"يَا زَمَانَ الوَصْلِ بِالأَنْدَلْسِ"
عبد الرحمن الناصر
من جورج الثانى... إلى الخليفة المسلم
ملك إنجلترا وفرنسا... ملك المسلمين فى مملكة الأندلس
والسويد والنرويج... صاحب العظمة والمقام الجليل
وبعد التعظيم والتوقير فقد سمعنا عن الرُّقى العظيم الذى تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات فى بلادكم العامرة فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج هذه الفضائل لتكون بداية حسنة فى اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم فى بلادنا التى يسودها الجهل من أربعة أركان..
ولقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة (دوبانت) على رأس بعثة من بنات أشراف الإنجليز تتشرف بلثم أهداب العرش والتماس العطف لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم.. وحماية الحاشية الكريمة ولقد أرفقت مع الأميرة الصغيرة هدية متواضعة لمقامكم الجليل أرجو التكرم بقبولها مع التعظيم والحب
من خادمكم المطيع
جورج ملك إنجلترا
بطلنا الآن هو عبد الرحمن الناصر باللَّه، أعظم ملك عرفته أوروبا في القرون الوسطى، وهو أقوى مَنْ حكم الأندلس في تاريخها منذ بداية الفتح الإسلامي وحتى سقوطها، وفترة حكمه التي سبقت فترة حكم ملوك الطوائف بسنوات كانت أزهى فترة للمسلمين في الأندلس.
فلقد اهتم هذا العظيم الإسلامي بنشر العلم في الأندلس، لتصبح نسبة الأمية بين صفوف المسلمين في الأندلس تساوي صفرًا في المائة!
هذا الملك قام بتوسعة جامع قرطبة ليصبح أكبر جامعٍ في العالم في وقتها، جاعلًا من قرطبة قبلة لطلاب العلم والعدل في العالم بأسره.
فقد نشر الناصر باللَّه العدل في أرجاء الخلافة الأموية في الأندلس، فتوافد اليهود والنصارى المضطهدون للعيش عند المسلمين في قرطبة بكل أمان وحرية، وتقاطر العلماء المسلمون من أرجاء البلدان الإسلامية إليها، فأصبحت قرطبة ثاني أكبر مدينة في العالم من حيث عدد السكان (بعد بغداد حاضرة العباسيين).
وبُني في قرطبة ثلاثة آلاف مسجد، وازدهر العلم، وتطورت فنون البناء، وصُممت الحدائق بأشكال هندسية عجيبة، ولأول مرةً في تاريخ الإنسانية أصبحت قرطبة حاضرة المنصور أول مدينة في العالم تنار كل شوارعها ليلًا، فكانت قرطبة الإسلامية كالجوهرة المضيئة في ظلمات أوروبا الغارقة في الجهل والظلام.
فأرسل الأوروبيون البعثات العلمية لبلاد المسلمين، ولأول مرة في أوروبا ظهرت المستشفيات والمكتبات العامة في أرجاء الدولة الإسلامية، وبنى الخليفة عبد الرحمن مدينة "الزهراء"، والتي اعتُبرت أجمل مدينة في العالم.
فلقد بناها علماء المسلمون بطريقة عجيبة، وهي مدينة فوق مدينة، سطح الثلث الأعلى على الحد الأوسط، وسطح الثلث الأوسط على الثلث الأسفل، وكل ثلث منها له سور، فكان الحد الأعلى منها قصورًا يعجز الواصفون عن وصفها، والحد الأوسط بساتين وروضات، والحد الأسفل فيه الديار والجامع.
وبنيت بمدينة قرطبة القنطرة العجيبة التي فاقت قناطر الدنيا حسنًا وإتقانًا، فكثرت الأموال واتسع نطاق الخدمات، والعلاج المجاني، وانتشر التعليم المجاني، بل إن طالبي العلم كان يُخصص لهم راتب شهري.
ولأول مرة في تاريخ الانسانية أدخل المسلمون نظام الرعاية للمسنين، فبنيت دورٌ للعجزة، ووُظّف فيها مَنْ يقوم بخدمتهم، وبنيت دورٌ لرعاية الحيوانات، وأقيمت المصانع العسكرية، والموانئ البحرية، وازدهرت الصناعات الحديثة في أرجاء الخلافة في عهد الناصر.
وامتلك المسلمون أقوى جيشٍ عرفته أوروبا في القرون الوسطى، فجاءت وفود ملوك أوروبا من كل حدب وصوب بالهدايا الثمينة وبأموال الجزية إلى الخليفة الناصر في قرطبة.
العجيب أن هذا كان وضع الأندلس قبل عهد ملوك الطوائف بسنوات قليلة، وإذا كنت تتساءل كيف تحوَّل حال المسلمين في الأندلس إلى تلك الحالة المُزرية بعد ذلك حتى صاروا يدفعون الجزية لألفونسو، فاعلم أن العجب كل العجب يكمن في حال المسلمين قبل ظهور هذا البطل الإسلامي على الساحة الأندلسية.
