رســالة في أحكــام قيــام الليـل
تأليف:
سليمـــان بن ناصـــر العـلــوان
غفر الله له ولوالديه وللمسلميـن
=================
الطبعة الأولى بسم الله الرحمن الرحيم
خص الله بعض عباده بخير عظيم وعمل كبير، وفتح لهم من أبواب الخير والطاعة ما زكت به قلوبهم وعزّت نفوسهم واستنارت صدورهم وطابت حياتهم وأنسهم ونعيمهم، وبصّرهم بطريق الحق ويسّر لهم أسباب السعادة ومنّ عليهم بلذة العبادة ومناجاة الله في أسحارهم وخلواتهم.
قـــــــــــومٌ إذا جن الظلام عليهم
خمصُ البطونِ من التعفف ضمراً
باتــوا هنــالك سجّــداً وقيــامــــاً
لا يعرفون سوى الحلال طعامـــاً
قال ثابت البناني رحمه الله (ما شئ أجده في قلبي ألذّ عندي من قيام الليل) وقال سفيان رحمه الله (إذا جاء الليل فرحت وإذا جاء النهار حزنت) وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله (لأهل الطاعة بليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا))، فسبحان مَنْ تفضَّل على عباده بهذا النعيم قبل لقائه فحباهم من الخير والفضل ما فضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً فحازوا أسباب السعادة واستمسكوا بطريق النجاة فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
قال بعضهم:
(مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها؟ قيل وما أطيب ما فيها قال محبة الله تعالى ومعرفته وذكره).
وقال آخر:
(إنه لتمر بي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
(إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة).
والحديث عن هذه المقاصد العظيمة والمطالب العالية المتعلقة بفضل قيام الليل وشأنه في حياة القلوب وعز النفوس وانشراح الصدور ونعيم الأرواح ومجاهدة النفس والهوى ودفع الأعداء أمرٌ يطول ذكره.
وليس القصد من هذه الرسالة الحديث عن ذلك فأذ كر من أدلة الكتاب والسنة وهدي أئمة السلف ما فيه صلاح الدارين والفوز بالحسنيين وإنما القصد تقييد بعض المسائل في أحكام قيام الليل وذكر أدلتها وبيان صحيحها من سقيمها واستنباط الأحكام منها فلا تطيب الحياة إلا بهذا، ولا يعظم العلم ويثمر إلا بالفقه الصحيح والعودة إلى الدليل وفهم مقاصد الشريعة وأسرارها وتسخير الجهود في ربط الوسائل بالمقاصد والغايات وتحرير الأفهام والأفكار من وهَدِ التقليد، وتغشمُر التعصب.
فالرأي المجرد عن البرهان حجر على العقول وغلق لباب الاجتهاد وسدّ لطريقه وتضييق على المسلمين وتجهيل لفهومهم وعقولهم وهذا لا يدل عليه شرع ولا يقره عقل وصاحبه بمعزل عن العلم ولا يسمى عالماً وقد ذكر الإمام ابن عبد البر وغيره الاتفاق على أن المقلد ليس معدوداً من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله وهذا حق لم يختلف فيه الناس، فلا يزال الأئمة في كل عصر ينعون على المقلد الأعمى ويذمونه ويبيّنون للناس ضرره وسوء فعله وشذوذ فتاويه فياويله إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور وقد أفتى وقضى بما يخالف الكتاب والسنة ورضى للناس رأيه ورأي إمامه ولم يرض لهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
تالله إنها فتنة عظيمة ومصيبة كبيرة هجر من أجلها القرآن وتركت السنة وظهرت الآراء والأهواء فالله المستعان، وهذه المسألة كبيرة ولها أبعاد ومرامي وتحتاج إلى بسط وشرح وهذا المقام لا يمكن فيه ذلك ولكن هذه لطائف وإشارات دعت إليها الحاجة فإنّ ما لا يدرك كله لا يترك كله.
هذا وقد ذكرتُ في هذا الكتاب مذاهب أهل العلم ولاسيّما الأئمة الأربعة ورجحت من أقوالهم ما يقتضي الدليل ترجيحه ونبهت على مسائل يكثر الجهل بها وأخرى ليس عليها دليل صحيح وكل هذا على وجه الاختصار وإليك البيان.
المسألة الأولى:
اعلم أن الأفضل في صلاة الليل الثلث الأخير لأنه وقت نزول الرب جل وعلا، والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وجاء في صحيح الإمام مسلم من طريق حفص وأبي معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ خاف أن لا يقوم آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر بالليل مشهودة وذلك أفضل)) وقال أبو معاوية محضورة.
