(الغلام المجهول)
"ما ضرهم ألا يعلمهم عمر؟! يكفيهم أن اللَّه يعلمهم!"
(عمر بن الخطاب).
واندلعت شرارة اليرموك...
لا شك أن جميعنا قد سمع باسم أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وخديجة بنت خويلد، وعائشة، وصلاح الدين الأيوبي، وقطز، والبخاري، والشافعي، وأبي حنيفة، وابن بطوطة، وهارون الرشيد، وعمر المختار، وغيرهم الكثير من عظماء هذه الأمة.
ولكن الحقيقة الغائبة عنّا أن هذه الأمة لم تقم على سواعد هؤلاء العظام فقط، فهناك طائفة منسية من العظماء الذين كان لهم نصيب الأسد في نهوض أمة الإسلام عبر جميع مراحلها، أعتقد اعتقاد الجازم أنها لا تقل أهمية عن طائفة المشاهير في أمة الإسلام.
لذلك ارتأيت وأنا أكتب كتابًا تجرأت فيه على أن أتحمل عبء ذِكر عظماء أمة الإسلام المائة، أن أقف قليلًا أمام هؤلاء العظماء الذين لم يأخذوا حقهم من التأريخ في كتب التاريخ، فلقد جاء الوقت لكي نقف جميعًا وقفة وفاءٍ أمام هؤلاء المجهولين، والذين كانوا وبلا شك أساس نهضة هذه الأمة، إننا نتحدث عن الطائفة المنسية، إننا نتحدث عن العظماء المجهولين!
وبافتراض أن قادة وعلماء هذه الأمة هم بناة هذه الحضارة الإسلامية العظيمة، فلا شك أن مجهولي هذه الأمة هم اللبنات الأساسية لهذا الصرح العظيم.
فمَنْ منّا يعرف أسماء الألف ومائتي شهيد من جيش خالد ابن الوليد الذين قُتلوا في اليمامة لكي يصل هذا الدين إلينا؟
ومَنْ منَّا يعرف أسماء الثلاثة آلاف شهيد من جيش طارق بن زياد الذين حملوا الإسلام إلى الأندلس لأكثر من 800 عام؟
وما هي أسماء التلاميذ الذين كتبوا ما قاله فقهاء المذاهب الأربعة ثم نشروه في أصقاع الأرض في الوقت الذي ضاعت فيه مذاهب علماء آخرين؟
وما هي أسماء الجنود المصريين الذين حاربوا التتار مع قطز؟
وما اسم التُّجار الحضارمة الذين حملوا الإسلام إلى اندونيسيا أكبر دولة إسلامية؟
وما اسم أم صلاح الدين الأيوبي التي زرعت فيه روح البطولة؟
وما اسم زوجة الشيخ أحمد ديدات التي كانت تسهر على علاجه لتسع سنوات قضاها مشلولًا في فراشه؟
وما اسم أبطال الإسلام الذين ضحوا بأرواحهم ليدمروا إمبراطورية فارس إلى الأبد؟
إنهم المجهولون العظماء في أمة الإسلام.
لذلك أضع في هذه السطور قصة عظيمٍ واحدٍ منهم عرفانًا لكل هؤلاء بالجميل لما قدَّموه لأمة الإسلام في كل العصور.
كل ما نعرفه عن بطلنا هذا أنه غلام دون العشرين من عمره، وأنه ينتمي إلى قبيلة الأزد القحطانية التي خرَّجت الكثير من عظماء هذه الأمة.
وقصة بطولته في اليرموك تبدأ عندما خرج فارس ضخم من جيش الروم يطلب المبارزة قبل أن تبدأ المعركة كعادة الجيوش قديمًا، عندها ومن بين جيش المسلمين الذي يكفي أن نقول أنه كان يضم بين صفوفه 100 من البدريين.
