أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: أمين هذه الأمَّة (أبو عبيدة بن الجرَّاح) الإثنين 07 نوفمبر 2016, 7:51 pm | |
| أمين هذه الأمة (أبو عبيدة بن الجراح)
"إن لكل أمة أمينًا، وأمين هذه الأمة" (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-).
لا أعرف ما الذي انتابني وأنا أهُّم بالكتابة عن هذا العظيم الإسلامي بالتحديد، شعورٌ غريب بالرهبة ممزوجٌ بالحب الخالص تجاه هذا الرجل.
فعندما كنت صغيرًا كان مجرد سماعي لاسم (أبي عبيدة عامر بن الجراح) يُدخل في قلبي إحساسًا بالفخر والمجد، حتى قبل أن أعرف شيئًا عن بطولات هذا الإنسان الرائع.
وها أنا أتجرأ الآن وأكتب عن تلك القامة العالية التي لطالما أبهرتني طفلًا، وليت شعري ما الذي أفعله؟
فمازال ذلك السؤال الذي راودني منذ أول نقش في سطور هذا الكتاب يطاردني: هل باستطاعتي فعلًا وصف تلك الهامات الشامخة التي ناطحت السَّحاب بسمُّوها وعظمتها؟
أعترف هنا، وبالذات عند هذا الرجل، أنني كنت مبالغًا جدًا في ثقتي بقلمي هذا عندما وُلدت في ذهني فكرة إنتاج كتاب تدور أحداثه حول مائة عظيم وعظيمة في أمة الإسلام.
ولكنّي أحمد اللَّه عر وجل أنني لم أكتشف ضآلة حجم ذلك القلم وحامله إلّا بعد أن أبحرت في بحار قصصهم العظيمة، ومغامراتهم الشيقة، فكان مستحيلًا عليَّ ترك عالمهم المليء بعجائب القصص التي كنت مولعًا بها منذ الصغر، فكان الحل الوحيد للتخلص من هذا المأزق هو أن أبحر بسفينة التاريخ الإسلامي عبر بحار أولئك العظماء المائة، مخترقًا بها حاجزي الزمان والمكان، حتى أصل بها إلى ميناء العظيم المائة، محاولًا قدر استطاعتي قطف زهرة واحدة من بستان كل عظيم منهم.
أمَّا مَنْ أراد جمع كل جوانب العظمة التي تحيط بهم، فليفتش على كتاب كتبه أي مؤرخ في أي عصر من عصور التاريخ، يضم في صفحاته جميع أوجه عظمة هؤلاء العظماء المائة أو حتى عظمة فرد واحد منهم فقط.
ومَنْ استطاع إيجاد ذلك الكتاب المستحيل... فليدلَّني عليه!
والحقيقة أن صعوبة المرحلة التي مر بها أبو عبيدة بن الجراح كانت أشد من أن يتصورها خيال أو يدركها عقل، ففي يوم بدر رأى أبو عبيدة رجلًا من المشركين في جيش قريش يحاول مبارزته، فحاول أبو عبيدة جاهدًا أن يتجنب قتال ذلك الرجل بالذات.
إلّا أن ذلك المشرك أخذ يتتَّبع أبا عبيدة في كل مكان يريد قتاله، وفي لحظة من اللحظات النادرة في تاريخ النفس البشرية كان الاثنان في مواجهة بعضهما البعض.
فمن هو هذا الرجل الذي أراد مبارزة أبي عبيدة؟
قبل أن نتعرف على هوية هذا الرجل المُشرك لابد أن نرى التصوير الرَّبَّاني لهذه اللقطة العظيمة من عمر الأرض، فلقد بلغ من سمو هذه اللحظة أن خلَّدها اللهُ من فوق سبع سماوات في قرآنٍ يُتلى إلى يوم القيامة.
فأنزل اللَّه هذه الآية في حق أبي عبيدة عامر ابن الجراح: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)}.
لقد كان ذلك المُشرك هو الجرَّاح أبو أبي عبيدة نفسه!
فَقَتَلَ أبو عبيدةُ أباه، أو قل قَتَلَ أبو عبيدة الكُفْرَ في أبيه، فلقد أدرك أبو عبيدة أنه بين خيارين اثنين لا ثالث لهما: الأهل أو الإسلام!
فلم يكن صعبًا عليه أبدًا أن يختار، فلقد اختار أبو عبيدة الإسلام العظيم.