ومَنْ قام أول الليل أو أوسطه فلا مانع من ذلك وفي كل خير غيرَ أن آخر الليل أفضل لأنه الأمر الذي استقر عليه فعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء في الصحيحين وغيرهما من طريق مسلم عن مسروق عن عائشة قالت: (من كل الليل قد أوتر رسول الله فانتهى وتره إلى السحر) وفي رواية لمسلم من طريق يحي بن وثّاب عن مسروق عن عائشة قالت: (من كل الليل قد أوتر رسول الله من أول الليل وأوسطه وآخره فانتهى وتره إلى السحر).
وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الوتر من بعد صلاة العشاء، سواء جمعت جمع تقديم مع المغرب، أو أخرت إلى منتصف الليل، وأما قبل صلاة العشاء فلا يصح على الراجح.
وقد جاء في مسند الإمام أحمد من طريق ابن هبيرة عن أبي تميم الجيشاني رضي الله عنه أن عمرو بن العاص خطب الناس يوم جمعة فقال: إن أبا بصرة حدثني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله زادكم صلاة، وهي الوتر، فصلّوها فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر...) إسناده صحيح، وقال عنه ابن رجب في فتح الباري (9/ 146) إسناده جيد، ومَنْ نام عن وتره أو نسيه، فله صلاته بعد طلوع الفجر، قبل صلاة الصبح.
فقد روى أبو داود بسند قوي والحاكم [1 / 302] وقال صحيح على شرط الشيخين من طريق محمد بن مطرف المدني عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره)، وهذا القول مروي عن جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول الإمام مالك، وقول للشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى.
وأما إذا فاته الوتر حتى طلعت عليه الشمس فقد قال بعض أهل العلم: يقضيه شفعاً، واستدلوا بما رواه مسلم في صحيحه (746) من طريق قتادة عن زرارة عن سعد بن هشام عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله إذا غلبه النوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة).
والقول الثاني في المسألة:
أنه يقضيه وتراً قاله طاووس ومجاهد والشعبي وغيرهم، وحجتهم في ذلك حديث أبي سعيد، وقد سبق ذكره، ولفظه (من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره) فهذا الخبر يدل على مشروعية قضاء الوتر بعد طلوع الشمس لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا ذكره) وقد قال الأوزاعي: (يقضيه نهاراً وبالليل ما لم يدخل وقت الوتر بصلاة العشاء الآخرة، ولا يقضيه بعد ذلك لئلا يجتمع وتران في ليلة.
وأما خبر عائشة السابق فقد قيل ليس فيه نفي الوتر، فلعله أوتر أول الليل مقتصراً على أقل العدد لغلبة النوم أو الوجع، فلما أصبح صلى قيام الليل، وفي هذا التوجيه نظر، ويبعد حمل حديث عائشة على أنه أوتر أول الليل فإن هذا الأمر لو حدث لبينت ذلك عائشة فإن هذا الحكم من الأهمية بمكان.
والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم لم يوتر.. وقول عائشة رضي الله عنها: صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة يدل على ذلك فإنه لو أوتر أول الليل لصلى من النهار عشر ركعات فقد قالت عائشة رضي الله عنها ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة)) متفق عليه.
ويجاب عن حديث أبي سعيد بأنه لم يقل بعمومه أحد من الصحابة والمنقول عن بعضهم الوتر بعد طلوع الفجر قبل صلاة الصبح فيحمل الحديث على قضاء الوتر في هذا الوقت فإنه لا تعارض بين قوله صلى الله عليه وسلم وفعله والله أعلم، وأما من ترك الوتر متعمداً حتى طلع الفجر، فالحق أنه قد فاته، وليس له حق القضاء، ففي حديث أبي سعيد وقد تقدم تقييدُ الأمر بالقضاء فيمن نام عن وتره أو نسيه، فدل مفهوم الخبر أن العامد بخلاف ذلك.
وقد روى ابن خزيمة في صحيحه (1092) من طريق أبي داود الطيالسي عن هشام الدستوائي عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له) وأصل الحديث في صحيح مسلم (754) بدون هذا اللفظ وهو محمول على التعمد دون النوم والنسيان في أصح أقاويل أهل العلم والله أعلم.
المسألة الثانية: (في عدد ركعات قيام الليل)
ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه لا يزيد في قيام الليل لا في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، فقد جاء في الصحيحين وغيرهما من طريق مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه أخبره أنه سأل عائشة رضي الله عنها كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلى أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلى ثلاثاً...).
قال ابن عبد البر رحمه الله:
(وأكثر الآثار على أن صلاته كانت إحدى عشرة ركعة)، وروى مالك في الموطأ بسند صحيح عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنه قال: أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة...)، وما جاء أن الناس كانوا يقومون في زمان عمر بن الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين ركعة، فلا يصح. رواه مالك وغيره بسند منقطع.