فلقد وصلت الأندلس إلى حالة من التمزق والتشرذم الرهيب في تلك الفترة التي سبقت تولي عبد الرحمن الناصر مقاليد الحكم في الأندلس، ويكفي لكي نبيِّن مدى الضعف الذي وصلت إليه الأندلس أن نذكر أن عبدالرحمن الناصر لم يكن مرشحًا للإمارة أصلًا، وإنما تقلَّد ذلك المنصب بعد أن رفضه جميع أعمامه وأبناء أعمامه، لا زهدًا في الحكم، بل هربًا من الوضع المزري الذي وصلت إليه الأندلس في تلك الفترة.
فلم يرد أي منهم أن يكون ذلك الملك الذي سيكون في عهده سقوط الأندلس المتوقع، فلقد بلغت الأندلس من الضعف والتفكك مبلغًا جعل من سقوطها أمرًا حتميًا، بل جعل منه مسألة وقتٍ لا أكثر.
فتولَّى عبد الرحمن الناصر باللَّه الإمارة وهو شابٌ صغير لم يتجاوز الواحدة والعشرين من عمره، ليقوم هذا الشاب الصغير بتغيير مجرى التاريخ الإنساني ليس في الأندلس فحسب، بل في كل أرجاء القارة الأوروبية!
ولكن كيف لهذا الشاب أن يحوِّل حال بلادٍ كاملةٍ مثل الأندلس تحويلًا كاملًا لتصبح أعظم مملكةٍ عرفتها القرون الوسطى على الإطلاق؟
الحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال تكمن في سر اختيارنا لهذه الشخصية الإسلامية بالذَّات لكي تكون ضمن قائمة المائة.
فَسِرُّ عظمة عبد الرحمن الناصر لا يكمُن في القوة التي سادت عصره، بل يكمن في الضعف الذي كان سائدًا في بلاده قبل مجيئه!
فلو أن الناصر نشأ في بيئة كلها انتصارات، لما اخترناه من ضمن عظماء هذه الأمة، فالعظماء في كل الأمم -وليس فقط في أمة الإسلام- هم الذين يُغَيِّرُونَ من وضع شعوبهم من حالة الضعف والهوان إلى حالة القوة والتمكين، فالمعادن الصلبة لا تخرج إلّا من بوتقة اللهب المُستعر!
ولكي نتعلم نحن كيفية صناعة العظماء في فترات الضعف التي نعيش بها حاليًا والتي لا تختلف كثيرًا عن الفترة التي نشأ بها بطلنا، يجب علينا دراسة حياة هذا القائد الإسلامي جيدًا كي يتسنَّى لنا استنباط الدروس والتي من خلالها فقط يمكن لنا أن نصنع عبدًا للرحمن ينصر اللَّه به حال عباد الرحمن في هذا الزمان!
فمن خلال دراستي لحياة هدا الرجل وجدت أن هناك ثلاثة عوامل جعلت منه قائدًا عظيمًا، أعتبرها شخصيًا العوامل الأساسية التي يمكن لنا من خلالها صناعة أي بطلٍ قادم للأمة:
(أولًا) غرس روح البطولة في الإنسان:
وذلك من خلال استحضار بطولات العظماء في تاريخ هذه الأمة، فلقد كان (عبد اللَّه بن محمد) وهو جد الناصر باللَّه يَقُصُّ على حفيده منذ نُعومة أظفاره قصص بطولات جده الأكبر (عبد الرحمن الداخل) "صقر قريش"، فصنع بذلك بيئةً مليئةً بالبطولة في مخيلة حفيده عبد الرحمن تختلف عن تلك بيئة الهزيمة القاتمة المحيطة به في الخارج!
(ثانيًا) معرفة الأعداء الحقيقيين:
حارب الناصر خونة الشيعة العبيديين، فكعادة الشيعة الروافض التي لا يمكن لهم تغييرها منذ فجر الإسلام وحتى سقوط بغداد عام 2003 م، قامت الدولة الشيعية العبيدية (الفاطمية) التي احتلت المغرب بإمداد الصليبيين في الأندلس بالسلاح عبر الصليبي (صامويل بن حفصون).
وسنرى لاحقًا في طيّات هذا الكتاب مظاهرَ متنوعة للخيانات المُتكرّرة لأولئك القوم الخونة عبر جميع مراحل تاريخ هذه الأمة وفي مختلف أرجاء ديار الإسلام!.
(ثالثًا) الالتزام الديني:
وهو الأهم... فلقد كان الخليفة عبد الرحمن الناصر رحمه اللَّه ورعًا تقيًا زاهدًا في الحياة، فعلى الرغم من الغنى الفاحش الذي عَمَّ الأندلس في عهده، وجد الناس في خزانته ورقة كان قد كتبها بخط يده، عَدَّ فيها الأيام التي صفت له دون كدر فقال: في يوم كذا من شهر كذا في سنة كذا صفا لي ذلك اليوم.
فعدّها الناس بعد موته، فوجدوها أربعة عشر يومًا فقط!
ولكن... إلى أي عائلةٍ ينتمي عبد الرحمن الناصر، ومن قبله عبد الرحمن الداخل؟
وماذا قدمت تلك العائلة العظيمة للإسلام؟
ولماذا شُوِّه تاريخُ هذه العائلة بالذات بشكلٍ رهيب؟
فَمَنْ تكون تلك العائلة التي كانت أعظم عائلةٍ على الإطلاق تحكم الإسلام في تاريخه المُمتد لأكثر من أربعة عشر قرنًا؟
يتبع...
يتبع إن شاء الله...