خرج غلامٌ من الأزد لا يعرفه أحد وهو دون العشرين، فجرى ناحية أبي عبيدة بن الجرَّاح وقال له: يا أبا عبيدة إني أردت أن أشفي قلبي، وأجاهد عدوي وعدو الإسلام، وأبذل نفسي في سبيل اللَّه تعالى لعلي أرزق بالشهادة فهل تأذن لي؟
فهزَّت هذه الكلمات قلب أبا عبيدة بن الجرَّاح، فَأَذِنَ له، فمشى هذا الغلام الأزدي ليُقابل مصيره ولكنه توقف فجأة... فأدار وجهه تجاه أبي عبيدة وعيونه تشرق نورًا في لقطة أشك أن باستطاعة أي مخرج في العالم تصويرها.
فنظر في عينيّ أبي عبيدة عامر ابن الجرَّاح وقال له كلمات لا تنبع إلا من شباب أمة الإسلام: يا أبا عبيدة، إني عازمٌ على الشهادة، فهل تُوصيني بشيء أوصله إلى رسول اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلّم-؟
وما أن سمع أمين هذه الأمة هذه الكلمات أجهش أبو عبيدة في البكاء فقال له والدموع تبلل لحيته: "أَقْرِأ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مني ومن المسلمين السلام وقل له يا رسول اللَّه... جزاك اللَّه عنّا خيرًا، وإنَّا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا".
فانطلق ذلك الغلام الأزدي كلأسد الجارح نحو العملاق الرُّومي وقاتله حتى قَتله، فأخذ فرسه وسلاحه وسلّمَهُمَا إلى المسلمين، فعلت صيحات اللَّه أكبر في جيش الموحدين.
ثم عاد الغلام من جديد إلى جيش الرُّوم وصاح بهم صيحة هزت كيانهم: هل من مبارز؟
فخرج له فارس ثاني لا يقل ضخامة عن سابقه، فبارزه بطلنا فقتله، فتقدَّم رومى ثالث فقتله، ثم رابع فقتله، فتعجَّب الرُّوم من أمر ذلك الغلام الذي يُقبل على الموت بنفسه.
ومع الفارس الرُّوماني الخامس، تحققت أمنية ذلك الفتى المجهول في الشهادة، فقطع ذلك العلج الرومي رقبته، فطارت رقبة الغلام على الأرض، فاستشهد ذلك البطل المجهول ليوصل رسالة أبي عبيدة عامر بن الجراح إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولتبدأ فصول ملحمة إنسانية خالدة ما عرفت أرض الشام مثلها من قبل... لقد بدأت معركة اليرموك!
لقد بدأت هذه المعركة الباسلة، فاندفع جيش يقترب من نصف مليون مقاتل كأنهم سيل جارف نحو 32 ألف مسلم فقط، فأصبحت جحافلهم تندفع نحو المسلمين كأنها أسراب جراد تنتشر من كل اتجاه.
فقاتل المسلمون بشراسة، إلّا أن أعداد جيش الإمبراطورية الرُّومانية كانت أكثر من أن تحصى، فلا يقتل المسلمون واحدًا منهم حتى يظهر عشرة مكانه!
فمالت كفة الرُّوم في المعركة، وحاصر الرومان جيش المسلمين من كل جانب، وأصبح المسلمون قاب قوسين أو أدنى من هزيمة ساحقة، وعند تلك اللحظة فقط يظهر دور العظماء.
وعند تلك اللحظة فقط جاء دور عظيم جديد من عظماء أمة الإسلام المائة، هذا العظيم اتخذ أصعب قرار يمكن أن يتخذه الإنسان في حياته، فمن قلب معمعة المعركة قرَّر هذا العملاق الإسلامي إنشاء أول كتيبة من نوعها في تاريخ الإنسانية جمعاء، هذه الكتيبة عرفت في كتب التاريخ باسم "كتيبة الموت"!
فما هي قصة هذه الكتيبة الفدائية؟
وكيف حوَلَّت مجرى المعركة بشكل عجيب؟
ومَنْ هو ذلك البطل الإسلامي العظيم الذي كتب اسمه بحروف من نور في سجل الشَّرف الإسلامي؟
وما قصة شربة الماء التي مات ثلاثة من أبطال المسلمين قبل أن يشربوها؟
يتبع...
يتبع إن شاء الله...