وجاء عند عبد الرزاق عن داود بن قيس وغيره عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أن عمر جمع الناس في رمضان على أبي بن كعب وعلى تميم الداري على إحدى وعشرين ركعة...)، وهذا الخبر غير محفوظ، ورواية مالك عن محمد بن يوسف بإحدى عشرة ركعة أصح من رواية داود.
وأهل العلم بالحديث يقدمون مثل مالك على من دونه بالحفظ فتقرر بهذا أن السنة عدم الزيادة على إحدى عشرة ركعة، لأن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، الذي داوم عليه ولم يذكر عنه خلافه وعليه جرى العمل في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه ووافقه عليه الصحابة ولم يأت عن أحد منهم شيء صحيح يخالف هذا وغاية ما يحتج به القائلون بسنية ثلاث وعشرين ركعة عمومات صحّ تقييدها، واجتماع الناس في عهد عمر على ذلك وهذا لا يصح والمحفوظ أنّه جمعهم على إحدى عشرة ركعة وقد تقدم على أن ترجيح هذا القول لا يجعل القول الآخر بدعة أو ضلالة فالمسألة اجتهادية والخلاف فيها محفوظ.
وقد قال أكثر أهل العلم بالزيادة ورأوا أن مَنْ صلى عشرين ركعة أو ثلاثاً وعشرين أو أكثر أنه مصيب ومأجور، وذكر الإمام ابن عبد البر رحمه الله إجماع العلماء على هذا فقال: (وقد أجمع العلماء على أن لا حدّ ولا شيء مقدراً في صلاة الليل وأنها نافلة فمَنْ شاء أطال فيها القيام وقلت ركعاته ومَنْ شاء أكثر الركوع والسجود)، غير أن البحث عن الراجح والعمل بالأفضل مطلب من مطالب الشريعة، وقد بينت السنة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي داوم عليه حتى فارق الحياة وجرى عليه عمل أصحابه من بعده أن قيام الليل إحدى عشرة ركعة في رمضان وغيره.
ولم يصح عن أحد منهم التفريق في رمضان بين أول الشهر وآخره على عادة الناس اليوم بل كانوا يقومون بهذا العدد طِوال حياتهم ويجتهدون في العشر الأواخر في الكيفية دون الكمية، فيطيلون القيام والركوع والسجود متلذذين بتدبر القرآن فهو حياة قلوبهم ومتنعمين بالوقوف بين يدي رب العالمين، ولم تكن همة أحدهم مصروفة إلى هَذّ القراءة ابتغاء بدعة يؤدونها آخر الشهر أو تكثير عدد الركعات والإخلال بالطمأنينة بحيث لا يمكن للمأموم متابعة إمامه إلا بمشقة وعناء نسأل الله العافية.
المسألة الثالثة: (في كيفية صلاة الليل)
ذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد وطائفة من السلف إلى أن صلاة الليل مثنى مثنى إلاّ ركعة الوتر، على خلاف بينهم هل هذا على الوجوب أم على الاستحباب، وحجتهم في هذا ما جاء في الصحيحين وغيرهما من طريق مالك عن نافع وعبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى) وقوله: (مثنى مثنى) معدول عن اثنين اثنين، والمراد أن تُسلّم في كل ركعتين قيل وجوباً وقيل استحباباً.
قال في المبدع:
فإن زاد على ذلك فاختار ابن شهاب والمؤلف أنه لا يصح، قال أحمد فيمن قام في التراويح إلى ثالثة: يرجع وإن قرأ، لأن عليه تسليماً، ولابد، للخبر، وعنه يصح مع الكراهة، ذكره جماعة، وهو المشهور، سواء علم العدد أو نسيه) وعنه لا يكره وهو مذهب أبي حنيفة قال رحمه الله في صلاة الليل (إن شئت ركعتين وإن شئت أربعاً وإن شئت ستاً وثمانياً لا تسلم إلا في آخرهن) والأفضل في مذهبه صلاة أربع بسلام واحد لخبر عائشة في الصحيحين حين سألها أبو سلمة بن عبدالرحمن عن كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل قالت: يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً).
وهذا الحديث مجمل ليس فيه التصريح بصلاة أربع بسلام واحد والاحتمال فيه وارد وإن كنت استظهر فيه الأربع بسلام واحد جرياً على الأخذ بالظاهر حتى يرد لفظ صريح يخرجه عن ذلك، وحديث ابن عمر ((صلاة الليل مثنى مثنى)) لا يدل على وجوب التسليم في كل ركعتين ولفظه لا يساعد على ذلك فيحمل على الاستحباب وأنه الأكثر استعمالاً.
