولاده، وإن كان بعيداً في حقيقة الأمر، ولكن توقيفه هنا حماية له من رفقاء السوء الذين لم يدعوه أبداً وهم على اتصال دائم به، وما أن يجلس معنا في البيت إلا وتنهمر الاتصالات بضرورة حضوره لهم أو هم يحضرون إليه، ولا يعنيهم في أي وقت يتصلون ليلاً أو نهاراً، فهذا غير مهم بالنسبة لهم.
إضافة لهذا كان يغيب عنّا مدة يوم أو يومين أو أسبوع وحتى شهر دون أن يسأل عنا، وحين نسأله أين كان طوال تلك المدة يدعي أنه كان في عمل... مرة يقول إنه مهم، وأخرى ضروري، ومرات خاص.
وما كان يقلقني كثيراً ويقض مضجعي هو تلك التفجيرات التي تحدث في بلادنا، أو في أي مكان آخر، حيث أظل خائفة وجلة حتى يتصل بنا بعدها بيومين أو ثلاثة ليخبرنا أنه بخير ثم ينهي المكالمة.
والحقيقة أنّنا من دون ذلك الاتصال كنا نظنه في عداد الموتى في كل عملية إرهابية تحدث.
أما وجوده هنا فيعني الأمان بالنسبة لنا وله، فهو بعيد عن شبح الاتهام وقريب منا نستطيع رؤيته متى رغبنا ذلك، والأهم من هذا كله نعلم أنه سوف لن يتعرض لأية مضايقات في سجنه مقارنة بتوقيفه في أي بلد آخر من تلك البلدان التي كان يسافر إليها.
سألتها:
وماذا عن الشق الثاني من سؤالي؟
هل جريمته هذه مختلفة عن أية جريمة أخرى، فأنتِ لم تجيبي عنه؟
قالت:
الحقيقة أنّ زوجي لم يكن ذا سوابق، وليس هناك أيّ من معارفي سبق أن أتهم بأية قضية، فأنا في الواقع من أسرة محافظة معروفة بالصلاح، لذا يصعب علي معرفة الفرق بين هذه الجريمة وغيرها من الجرائم الأخرى.
ولكني أظن أن جميع الجرائم فردية، أي أن ضررها موجه إلى شخص أو مجموعة أشخاص، أما هذه الجريمة فهي موجهة إلى المجتمع كله وضررها يطال الجميع.
وأحمد الله أني أعيش في مجتمع مسلم متراحم متعاطف يستمد تصرفاته وردود أفعاله من كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكلهم يعلمون ويعملون بقوله تعالى: "وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى..." إلى آخر الآية (فاطر: 18).
وإلا لأصبح موقفي صعباً ولا يمكن احتماله ولصرت منبوذة أنا وجميع أطفالي وحتى أهلي وأهل زوجي.
ولكن ما يحدث يعجز اللسان عن وصفه، فجيراني يتصلون ليسألوا عنا وعن أحوالنا، وكذلك بعض أصدقاء زوجي السابقين، وحتى معاملة السلطات الأمنية لنا في غاية الاحترام والتقدير وكذلك يفعلون مع زوجي.
فسألتها:
ولكن كيف كانت علاقتك مع زوجك قبل أن يتم توقيفه؟
وهل كان يحدثك عما يجري أو ينوي فعله؟
قالت:
علاقتي مع زوجي مختلفة كثيراً عن مثيلاتها من العلاقات الزوجية، فنحن كما أخبرتك لم نكن نراه إلا نادراً، فأغلب وقته يقضيه مع أصحابه، وحين يجلس لا يتحدث معنا كثيراً، فهو إما يجري مكالمة هاتفية أو يقرأ بعض الأوراق التي يحضرها معه والتي لا نعرف ما تحويه بالضبط.
ولكني لا أظنها سوى تلك المنشورات التحريضية التي تريد إثارة الفتنة وزعزعة الأمن في هذه البلاد، أو يستمع لأشرطة تحوي نفس المضمون، ويتداولونها بينهم بطريقة سرية جداً؛ لأنّها غير مصرحة ويحظر بيعها.
فسألتها:
هل يعني هذا أنكم لا تتكلمون مع بعضكم مطلقاً؟
قالت:
لا، فأنا أخبرك عن وضعه في البيت، ولكننا نتكلم أحيانا في أمور مختلفة كأي زوجين، وإن كان ميالاً للحديث عن ما يدور في هذا العالم من مشكلات ويناقشها بطريقته الخاصة، ويجرِّم ويسب ويلعن ويكفر من لا يتفق معه.
وحين أذكره بعدم جواز ذلك، وأنّ علماء المسلمين المتقدمين والمتأخرين نهوا عنه، يغضب مني، وينهي الحديث بالقول: هؤلاء علماء السلاطين، فلا تسمعي لهم، ثم يغادر المكان دون أن يترك لي مجالاً لمناقشته، فكأن دماغه مغسول ومبرمج بطريقة معينة لا يمكنني التوافق معها.
فسألتها:
وماذا عن الأولاد؟.
فقالت:
وقد تنهدت بطريقة أشعرتني أن بها من الهم ما لا تطيق حمله الجبال: الأولاد... وما الذي يجعلني أصبر على الحال الذي أعيشه سواهم، وإلا لجعلت حداً لهذه الحياة البائسة منذ خمس سنوات، ولكن إن طلبت الانفصال فسوف يضيعون ويتشردون.
فقاطعتها:
ولمَ لا تطالبين بحق رعايتهم خاصة أنه ليس لديه الوقت الكافي للعناية بهم؟
فقالت:
أنت لا تعرفين كيف يفكر هذا الصنف من الناس!...