ومن بدر إلى أحُد... هل ما زلنا نتذكر كيف كان طلحة يدافع عن الرسول حينما كان خطر القتل يتهدده من كل جانب؟
حينها جاء من بعيد أبو بكر يجري بأقصى سرعته لينجد رفيق دربه محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، والحقيقة أن أبا بكر لم يكن يجري لوحده وإنما لحق به من جهة المشرق رجل طويل القامة، نحيف الجسم، وصفه أبو بكر بوصف عجيب في حديث عائشة بقوله: "إنسان قد أقبل من قِبَلِ المشرق يطير طيرانًا، فقلت: اللهم اجعله طاعة حتى توافينا إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإذا أبو عبيدة بن الجراح! ".
هناك رأى الاثنان أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد أصيب في وجهه حتى دخلت في وجنتيه حلقتان من المِغفر (خوذة المحاربين)، فأراد أبو بكر نزعهما من وجه حبيبه الطاهر -صلى الله عليه وسلم-، إلا أن إبا عبيدة قال له: "أسألك باللَّه يا أبا بكر إلَّا تركتني".
فَعَضَّ أبو عبيدة الحلقة الحديدية التي في وجنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأخذ يشدُّها بأسنانه حتى نزعها فسقطت إحدى أسنان أبي عبيدة، ثم عَضَّ بأسنانه الحلقة الحديدية الثانية والدماء تجري من فمه حتى نزع الحلقة الحديدية الثانية وسقطت معها سن أخرى، فكان أبو عبيدة من الناس أثرمًا لفقدانه ثنيته في تلك الحادثة التي أنقذ فيها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-.
وفي اليرموك كان أبو عبيدة القائدَ الأعلى للقوات الإسلامية المُقاتلة، فانتصر المسلمون تحت إمرته على نصف مليون من الروم، قبل أن ينتشر "طاعون عمواس" في أراضي الشام انتشار النَّار في الهشيم.
عندها أراد الخليفة عمر بن الخطاب أن ينقذ أبا عبيدة من الموت المحقق بأي وسيلة ممكنة، فحاول أن يستقدمه إلى المدينة بأي حجة كانت ليبعده عن خطر الوباء، فبعث إليه: "إنه قد عرضت لي حاجة، ولا غنى بي عنك فيها، فعجِّل إليَّ".
فلما قرأ أبو عبيدة رسالة الخليفة ابتسم وعرف أن الفاروق يريد إنقاذه من الموت فكتب إلى عمر يقول له: "من أبي عبيدة بن الجرَّاح إلى عمر بن الخطَّاب أمير المؤمنين، السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته، وبعد... إني قد عرفت حاجتك، فحللني من عزيمتك، فإني في جند من أجناد المسلمين، لا أرغب بنفسي عنهم".
فلما قرأ عُمَرُ الكتاب أجهش بالبكاء فقيل له: مات أبو عبيدة؟! قال: لا، وكان قد (أي: وكأنه مات)، فبكى أهل المدينة على هذا البطل.
وفعلًا ما هي إلّا أيام حتى انتشر الطاعون في جسد الأمين، في جسد رجل من أشرف الرجال، وأعظم الرجال، وأروع الرجال، فاستشهد أبو عبيدة بعد أن حمل راية لا إله إلا اللَّه، محمدٌ رسول اللَّه، إلى مُدُن الشَّام وقُرَاهَا.
فلا يُسَبِّحُ اللهَ شيخٌ في دمشق، ولا يُولد عالمٌ في حماة، ولا تُصَلّي عجوزٌ في عمَّان، ولا يُذكر اللهُ في صيدا، ولا يُرفع الأذان من فوق مآذن الأقصى، ولا يُجاهد بطل في غزة، ولا يُستشهد بطل في رام اللَّه، إلّا وكان لأبي عبيدة عامر بن الجرَّاح مثل أجرهم لا ينقص من أجرهم شيء.
فليرحمك اللَّه يا أمين هذه الأمة.
ولكن ما قصة معركة اليرموك؟
ولماذا كان يوم اليرموك يومًا من أيام اللَّه الخالدة؟
ومَنْ يكون ذلك العظيم الإسلامي الذي سأل أبا عبيدة سؤالًا عجيبًا قبل أن يذهب إلى الموت بقدميه؟
ولماذا بكى أبو عبيدة عند سماعه لذلك السؤال؟
مَنْ هو هذا البطل العظيم؟
وما سر اعتباره عظيمًا استثنائيًا في قائمة المائة؟ يتبع... يتبع إن شاء الله... |
|