وغيره من الأحاديث تحمل على السنية في بعض الأحيان، والعبادات الواردة على وجوه متنوعة يعمل بها كلها وهذا أفضل من المداومة على نوع وهجر غيره فإن هدي النبي صلى الله عليه وسلم عمل الأمرين على أن المداومة على نوع مراعاة للمصلحة ودرءاً للمفسدة قد تكون أفضل في وقت دون آخر كما أن المفضول يكون فاضلاً وهذا أمر عام في كل العبادات الواردة على هذا الوجه والقول الجامع فيها مراعاة المصالح وهذا يختلف باختلاف الأحوال والبلاد والأشخاص والله أعلم.
وهل يتشهد في الركعتين أم يصلي الأربع بتشهد واحد، لا أعلم في ذلك دليلاً والأظهر فيها التخيير، إن شاء صلى أربعاً بتشهد واحد، وإن شاء تشهد تشهدين، ولا يسلم إلاّ في آخرهن.
وأما الوتر:
فله أن يوتر بركعة، لحديث ابن عمر السابق (فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة...) متفق عليه، وعند مسلم من طريق شعبة عن قتادة عن أبي مجلز قال: سمعت ابن عمر يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الوتر ركعة من آخر الليل) وإن صلى قبلها شفعاً فهذا أفضل.
وله أيضاً الوتر بثلاث وخمس وسبع وتسع إلاّ أنه إذا أوتر بثلاث لا يتشهد تشهدين، بل يقتصر على التشهد في آخر الصلاة، والسنة أيضاً لمَنْ صلى تسع ركعات أن لا يجلس فيها إلاّ في الثامنة فيجلس ويذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض بدون سلام ثم يصلى التاسعة ثم يسلم، والحديث في صحيح مسلم من حديث عائشة وجاء في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعدما سلم وهو قاعد.
والتنويع في هذه الصيغ أفضل محافظة على السنة واتباعاً للنصوص الواردة في هذا الباب، والكل سنة بما في ذلك قيام الليل والوتر إلاّ أنه سنة متأكدة، كما هو قول جماهير العلماء من الصحابة والتابعين، وهو قول مالك والشافعي وأحمد، والأخبار في هذا متكاثرة، وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى وجوبه وقال غيره: واجب على أهل القرآن، والراجح قول الجمهور، وأنه سنة على عامة المسلمين.
وقد روى أبو داود في سننه من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبدالله بن الصُنابِحِيّ قال: زعم أبو محمد أن الوتر واجب، فقال عبادة بن الصامت: كذب أبو محمد، أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس صلوات افترضهن الله عز وجل مَنْ أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له، ومَنْ لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه) سنده صحيح.
ورواه أبو داود أيضاً من طريق محمد بن يحيى بن حبان عن ابن محيريز أن رجلاً من بني كنانة يدعى المخدجي سمع رجلاً بالشام يدعى أبا محمد يقول: إن الوتر واجب...).
وأما حديث أبي أيوب الأنصاري مرفوعاً: (الوتر حق على كل مسلم) فلا يصح إلاّ موقوفاً، قاله أبو حاتم والذهلي والدارقطني وغيرهم، قال ابن حجر: وهو الصواب.
وأما حديث بريدة مرفوعاً: (الوتر حق فمَنْ لم يوتر فليس منا) الحديث رواه أبو داود وغيره، فإنه خبر لا يصح، في إسناده عبيد الله بن عبدالله العتكي، قال عنه البخاري عنده مناكير، وقال العقيلي لا يتابع على حديثه ولا يعرف إلاّ به، وقال ابن حبان يجب مجانبة ما ينفرد به.
وأما حديث علي مرفوعاً: (يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر) ففي صحته نظر فقد رواه أبو داود من طريق زكريا وأبو داود والنسائي وابن ماجه من طريق أبي بكر بن عياش كلاهما عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي به ورواه سفيان الثوري وغيره عند الترمذي والنسائي عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي رضي الله عنه قال: (الوتر ليس بحتم كهيئة الصلاة المكتوبة ولكن سنة سنَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا هو المحفوظ فإن سفيان أحفظ وأضبط من كل من رواه عن أبي إسحق قال الترمذي (2/ 317) في جامعه وهذا أصح من حديث أبي بكر بن عياش.
فترجح من هذا قول الجمهور أن الوتر سنة وليس بواجب على أنه لو صح ليس نصاً في المسألة فقد دلت أحاديث أخرى على عدم الوجوب فيحمل هذا الخبر على تأكد السنية والله أعلم.
يتبع إن شاء الله...