فهم يحبون الجدل والتحدي والتصادم مع الآخرين، حتى لو أدى الأمر إلى إلحاق الضرر بالجميع، فهذا غير مهم بالنسبة لهم، فما هو مهم بالنسبة لهم هو أن يوافقهم الناس على أرائهم، وما يريدون تحقيقه، بغض النظر عما يترتب عليها من مفاسد حتى لو كان الأمر متعلقاً بأبنائهم وإلحاق الضرر بهم فهذا لا يهم.
فسألتها:
ولكن مَنْ يرعاهم ويلبي احتياجاتهم؟
فقالت:
أنا أقوم بعمل كل شيء في البيت، فأنا الأب، والأم، والأخ، والصديق لهم، وأنا من يقوم بنصحهم وإرشادهم وتعليمهم وتوجيههم، وعزائي أن الله -تعالى- لم يذهب جهدي سدى، فهم جميعاً طيبون وعلى درجة عالية من الخلق والتفوق الدراسي، على الرغم من أني بدأت أعاني بعض الشيء مع أكبرهم الذي بلغ سن المراهقة، وعمره الآن أربع عشرة سنة، وأشعر أنه بحاجة شديدة لوالده أو لمن يقف معه.
فقلت لها:
ولما لا تستعينين بوالدك أو أحد إخوتك أو أقاربك ليقوم برعايته والاهتمام به؟
فقالت:
هناك مشكلة قد تخفى على الكثيرين، وهي أن الناس وخاصة الأقارب منهم يقفون ويتعاطفون مع الأسرة التي تفقد معيلها بالموت أو المرض مثلاً؛ لأن الجميع يعلم عن ذلك ويعرف حاجة الأبناء للرعاية والاهتمام، فتجدينهم يبادرون ويسألون ويطمئنّون.
أما بالنسبة لِمَنْ هم في مثل وضعي فمع الأسف لا أحد يقف معهم -ليس تقصيراً، ولكن لأنهم لا يعلمون ما يجري، فالناس غافلون وكُلٌ منشغل بشؤونه، والبيوت أسرار، لا أحد يعلم ما بداخلها-.
ولكن بعد أن تم توقيفه قبل ثلاثة أشهر التف الجميع حولنا وبدأوا يسألون ويعرضون خدماتهم، كُلٌ حسب استطاعته.
أي أن الناس لا يعلمون بفقد الأسرة معيلها إلا في حال الوفاة أو المرض أو السفر الطويل أو السجن، أما في مثل حالتي طوال الخمس سنوات الماضية فلم يعلم بحالي سوى الله وحده.
ولذا كنت أعاني الأمرين، أما الآن فالوضع أفضل كما أخبرتك، وله العديد من الجوانب الإيجابية بالنسبة لي وللأولاد.
فسألتها:
ألم تسألوا عن الرجل قبل الارتباط به؟
فتبسمت ثم قالت:
بلى قد سألنا عنه، وهو من خيرة الناس، ومن عائلة محترمة جداً، وقد عشنا معاً قرابة الإحدى عشرة سنة دون أية مشكلات أو منغصات، ولكن في الخمس سنوات الأخيرة تعرف إلى أحد الأشخاص فغير مجرى حياته وورطه في أمور كثيرة، وعرفه إلى العديد من الأشخاص مِمَّنْ يحملون أفكاراً هدامة.
فأهمل مؤسسته التي كانت مصدر دخله الوحيد، وبدأ يختلف مع العمالة الذين رحلوا واحداً تلو الآخر، ولم يبق منهم سوى اثنين لا نعلم عنهم شيئاً، بالإضافة لانقطاعه عن والديه وأهله مُدداً طويلة، وعند سؤالهم عنه يخبرهم أنه في شغل دائم، وطبيعة عمله تفرض عليه السفر لجلب عمالة وغيرها، وكانوا يصدقونه بالطبع، ويلتمسون له العذر، ولم أكن أجرؤ على إخبار والديه بحقيقة الأمر، وهذا من أكثر الأشياء التي ندمت على عدم فعلها، وأجدني مذنبة دائماً بسببه، وأشعر أني لو أخبرتهم لتمكنوا من إقناعه وتغيير سلوكه، أو على الأقل الحد من تلك التصرفات الطائشة التي كان يقوم بها.
فسألتها:
ولكن ماذا عن أصحابه الذين كانوا معه؟
هل يتصلون ويطمأنون عليكم؟
فقالت:
بالطبع لا... فكما أخبرتك أن لهم أهدافاً وهموماً ليس من ضمنها زوجي وعائلته، ولكنهم استغلوه وحين سقط في أيدي رجال الأمن ذهبوا وتركوه، فهو بالنسبة لهم منتهي الصلاحية.
ولا أبالغ حين أقول إنّهم على العكس من ذلك تماماً، فلو تمكنوا منه لقضوا عليه؛ لأنهم يخشون أن يُبلغ عنهم أو يُرشد إلى مواقعهم وأوكارهم.
لذا فأنا أتمنى أن لا يطلق سراحه حتى يتم اعتقال جميع أصحابه من ذوي الفكر الهدَّام، وهم ولله الحمد قلة ومعروفون لدى الجهات المختصة، وأسأل الله -تعالى- أن يُعين القائمين على هذه البلاد للسيطرة عليهم وتخليص الناس من شرورهم.
نظرت إلى الساعة فوجدت عقاربها تشير إلى الرابعة وهو موعد بداية الزيارة، والإعلان عن ساعة الوداع وانتهاء المقابلة المُمتعة مع تلك المرآة العظيمة الرائعة، وأسئلتي لم تنته بعد، فلدي الكثير، والذي يحتاج كل واحد منها إلى إجابة وتوضيح، ولكن لعلي أقابلها مرة أخرى، ودَّعتُها وأبناءها متمنية لهم التوفيق والثبات والصبر.